الباب الأول في ما صدر به الرسالة من الشكوى
[[[ قال إبليس لعنه الله ]]]
أما بعد , معاشر إخواني - كثر الله عددكم أطال أمدكم - لقد علمتم وأيقنتم انه لا موافقة فوق موافقة الاعتقادات ولا مطابقة أعظم من المطابقة في الديانات , جبلت القلوب على حبها حتى يتواصل فيها الأجانب ويتقاطع عليها الأقارب , ووافقت في ذلك الشريعة الطبيعة فوردت فيها الآيات والأخبار والنصوص والآثار ونطق به الكتاب واتفق عليه ذوو الألباب , فقال الله تعالى : {إنما المؤمنين إخوة } و{ المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } و{ المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض } .
ورووا أن النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ قال لأبي ذر : أتدرى أي عرى الإسلام أوثق ؟ قال الله ورسوله اعلم , قال : الموالاة في الله والمعاداة في الله والحب في الله والبغض في الله .
وقال شاعرهم :
إن لم يكن بيننا قربى فآصرة في الدين اقطع فيه الوالد الولدا
وقد علمتم أن نوحا لما سأل ربه أن يبقي ابنه أجيب { أنه ليس من أهلك }لمخالفته لك في دينك {فكان من المعوقين } مع الكافرين وأن لوطا بشر بالنجاة {إلا امرأته كانت من الغابرين }, وإبراهيم لأجل الدين خالف أباه ,وأشرك موسى في النبوة أخاه , وأن آسية تبرأت من فرعون وإن عذبت بالأوتاد , وحزبيل تبرأ منه وقال {أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم } , وأن أبا لهب عد أجنبيا وإن كان هاشميا , وعد سلمان أهليا وإن كان فارسيا, كل ذلك بناء على الموافقة في الشريعة والتناصر في الملة والتقارب في النحلة .
صفحه ۸
ولقد علمتم معاشر إخواني ما بيني وبينكم من موافقة الاعتقاد وما يجمعني وإياكم من خلوص الوداد , فإن اعتمادي عليكم واعتدادي بكم وانقطاعي إليكم , وأنتم الذابون عني والسالكون على سنتي , فينوبني ما نابكم ويريبني ما رابكم , فأنتم مني وأنا منكم , وكأن الشاعر عبر عنا وعنانا بقوله :
أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته وإذا أبصرته أبصرتنا
وقد علمتم معاشر إخواني ما لقيت ولقيتم من هؤلاء المعتزلة قديما وحديثا . ولقد عظمت فتنتهم واشتدت شوكتهم وعلت كلمتهم وظهرت مقالتهم وحجتهم وكنت أحسبهم في الإنس فإذا هم في الجن أكثر ومذاهبهم أظهر وعددهم أوفر , قد طبقوا البر والبحر والسهل والوعر , فلا بلد إلا ولهم فيها داع ومدرس وخطيب ومصنف يصرخون بمذاهبهم على المنابر ويملؤون الدنيا بالكتب والدفاتر . وقد جمعت بينهم وبين إخواني من مجبرة الجن كثيرا ودبرت مع خواصي في شأنهم تدابير فلم ينفذ لي فيهم حيلة ولا مكيدة . كنت أطمع في كل مرة أن نفحمهم فأفحمونا وأرجو أن نقطعهم فقطعونا وأؤمل أن نفضحهم ففضحونا , وبلغ من أمرهم أن قابلوني بقبيح الفعال وجبهوني وإياكم باللعن وسوء المقال .
وفي كل ذلك أنتم الذابون عني والمناضلون دوني . ولكن لا ينفع معهم التوازر والقتال ولا ينجع فيهم المقال . إن قاتلنهم هزمونا وإن قاولناهم أفحمونا وإن تركناهم لعنونا , إن قلنا نحسن العشرة تلوا : {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله } , وإن طلبنا الموافقة قرأوا : { قل يا أيها الكافرون } وإن رمنا المصالحة تلوا : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله } وأنشدوا :
صفحه ۹
ليس بيني وبين قيس عتاب غير طعن الكلا وضرب الرقاب وإذا قلنا لهم دعوا ما أنتم فيه فقد وقعتم في التيه , قالوا أشيء نقدر على تركه ؟ فإن قلنا : نعم. قالوا: تركتم المذهب . وإن قلنا: لا ،سخروا منا واستهزأوا بنا فإذا السكون أحرى . ولقد ضاق صدري وعيل صبري , وقد كتبت إليكم إخواني في ما جرى بيني وبينهم من المقامات وما لقيت ولقيتم من النكايات , تحقيقا لما ذكرت وتصديقا لما قدمت , لنكون يدا واحدة عليهم متعاونين على دفعهم .
ولقد علمتم إخواني أن من الواجب في الدين نصيحة الإخوان والأتباع وبذل الأمانة للأشياع . ألا وإني أبلغكم مالا تعلمون , وأنصح لكم وأنا لكم ناصح أمين . فاجتنبوا مجالسهم ومدارسهم , ولا تستمعوا إلى كلامهم ومواعظهم , وجنبوا أشياعكم وعوامكم ونساءكم وصبيانكم , فإن لكلامهم حلاوة وعليه طلاوة تحير ذوي الألباب وتدخل في القلب بلا حجاب . ومن عظيم فتنتهم أن سمو ا أنفسهم بالموحدة العدلية وسمونا بالمجبرة القدرية , فرمونا بالإلحاد ونسبونا إلى الفساد .
