8 - ووجدنا ما جاءت به النبوة ومنفعته في ثلاثة أشياء : أحدها : إصلاح الأخلاق النفسية وإيجاب التزام حسنها : كالعدل والجود والعفة والصدق والنجدة في موضعها ، والصبر والحلم والرحمة ، واجتناب سيئها كأضداد هذه التي ذكرنا . وهذه منفعة عظيمة لا غنى لساكني الدنيا عنها ، ولا شك في العقل في أن صلاح النفس ومداواتها من فسادها ، أنفع من مداواة الجسد وإصلاحه ، لأن مداواة الجسد تابعة لمداواة النفس . إذ في مداواة النفس إيجاب ألا يدخل الإنسان على جسده ما يؤلمه بالمرض ، فيقطع به عن مصالحه [ 143 ب ] . وما عم إصلاح النفس والجسد معا أفضل وأولى بالاهتبال به مما خص إصلاح الجسد فقط - هذا برهان عقلي ضروري حسي .
9 - ولا يمكن ألبتة إصلاح أخلاق النفس بالفلسفة دون النبوة ، إذ طاعة غير الخالق - عز وجل - لا تلزم . وأهل العقول مختلفون في تصويب هذه الأخلاق ، فذو القوة الغضبية التي هي غالبة ( 1 ) على نفسه لا يرى من ذلك ما يراه ذو القوة النباتية ( 2 ) الغالبة على نفسه ، وكلاهما لا يرى من ذلك ما يرى ذو القوة الناطقة الغالبة على نفسه ( 3 ) .
10 - والوجه الثاني من منافع ما جاءت به النبوة : دفع مظالم الناس الذين لم تصلحهم الموعظة ولا سارعوا إلى الحقائق ، وحياطة الدنيا والأبشار والفروج والأموال ، والأمن على كل ذلك من التعدي والغلبة وكفاية من ضاع ولم يقدر على القيام بنفسه . وهذه منفعة عظيمة جلليلة ، لا بقاء لأحد في هذه الدنيا ، ولا صلاح لأهلها إلا بها . وإلا فالهلاك لازم والبوار واجب . وليست كذلك منفعة العلوم التي قدمنا قبل ، وقد قدمنا أنه لا سبيل إلى منع التظالم ولا إلى إيجاد التعاطف بغير النبوة أصلا ، لما ذكرنا من أن طاعة غير الخالق تعالى لم يقم برهان بوجوبها ، ولأن الفسوق ومختلفة الأهواء لا ينقاد بعضها إلى بعض .
11 - والوجه الثالث من منافع ما جاءت به النبوة هو التقدم لنجاة النفس فيما بعد خروجها من هذه الدار ، من الهلكة التي ليس معها ولا بعدها شيء من الخير ، لا ما قل ولا ما كثر ، ولا سبيل ألبتة إلى معرفة حقيقة مراد الخالق منها ولا إلى معرفة
صفحه ۱۳۴