ويتضح هذا على أتمه في فلسفة «هيجل»، وكانت التي استعملت هذا التجريد استعمالا قلبت به وجه التاريخ، وسأبين كيف كان ذلك الآن، فلننظر كيف مشى الفن في هذا السبيل، مشى عاطفيا، ثم صار في حاجة إلى الرمز، لكي يدل كل رمز على مجموعة خاصة من المحتويات الجعبة المسماة العاطفة، وبينما في الأدب تستعمل الكلمة، ففي التصوير والنحت تستعمل الخطوط والعلامات، ثم بالتدريج تسقط أهمية هذه الرموز في دلالتها على ما وراءها؛ أي تنتهي المسألة بطلاقها من الحقيقة، وبعد طلاقها من الحقيقة تفقد أهميتها وتأخذ في الذبول، ولكن تأخذ في الذبول فقط كرمز، ولكن تصير لها أهمية حديثة وهي أنها تصير نشاطا عقليا خاصا، ويكبر هذا النشاط حتى يحاول أن ينفصل عن الفن، بحيث يأتي فيلسوف مثل «هيجل» ليقول لنا: إن العقل والفن منفصلان ولا يجب أن يتصلا، وزاد على ذلك أن الفن من خصائص المراهقة، وهذا قول لا يقصد به الجور على الفن وإنما الدفاع عن المنطق. وقد يكون «هيجل» على بعض الحق من حيث إن الفن لا يمكن أن يكون مسألة رموز ولا مدلولات، وإنما هو في الواقع علاقة بين الحواس والمرئيات.
ويقول «ليفي برول» مرة أخرى أن الإحساس الفني في الإنسان الأول كان صادقا من حيث إنه مزج بين المرئيات والمدركات، ولكن ليس معنى هذا أن نعود إلى الإنسان الأول، فإن هذا المزج حقيقة نحن في حاجة إليه ولكن على طريقة أخرى، فإنه يجب أن يجري على طريقة البدء بالمدركات وإلباسها ثوب الحقيقة؛ أي يقبل التقسيم العلمي الفلسفي من ناحية وجود وأهمية هذه المدركات أو المدلولات أو الفكر، ثم الرجوع إلى الحقيقة التي هي سلم لها وإلباسها ثوبها.
وبعبارة أخرى: بدل المدلول المجرد عليه أن يخلق المدلول الحي، أو الظاهرة الحية، وهذا هو العمل الفني.
هذا هو الفن الحديث في آخر تطوره، والسريالية طراز خاص يبين كيفية تطبيق هذا المبدأ، وبناء على هذا فهي تبدأ بأخذ هذه المدركات، التي هي نواة الفكرة؛ لتطبيقها تطبيقا سيكولوجيا، فأمام منطق «هيجل» و«كانت» يجب أن نعترف بأن هناك قوى معادلة للوعي وموازنة له، ولا تقل أهمية عن قوته. كل شيء له مناقضه الذي علينا أن نجلوه معه لكي يزيد الوعي قوة باقترانه باللاوعي، فأمام منطق «هيجل» لا بد أن نذكر أحلام «لوتريامون» و«بيكاسو»، وأمام منطق «توماس أكونياس» لا بد أن نذكر البناء التخيلي للكنيسة القورطية، فالمسألة إذن هي مسألة إطلاق قوى معوضة مكبوتة عليها أن تظهر في العمل الفني بشكل شاعري يضاف إلى المنطق والعقل، فالعمل الفني الحديث يجب إذن أن يخاطب الحواس، وفي ذات الوقت يستند على قاعدة عاطفية انفعالية، أو بعبارة أخرى: أن يجلو الفن الفكرة ومعادلها أو مناقضها إذا شئنا أن نقول، ويمكن أن نوضح أكثر فنقول: إن الفن السريالي أو التجريدي قائم على إيجاد التناقض بين الفكرة والفن، وفي حالة إيجاد هذا التناقض يحدث المزج المطلوب بدون إخلال بوحدة الموضوع الأصيل وهو المدلول أو الرمز
Concept .
ولنوضح هذا في الفن السريالي كما نعرفه اليوم، فنبدأ بكلمة «الفراغ
Space »، فالفن السريالي يبدأ بهذه الكلمة أو «المدركة» ليجلوها في ثوب يجعل لها حياة ونبضا، وقد تناول المصور السريالي «دالي» الذي سأحدثكم عنه قريبا هذه «الفكرة»، فهو في بضعة خطوط وبضعة ألوان يجعلنا نحس، ثم نعي «بالفراغ»، وعلى كل حال ما دمنا بدأنا بالمدركات وأردنا ترجمتها، فقد دخلنا في منطقة العقل الباطني، وكلما تغلغلنا في فهمه واستغلال ذلك الفهم أمكننا أن يكون فننا ديناميكيا، بخلاف الفنون القديمة التي كانت شيئا ساكنا
Static
تحوم حوله ظلال حماسية، يتلخص الفن السريالي إذن في أنه فن يبدأ من «الداخل للخارج»؛ أي يهتم بالفكرة قبل الموضوع وأقصد بالموضوع
The Object . وقد ظن أكثر الناس أن الفن السريالي فن تجريدي محض؛ أي إنه مجرد تأملات باطنية تسجل على اللوحة أو بالكتابة بقطع النظر عن المرئي أو الملموس، ولكن «لابريتون» و«جاكسوين» وأقطاب هذه المدرسة، قالوا مدافعين عن مذهبهم: إنه ليس هناك فن غير مبني على المرئى الحقيقي، ولكن السرياليين يبدءون بالحقيقة كما هي ثم ينسونها، أو بالأصح يرجعون إلى حقيقة الحقائق، ألا وهي صورة الحقيقة مرتسمة في العقل الباطن، فكما أن في الطبيعة لا يمكن فصل الأشياء عن ملابساتها؛ إذ إنه ليس هناك صحو بلا ضباب، ولا ليل بلا نهار، ولا ضوء بلا ظلال، ولذلك فلا يمكن في الحياة ذكر حقيقة أو تصويرها بغير ما يختلط بها من انفعالات وذكريات، وانطباعات ماضية وحاضرة وأخرى ثابتة أو عابرة، فالحقيقة إذن هي هذه، حقيقة العقل الباطن، فليس الواعي هو كل شيء، بل يجب أن تكون صورة الحقيقة ممثلة للواقع وفوق الواقع أو وراء الواقع معا.
صفحه نامشخص