صفحه ۱۰
ولقد مررت بقاص من الجن يتكلم في قوله تعالى : { وجاهدوا في الله حق جهاده } وهو يقول : يا معشر الجن! الجهاد أربعة : جهاد النفس بالصبر عن العصيان , وجهاد الكفار بالسيف والسنان , وجهاد أهل البدع بالحجة والبرهان , وجهاد أهل الكبائر بالموعظة والبيان . ثم قال : أما جهاد النفس فقد قال الله تعالى :{وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى } وأنه تعالى قدم الحجة وبين المحجة وأعطى الآلة وأزاح العلة , ووعد وأوعد , فكل من عصى فمن قبل نفسه أتي , وأن العبد مخير {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } . وأما جهاد الكفار وأرباب الضلال فمن أعظم الطاعات , قال الله تعالى : { وجاهدوا في الله حق جهاده } وهو من دعائم الإسلام وأركان الدين . وأما جهاد أهل البدع _وهم المجبرة والمشبهة _فمن أهم الأمور وفرض على الجمهور , وقد قال الله تعالى : { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن } , فلا فتنة اكبر من فتنتهم ولا ضلالة اعظم من ضلالتهم , حيث شبهوا الله بخلقه وأضافوا القبيح إلى صنعه , وقد بلغنا من رسول الله _ صلى الله عليه وآله وسلم _ في ذم المبتدعة آثار جمة , فقال _ صلى الله عليه وآله وسلم _ من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام , وقال لعائشة وقد سألته عن قول الله تعالى : {إن الذين فرقوا دينهم } من هم ؟ قال _صلى الله عليه وآله وسلم _ : هم أصحاب البدع من هذه الأمة , يا عائشة ! لكل ذنب توبة إلا أصحاب البدع فإنه ليست له توبة , أنا منهم بريء وهم مني براء . وأما جهاد أهل الكبائر فقوله تعالى : {وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك } . والقوم حوله يبكون وإياي وإياكم يلعنون . فأخذني ما قرب وما بعد , لا أقدر على منع ولا أجد عونا على دفع .
صفحه ۱۱
ولقد مررت بقاص منهم يقص والقارئ يقرأ : {ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة } وهو يقول : بلغنا عن الحسن وجماعة من العلماء أن قالوا : يؤتى بالشيطان يوم القيامة فيقال له : هلا سجدت إذ أمرت ؟ قال : فيقول الشيطان ما قدرت عليه ولا مكنت منه وحيل بيني وبين السجود وخلق في الإباء , ولو خليت لسجدت . فيقال له كذبت بل من نفسك أتيت . فيقول لي شهود يشهدون على ما قلت , فينادي : أين شهود الشيطان وخصماء الرحمن ؟ فيقوم جماعة من المجبرة فيقولون : صدق الشيطان , فيشهدون له , فيخرج من أفواههم دخان اسود تسود وجوههم ثم يبعث بهم معه إلى النار . وذكر عن علي _عليه السلام _ حديثا طويلا أن المجبرة خصماء الرحمن وشهود الشيطان وقدرية هذه الأمة ومجوسها . والقوم يرفعون أصواتهم باللعن علي وعليكم , ويقولون لعن الله الشيطان وأتباعه وأشياعه . فقال بعض المشايخ ممن كان معي : أيها الشيخ ! إليك المشتكي في عظيم هذه البلوى , دبرنا في أمرهم . فقام معتزلي من ا لجن , فقال : التدبير هو الصبر أو القبر . ثم أنشاء يقول :
رب من أشجاه ذكري وهو لم يخطر ببالي
قلبه ملآن من بغ ضي وقلبي منه خالي
لقد مررت بقاص من أصحابنا شيخ كبير وحوله جماعة من أصحابنا المجبرة وهو يقص , فقرأ قارئ قوله تعالى : { وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين } .
صفحه ۱۲
فقال ذلك الشيخ : أيها القوم ! الصدق منجاة , وما ذنب الشيطان في الوسوسة ؟ وما ذنب آدم وحواء في أكل الشجرة ؟ أما علمتم أن الله خلق الوسوسة في الشيطان ومنعه من خلافها , وأرادها منه وقضاها عليه , وخلق الأكل فيهما ولم يقدرا على تركه وأراد منهما الأكل ثم يقول : { ألم أنهكما عن تلكما الشجرة } , ومن الشيطان حتى يقدر على شيء ؟ ومن آدم وحواء حتى يقدرا على أكل الشجرة ؟ الكل من الله . وبكى وبكى الناس حوله وقالوا : صدقت ! فقام من غمار الناس معتزلي أخذته الرعدة وعينه تفيض من الدمع , وقال أف لكم يا معشر المجبرة وسوأة لكم ! أتبرئون الشيطان وتوركون الذنب على الرحمن ؟ أما تستحيون من ربكم ؟ أما لكم عقل يردعكم ؟ أما لكم دين يمنعكم ؟ { أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون }وارتفعت الضجة وتفرق الناس , وأنا شاكر لسعيكم ذاكر لما كان منكم .
صفحه ۱۳
واجتمع عندي المشايخ يوما يتذاكرون . فقام معتزلي من الجن وقال : يا قوم لم لم يسجد هذا الشيطان لآدم وقد أمر به ؟ فقالوا : لأنه منع منه بموانع كثيرة , لم يخلق الله فيه السجود ولا أراده ولا قضاء ولا أقدره عليه , بل خلق فيه تركه وأراده وقضاه وقدره , وخلق فيه القدرة الموجبة لتركه وأغراه بتركه وزين ذلك في قلبه , ثم كلفه ما لا يقدر عليه , فما ذنب هذا المسكين ؟ فقال المعتزلي : فلماذا لعنه وعاقبه؟ فقالوا : الملك ملكه , لو عاقب آدم وسائر الأنبياء والأبرار وأثاب فرعون وسائر الكفار كان عدلا منه . فقال لهم : بعدا لكم وسحقا مع هذه المقالة ! فقصدوه بالنعال فهرب . وعرفتم حقي وحميتم ذماري . ولقد جمعني وإياكم وإياهم مجلس فقراء قارئ : {ألم أعهد إليكم يا بني أدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين . وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم . ولقد أضل منكم جبلا كثيرا } فقال صدر من صدور المجبرة وشيخ من مشايخهم : ما ذنب هذا المسكين يلعنه ويوبخه ؟ أليس خلق فيه العداوة والإضلال , فما بال هذا الاعتلال ؟ فقال القوم : صدقت ! فقام معشر من المعتزلة وقالوا : كذبت وكذبوا ! بل الله بريء من ذلك . ولعنوني وإياكم , وارتفعت الضجة , وتعدى المقال إلي القتال , وتفرقنا ونحن على شر حال .
وحضرني مشايخ يوم عيد وشكوا المعتزلة وقالوا : فعلوا بنا كذا وكذا وقالوا لنا كذا , وإذا واحد من غمار الناس يصيح ويقول : من فعل ذلك ومن قاله ؟ انحن فعلناه فقد تركتم مذهبكم , أم الله فعله , فارضوا بقضائه وإلا كفرتم .
صفحه ۱۴
ولقد علمتم ما فعل الناقص بأخينا الوليد حين خرج عليه في الغيلانية , وسمعتم ما فعل من الأفاعيل بالمروانية , وبلغكم ما فعلوا بأصحابنا في أيام العباسية , وما فعلوه المأمون وأقرانه بنا من تشتيت كلمتنا والإغراء بأهل مقالتنا , وما جراء من القتل والصلب في أيام ابن أبي دؤاد , وما كان من قطع الألسن في أيام ابن عباد , وما كان من نصرة العلوية الخارجين في نصرة الاعتزال , وما جرى على أصحابنا من ملوك آل بويه من الإذلال , ثم ما كان في أيام ركن الدولة من محن جمة وبلية وغمة من شيخ مصفوع ومجلس مرفوع ومذهب مدفوع . ولقد اجتمعت معتزلة الجن علي وعلى أتباعي وأعواني وأشياعي وأخواني بالمقال والفعال , فنحن بين ثلاث : بين فقيه منبره منكوس وحظه مبخوس ونجمه منحوس , وبين ثان في السجن محبوس وله من الذل والصغار ملبوس , وبين ثالث ترك عمره ودخل بغمه قبره , فأليكم المشتكي وبكم المستعان .
صفحه ۱۵
الباب الثاني في التوحيد والتشبيه
فكرت وقلت : مدار هذا الأمر على التوحيد وبذلك باينت هذه الفرقة سائر الفرق وهذا الدين سائر الأديان , وعلمت أن مما اجمعوا عليه وعلم من دين الرسول _صلى الله عليه وآله وسلم _ ضرورة أن الله تعالى واحد لا ثاني له ولا شبه له ولا مثل له , وأني إن ألقيت إليهم خلاف ذلك لا يقبلونه , فدبرت وأتيتهم من خلفهم وعن إيمانهم وعن شمائلهم كما وعدت , وقلت : لابد لهذا الأمر من تحصيل ولهذه الجملة من تفصيل . ألقيت إليهم التثنية والتثليث معنى وإن خالف لفظا , وقلت : إن مع الله قدماء : قدرة قديمة وعلم قديم وحياة قديمة حتى ألقيت أن القدماء تسعة وأكثر .
فقبلتم عني أحسن قبول وصنفتم فيه الكتب ودرستم بذلك في المدارس وناظرتم فيه بالمجالس . غير هؤلاء المعتزلة من الجن والأنس فإنهم آبوا اشد الإباء وقابلوني بالعداوة والبغضاء , وقالوا : هذا موافقة للمانوية في التثنية وللنصارى في التثليث , وللطبائعية في قدم الطبائع الأربعة , وللمنجمين في القول قدم الكواكب السبعة . وإنما الدين القويم بأن الله واحد قديم وما سواه محدث فهذا موافقة جمل دين المسلمين وما أتى به خاتم النبيين . وزاد شيخنا أبو عبد الله بن الكرام حتى عد قدماء كثيرة وسماها أعراضا وأغيارا . فكفرهم المعتزلة بذلك , وذكروا في ذلك حججا وتلوا : { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا اله واحد } وذكروا أن نصرانيا كان يناظر بالكلام في الكلام , فإذا أتاه مجبر قال : أليس أن الله خلق في الكفر وأنا لا اقدر على تركه ؟ فيقول : نعم , فيقول : فما معنى مناظرتك لي ؟ وإذا أتاه مشبه قال : أنت يا أخي زدت علي ! فإني قلت ثالث ثلاثة وأنت تقول رابع أربعة وخامس خمسة وتاسع تسعة , وإذا جاء المعتزلة قال : خذ السلاح وآخذه فالقتال بيني وبينك .
صفحه ۱۶
فصل
فكرت وقلت : إن ألقيت إليهم عبادة الوثن لا يقبلون , فألقيت ما هو في معناها وهو أن الله ذو صورة وأعضاء , له وجه وجنب ويد وساق وعين ولسان , وأنه جسم . أما المعتزلة فقابلوني بالرد وقالوا : هذه عبادة الأوثان ونعوذ بالله من نزغات الشيطان , وذكروا أن الله تعالى ليس بجسم ولا عرض ولا يشبه شيئا , وأنه تعالى ليس له أعضاء ولا أكفاء ولا أنداد ولا أضداد , وأنه واحد { ليس كمثله شيئا وهو السميع البصير } , وأنه لو كان جسما لكان مؤلفا مركبا مصورا محدثا _تعالى الله عن ذلك .وأما انتم فقبلتم احسن قبول وصنفتم فيه التصانيف ورويتم فيه الأحاديث ووضعتم فيه الأسانيد , وفصلتم عضوا عضوا وجعلتم لكل عضو بابا ودونتم في كل باب كتابا وسميتموها مذاهب السنة والجماعة .
فسئل شيخنا الهليجي عن قوله تعالى : { ليس كمثله شيء } ما معناه مع قولك إنه جسم ذو أبعاض وأعضاء ؟ فقال : هذا لا معنى له ؟
وسئل أحمد بن العباس عن قوله تعالى : {وإن له عندنا لزلفى } , قال: هو الدنو . وكان يقول بالمؤانسة والمجالسة والمحادثة والخلوة .
وسئل بعضهم عن قوله تعالى : { عند مليك مقتدر } فقال : يقعده معه على سريره ويعلفه بيده .
وسأل بعضهم معاذ العنبري : أله وجه ؟ قال : نعم . قلت : فعين ؟ قال: نعم , حتى عددت جميع الأعضاء من أنف وأذن وصدر وبطن وهو يقول نعم, فاستحييت أن اذكر الفرج فأوميت بيدي إلى فرجي , فقال : نعم !! فقلت : ذكرا أو أنثى ؟ قال : ذكر !!! ففرح القوم .
غير هؤلاء المعتزلة فإنهم لعنوه وكفروه ولقد شكرنا جميعا سعي ابن خزيمه في تصنيفه كتابا في أعضاء الله , وذكره ما شهد به . وذكر بعض أصحابنا أنه أشكل عليه من أعضاءه الفرج وقال : لا نجد ذلك في الكتاب والسنة أنه ذكر أو أنثى , فقيل له أنه أنزل في كتابه : { وليس الذكر كالأنثى } , فقال : أفدت وأجدت ! وأودعه كتابه .
صفحه ۱۷
ودخل إنسان على معاذ بن معاذ في أيام التشريق _ وهو شيخ جليل من مشايخنا _ وبين يديه لحم سكباج يأكله , فسأل عن مسألة التشبيه , فقال : هو والله مثل الذي بين يدي , لحم ودم !! .
وشهد معتزلي عند معاذ بن معاذ وعدل , فقال : لقد أحببت أن أسقطك لكنك عدلت , لأني سمعت أنك تلعن حماد بن سلمة . فقال : أما حماد فلم ألعنه , ولكن ألعن من روى أنه تعالى ينزل يوم عرفة على جمل أحمر في قميص من ذهب , فإن كان حماد يروي هذا فهو ملعون . فقال: أخرجوه ! فأخرجوه .
وعن محمد بن أبي الأسود خرجنا إلى المصلى يوم العيد , وإذا جماعة مع الأمير يضرب بالطبول ويؤتي بالأعلام . فقال واحد من خلفنا : اللهم لا طبل إلا طبلك ! فقيل له : لا تقل فليس لله طبل . فبكى وقال : أرأيتم هو يجيء وحده ويجلس وحده ولا يضرب بين يديه طبل ولا ينصب له علم؟ إذا هو أدون من هذا الأمير !!! فأنظر كيف رد على هذا المعتزلي .
وروى مشايخنا أنه تعالى أجرى خيلا فخلق نفسه من عروقها , وأنه لما أراد خلق آدم نظر في الماء فرأى نفسه فخلق آدم على صورته .
ورووا أنه تعالى يضحك حتى تبدوا نواجذه .
ورووا أنه أمرد جعد قطط في رجليه نعلان من ذهب , في روضة خضراء على كرسي تحمله الملائكة , وأنه يضع رجلا على رجل ويستلقي وأنها جلسة الرب .
ورووا أنه خلق ملائكته من زغب ذراعيه .
ورووا أنه يحاسب الناس يوم القيامة وهو على صورة آدم .
ورووا أن له حجبا يحجبونه .
ورووا أنه اشتكت عينه فعادته الملائكة .
ورووا عن النبي _ صلى الله عليه وعلى آله وسلم _ قال : ( رأيت ربي في أحسن صورة فسألته في ما يختلف الملأ الأعلى فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها فعلمت ما اختلفوا فيه ) .
ورووا أنه ينزل إلى السماء الدنيا في النصف من شعبان .
ورووا أنه جالس على العرش وقد فضل منه أربع أصابع فيقعد معه النبي _ صلى الله عليه وعلى آله وسلم _ وذلك المقام المحمود .
صفحه ۱۸
ورووا أنه يأتي يوم القيامة فيقول أنا ربكم ! فيقولون : نعوذ بالله منك ! فيقول : أتعرفونه إن رأيتموه ؟ فيقولون بيننا وبينه علامة فيكشف لهم عن ساقه وقد تحول في الصورة التي هو عليها فيعرفونه .
ورووا أن العرش إذا رضي الله خف وإذا غضب ثقل فيعرف بذلك حملة العرش غضبه ورضاه .
ورووا أنه يأتي في غمام تحته هواء وفوقه هواء .
ورووا أن له خنصرا وبنصرا وإبهاما , فتركوا السبابة والوسطى وعدوا بأصابعهم .
وقال بعض المعتزلة يوما _ وقد حضر مجلسنا _ : أنتم يا معشر المشبهة تروون الحديث وضده , كما قال بشر بن المعتمر :
يروي أحاديث ويروي نقضها مخالف بعض الحديث بعضها
ثم تصححون الجميع ولا تعرفون وتروون مالا تعلمون . مثلكم كما قال الله تعالى : { كمثل الحمار يحمل أسفارا } . ثم أخذ في رواية معايب مشايخنا فقال : من عجيب أمركم أن شيخا من شيوخكم روى حديثا فقال : حدثني فلان عن فلان عن النبي عن جبريل عن الله عن رجل ! فقيل : هذا لا يكون . فنظروا فإذا هو عز وجل .
وذكر الفقيه أبو الأسود أنه كان بطبرستان قاص يقص من المشبهة , فقال يوما في قصصه: إن يوم القيامة تجيء فاطمة ومعها قميص الحسين تلتمس القصاص من يزيد , فلما يراها الله من بعيد يقول ليزيد : أدخل تحت العرش لا تظفر بك فاطمة , فيدخل ويختبأ وتتظلم فاطمة بين يدي الرب وتبكي , فيقول لها الرب : يا فاطمة ! انظري إلى قدمي به جرح من سهم نمرود وقد عفوت عنه فاعف عن يزيد , فعفت عنه .
وروى آخر حديثا فقال : وجدت في كتابي < الرسول > ولا أجد < الله > فاكتبوا : شك الشيخ في الله !!!!
صفحه ۱۹
ومرض أبو علي الحافظ النيسابوري , فدخل عليه أبو القاسم الزجاجي يعوده , فأخرج إليه كتاب وصية يشهده عليه , فقال : هذه وصية لابنتك وهذا لا يجوز , قال : لا نأخذ بقياسكم وإنما نقول بالأحاديث . فقال : ليس هذا بقياس , هذا نص رسول الله _ صلى الله عليه وعلى آله وسلم _ : ( لا وصية لوارث ) . قال : هذا الحديث معي مكتوب مسموع بستة عشر إسنادا لكن لم اعرف أن الوصية للبنت لا تجوز .
ودخل بعض الفقهاء على يحيى بن معين , فلما خرجا من عنده سئل عنه فقال : دينه شك وفتياه وقف وكلامه طعن ! قيل : كيف ؟ قال : إذا قيل له أمؤمن أنت ؟ قال : إن شاء الله , وإذا سئل عن مسألة روى أقاويل الناس , فإذا قيل له بما تأخذ ؟ وقف , وإذا قيل له قتادة قال قدري , وإذا قيل جابر قال رافضي .
ثم أنشأ يقول :
ولابن معين في الرجال مقالة سيسأل عنها والمليك شهيد
فإن كان صدقا فالمقالة غيبة وإن كان كذبا فالعذاب شديد
وأنشد بعض المعتزلة يوما بحضرة جماعة من مشايخنا , مشافها لهم :
يا خائضا في غمرة الشكوك مفكرا في صفة المليك
كفكرة المشبه الركيك فكرك فيه مالك الملوك
ومالك ليس بذي شريك لا يدرك المالك بالمملوك
وحضرت يوما مجلسا قد جمعهم وإيانا , فقال بعض المعتزلة لبعض المشبهة : أتقولون لله يد ؟
قال : نعم .
قال : لم ؟
قال : لقوله تعالى: {يد الله فوق أيديهم } .
قال : فقل له يدان لقوله تعالى : { بل يداه مبسوطتان }.
قال : كذا نقول .
قال : فقل له ثلاثة أيدي لقوله تعالى : {مما عملت أيدينا }.
فانقطع ...
ثم قال له : أتقول له عين ؟
قال : نعم .
قال : لم ؟
قال : لقوله تعالى : {ولتصنع على عيني }.
فقال له : فقل له أعين لقوله تعالى { تجري بأعيننا } .
ثم قال : ألستم تقولون أن كلتا يديه يمين ؟
قال : بلى !!
صفحه ۲۰
قال: وهل شيء أقبح من هذا ؟
فانقطع .
ولما فشي ذكر الصورة والأعضاء بين مشايخنا وقامت المعتزلة في الرد عليهم وصنفوا الكتب , ألقيت إلى كثير منهم أن المجادلة في الدين حرام وأن الحق في التقليد , وإن الواجب ألا يلتفت إلى كلام المعتزلة وجدالهم , فالصواب في التمسك بما ألفيتموه عن سلفكم . فأما داود واحمد وابن راهويه وأمثالهم فقبلوا قولي وصوبوا رأيي وأقاموا على اعتقادهم , وأما القلانسي وابن كلاب وطبقتهما فرأوا أن شيئا من ذلك لا يصح على النظر فأوقعوا أنفسهم في تيه مجادلة المعتزلة . فقلت لابد من تدبير , فألقيت إليهم أن اليد ليس هو الجارحة وإنما هو صفة للباري , وكذلك العين والساق والجنب صفات , وأن الاستواء على العرش ليس هو الاستقرار ولكن صفة له .
فقالوا : أحسنت أنت ! وطلبقوني ودمعزوني وناظروا في ذلك ودونوا وصنفوا .
وأنكرت المعتزلة ذلك أشد الإنكار , وبدأوا بالرد علي وعليكم بأن هذا لا يعقل وهو فاسد لا دليل عليه , وهل هذا إلا نصرة عباد الأصنام وهدم الإسلام . والله المستعان .
صفحه ۲۱
فصل
فكرت وقلت : ليس في إثبات التشبيه أمر أقوى من إثبات الرؤية, فألقيت إليهم أنه تعالى يرى , فوافقتموني فيه وقررتم عيني ورويتم فيه الأحاديث ووضعتم الأسانيد , ورويتم أن محمدا _صلى الله عليه وعلى آله وسلم _ رأى ربه ليلة المعراج وأنه قعد معه على عرشه , وتأولتم الآيات على ذلك .
وقامت المعتزلة في الرد علي وعليكم , وقالوا الرؤية توجب التجسيم والتجسيم يوجب الحدوث , واحتجوا بقوله تعالى : { لا تدركه الأبصار } وبقوله : { لن تراني } ورووا عن عائشة أنها سئلت هل رأى محمد ربه ؟ فقالت : لقد قف شعري مما قلت ثلاثا ! من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله ورسوله وقد قال الله تعالى : { لا تدركه الأبصار } ومن زعم أنه يعلم ما في غد وقد قال تعالى : { وما تدري نس ماذا تكسب غدا } ومن زعم أنه لم يبلغ شيئا وقد قال تعالى : { بلغ ما أنزل إليك من ربك } وعنها وقد سئلت عن ذلك فقالت : أنا أول من سأله عن ذلك فقال : رآه قلبي ولم تره عيناي . ثم زادت المشايخ , فقالت الحنابلة بالمجالسة والمصافحة , وقالت الكرامية بأنه يرى من فوق كما ترى السماء .
ولما قامت المعتزلة بالرد عليهم في ذلك وعلم شيخنا الأشعري أن ذلك لا يتم على النظر قال : يرى بلا جهة وكيف , فجعله من باب ما لا يعقل _تلبيسا وتدليسا_ وجرى ذلك في العامة . غير هؤلاء المعتزلة فإنهم قالوا زدت في الفساد , فإن القوم أثبتوا معقولا وأنت أثبت شيئا لا يعقل .
صفحه ۲۲
فصل
فكرت وقلت : من أصول هذا الباب إثبات المكان , فألقيت إليهم أنه تعالى في مكان وأنه على العرش , فقبلتم أحسن قبول واعتقدتم ذلك وناظرتم فيه . غير هؤلاء المعتزلة فإنهم قالوا المكان يوجب التجسيم ,والجسم يكون محدثا .وقالوا : ما جاز أن يكون في مكان جاز أن يكون في غيره , وذلك يوجب جواز الحركة والسكون والزوال والانتقال . وقالوا : ما الفرق بين ملك على سريره وبين الرب على كرسيه على هذا المذهب ؟ وهل هذا إلا مناقض لقوله تعالى : { ليس كمثله شيء } , وقوله تعالى :{ وهو أقرب إليكم من حبل الوريد } .
حضرت يوما مجلسا وفيه جماعة من مشايخنا ومن المعتزلة , فجرت مسألة العرش , فقال شيخ منا : إنه تعالى يقول {الرحمن على العرش استوى }ولفظة <على> تقتضي الفوق . فقام المعتزلي : فقل في قوله تعالى : {ولو ترى إذ وقفوا على ربهم } أنهم فوقه . فانقطع .
وروى بعضهم أنه تعالى خلق آدم على صورته , فقال المعتزلي : فإذا يجب أن يكون مؤلفا مركبا محدثا كما كان آدم . قال : فما معنى الحديث ؟ قال : إن صح فالمراد ما قيل أن النبي _ صلى الله عليه وعلى آله وسلم _ رأى رجلا فقال إن آدم كان على صورته , وقيل أراد أنه خلقه على ما كان عليه من غير انتقال من حال إلى حال . فقالوا : الصواب أن لا نمكن المعتزلة من حضور مجالسنا والكلام في أنديتنا فإنهم يشوشون علينا المذهب , فأخرجوه . فخرج وهو يقول :
فلو كنت الحديد لفلقوني ولكني أشد من الحديد
ولقد زادت مشايخنا من الكرامية , فقالوا إنه تحله الأعراض وتخلو منه كما في الأجسام سواء . وزادت الحنابلة فقالوا بالصعود والنزول . وأنكرت المعتزلة ذلك فقالوا : ليس له مكان ولا يجوز عليه الانتقال ولا تحله الأعراض , إذ لو جاز أن يحله الأعراض جاز أن يحله الجميع , وليس ما حله العرض إلا محدثا.
صفحه ۲۳
الباب الثالث في العدل
تأملت أحوال هذه الملة فوجدتهم بأجمعهم يقولون إنه تعالى عدل لا يظلم ولا يجور , وإن جميع أفعاله حق وجميع أقواله صدق , وذكروا أن ذلك معلوم من دين النبي _صلى الله عليه وعلى آله وسلم _ ضرورة وأن الكتاب نطق به نصا , وعلمت أني لو دعوتهم إلى مخالفة هذا الظاهر لا يروج ولا يقبل . فدعوتهم إلى أمور تفصيلها نقض هذه الجملة وإثباتها رفع هذه الكلمة . فأول ما ألقيت إليهم أنه تعالى لا يقبح منه شيء لأن الأمر أمره والملك ملكه , وأنه ليس بمأمور ولا منهي ولا مملوك ولا مزبوب وإنما يقبح الأمور لهذه الوجوه . ثم ثنيت عليه أن جميع القبائح منه , وأنه يخلق الكفر ثم يعذب عليه , وأنه يعذب بغير ذنب ويعذب واحدا بذنب آخر , وأنه يخلق للنار قوما ويكلف ما لا يطاق , إلى غير ذلك . فقابلتموني بالقبول وصدقتموني في ما أقول ودنتم به ونصرتموه .
وأنكرت المعتزلة هذا الأصل أشد الإنكار , وقاموا وقعدوا في إبطاله , وقالوا هذا ينقض الأصل المجمع عليه وما أشارت النصوص إليه , وقالوا: لا ظلم أعظم من أن يعذب بغير ذنب أو يخلق الكفر ثم يعذب عليه , وذكروا أن القبيح قبيح من كل فاعل وأنه يقبح لوجه يرجع إليه , ودلوا على ذلك بأنه لو قبح للنهي لحسن للأمر فكان لا يحسن منه شيء , وقالوا : لو جاز ما قلتم لجاز أن يظهر المعجز على (أيدي ) الكذابين فيحسن منه , ولجاز أن يكذب في أخباره فيحسن , ولجاز أن يرسل رسولا يدعو إلى الباطل فيحسن . وقالوا : لو قبح للنهي لاختص بمعرفته من عرف النهي . وأيدوا كلامهم بآي من الكتاب وبكثير من الأخبار عن النبي _صلى الله عليه وعلى آله وسلم _ وأصحابه .
صفحه ۲۴
فأما أنتم إخواني وسادتي فما خالفتموني في ذلك كصنيع المعتزلة , بل قبلتم ورويتم في ذلك الأحاديث وقلتم : إنه يعذب الأطفال بذنوب الأباء , ويحمل ذنوب المسلمين على اليهود والنصارى , وانه لو عذب الأنبياء وأثاب الفراعنة لما يقبح منه , ولو أضل العالمين وعذبهم لا يقبح , وأنه خلق عبادة الأوثان وسب نفسه وقتل الأنبياء والأولياء وكل كفر وضلال .
اجتمع عندي نفر من مشايخنا ومن المعتزلة , فإذا قرأ قارئ : { والذين آمنوا أشد حبا لله }, فقال رجل من المعتزلة : لا أحد اشد حبا لله من المعتزلة , فقيل له : لم؟ قال : لأنهم قالوا هو المنعم بضروب من النعم ومنه كل الخيرات ولا شر في أفعاله ولا قبح في قضاه ولا خلف في مقاله , يرجى من عنده كل خير ويؤمن كل شر , يثيب على الطاعات ويعفو عن السيئات ومن كان هذا حاله فلا حب فوق حبه , والمجبرة تزعم أن كل شر من عنده وانه لا يؤمن شره بل لا يؤمن من عبده مائه سنة أن يدخله النار وأن يخلق فيه الكفر وينزله مع الكفار , فمن هذا اعتقاده فيه كيف يحبه ؟ وقص سيفويه القاص فقال في قصصه من أنت حتى لا يظلمك الله يا عاض بظر أمه ؟ نعم يظلمك هوان لك ويعذبك بغير جرم ويخلق فيك الضلال ويأخذك به ويكلفك ما لا تستطيع . فقام معتزلي من بين المجلس وقال : تبا لك مع هذه المقالة , هذا سوء ثناء على رب العالمين . فقال : أخرجوه ولا تستمعوا إليه .
صفحه ۲۵
وذكر أبو عامر الأنصاري وهو عدلي لمجبر : تعال حتى نصدق وننتصف وننصف , أليس يجوز عندك أن يعذب الله رجالا لم لم يكونوا نساء , ويعذب نساء لم لم يكونوا رجالا , ويعذب سودا لم لم يكونوا بيضا , ويعذب بيضا لم لم يكونوا سودا , كما يعذب الكفار _ مع خلقه الكفر فيهم _ لم لم يكونوا مؤمنين , ويكون ذلك منه حسنا وعدلا وإن كان مثل ذلك منا جورا ؟ قال : نعم . قال : فهلا يجوز أن يقول : أهلكت عادا ولم يهلكهم , وأقيم القيامة ولا يقيمها , ولا يكون ذلك كذبا منه وإن كان كذبا منا ؟ فسكت . ثم قال : لا قول أشنع من هذا , لقد عزمت على الرجوع ورجعت عن هذا القول . فقام القوم إليه بالنعال وقالوا : أتوهن مذهبنا وتضعف مقالتنا ؟
وقرأ قارئ قوله تعالى : { فأين تذهبون } , فقال معتزلي يكنى أبا عمران : لو كان الأمر كما تزعمونه يا معشر المجبرة لكان لهم أن يقولوا يذهب بنا , فلم يكن لهذا القول معنى , كما روي أن مجبرا سئل أين تذهب ؟ فقال : لا أدري ! حيث يذهب بي , ثم قال : وهل هذا إلا صفة المجنون ؟ وكما يحكى عن أبى العيناء أن رجلا وقع في الماء فقيل له أين تذهب ؟ فقال السؤال على الماء !
وسئل معتزلي : لم قلت إن الله تعالى لا يضل ؟ قال قوله : { قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن هديت فبما يوحي إلي ربي } فأمره أن ينسب الضلالة إلى نفسه ورضي بهذا القول له مذهبا , أفلا ترضون بذلك ؟ فأنقطع المجبرة .
ونظيره ما يحكى عن بعضهم أنه قال : لزنية أزنيها أحب إلي من عبادة الملائكة ! فقيل له : ولم ؟ قال : لعلمي بأن الله تعالى قضاها علي , ولم يقض إلا ما هو خير لي .
صفحه ۲۶
وخطب بعض المعتزلة فقال بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة على النبي _صلى الله عليه وعلى آله وسلم _ : أيها الناس !لا أحد أقبح ثناء على رب العالمين من المجبرة حيث قالوا إن الله يأمر بما لم يرده وينهي عما أراد ويقضي بما نهى عنه ثم يعذب عليه , وأنه يخلق فعلا ثم يقول لم فعلتم ؟ ويغضب على ما خلق وقضى وأراد , ويأمر بشيء ويحول بينه وبين ما أمر به , ويقضي أمرا ثم يأمر القضاة والولاة والغزاة برد ما قضى وقدر وأراد وخلق , وأمر بحدود تقام على شيء , فأمر بجلد الزاني _ وخلق فيه الزنا _وقطع يد السارق _ , وجعل مال زيد رزقا لعمرو وخلق أخذه ثم قال لم أخذت؟ وعاقبه عليه , وأنه خلق الكفر وكره الأيمان وبعث الأنبياء دعاة إلى خلاف مراده وضد قضائه . فانظر إلى سوء ثنائهم على ربهم , وانظر إلى حسن ثناء أهل العدل عليه حيث قالوا : إنه حكيم أمر بما أراد ونهى عما كره , وقضى الإيمان ورضيه وأحبه وزينه , ونهى عن الكفر وكرهه وغضب عليه وسخطه , كما قال الله تعالى : { ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان } , وأنه بعث أنبياءه بالحق ليدعوا إلى الحق الذي أراده , وأنزل الكتاب ليهتدي به , وهدى إلى الدين وما أضل أحدا من العالمين , وأنه يثيب من أطاعه ويعاقب من عصاه , فاحمدوا الله على هذا الدين وقولوا : الحمد لله رب العالمين .
وسأل عدلي مجبرا : هل تملك من أهلك ومالك شيئا؟ قال : لا . قال : فما تملكه منهم جعلته في يدي ؟ قال : نعم . قال : اشهدوا أن نساءه طوالق وعبيده أحرار وماله صدقة في المساكين . وكانت امرأته ممن تقول بالعدل , فتحولت عن منزله وسألت العلماء , فأفتوا بوقوع ذلك كله . وصار ضحكة وسخرة .
وسأل جماعة عمرو بن فائد _وهو معتزلي_ عن القدر , فقال : أقيموا ربكم مقام رجل صالح , حتى أنكم إن كان ما قيل حقا فلا تعاتبوه وإن كان باطلا فلا تتهموه . وأنشد:
صفحه ۲۷