أما الرأي الثاني فهو رأي «ينج»، وهو أن الأخلاق إما أخلاق استنباطية أو خارجية، وأن الإنسان البدائي استبطاني، والطفل استبطاني أي إنه انطوائي، ينتزع من الصور التي في داخل نفسه ليعكس على الخارج، بعكس الخارجي الذي يعتمد على الحواس لينتزع صورا خارجية يعكسها إلى الداخل. يقول أتباع هذا الرأي: إننا كلما تحضرنا، صارت أخلاقنا خارجية ولكن لم يقولوا لنا: أي النوعين أصلح أو أجود.
إذن فنحن نقف موقفا عجيبا، عندما نريد أن نحدد ما هو طيب وما هو شر، ونستطيع أن نحدد على الأقل أنه ليس هناك طيب في ذاته ولا شر في ذاته، وإنما يحكم على عمل ما بالنتيجة، ولكنك تتساءل: النتيجة لمن؟ وكيف؟ فأجيبك: النتيجة المباشرة وغير المباشرة، قريبة وبعيدة، للإنسان ولغيره.
وأي نتيجة؟ أجيبك في كلمة واحدة: المنفعة. فتسألني: وما صفة المنفعة؟ أجيبك: «الإسعاد». ولقد تناول أتباع «بنتام» الإنجليزي هذا المبدأ، مبدأ المنفعة حتى تسموا بالمنفعيين، وأخذوا يشرحون معنى «الإسعاد» فتعثروا؛ فهم عرفوا هذا الإسعاد بأنه «السرور وتجنب الألم»، فخلطوا بين السرور الذي هو لذة حية وبين السعادة التي هي فكرة، ومن ثم فاتتهم ألوان من السعادة لم تخطر لهم على بال، كالسعادة التي تنطوي تحت لواء الفنون، وفي ظل آيات الجمال وزيادة على ذلك فقد أخذوا يحسبون هذا الإسعاد بالأرقام الرياضية فزاد ذلك في أسباب فشلهم.
على أنهم وإن فشلوا في تفسير معنى الإسعاد فقد تركوا للأجيال شرحه وتطبيقه.
ونحن إذا نظرنا للإنسانية من ناحية عامة، من حيث وسيلة «إسعاد البشر» وجدنا أن هذه الغاية لا تتساوى في جميع المراحل التي اجتازتها البشرية، فإن البشرية مرت في ثلاث مراحل؛ المراحل البدائية: ومن الواضح أن إسعاد الهمجي أو البدائي يتلخص في إشباع غرائزه. والمرحلة الزراعية: وهي مرحلة لبثت فيها البشرية خمسة عشر قرنا من الزمان، وفيها وجد التشريع الأخلاقي؛ ففي هذه المرحلة تكونت الأسرة، ونضج الإنسان بسرعة، وتزوج زواجا مبكرا، وقدست الأمومة، والعفة والحياء، وأدرك الإنسان شيئا من الاستقرار بفضل التعاون بين أفراد الأسرة الواحدة أو الأسر المتجاورة.
وكل ما يعين على تحقيق هذه الغايات في الوسط الزراعي يؤدي إلى «إسعاد» أهل هذا الوسط إسعادا فرديا وجماعيا.
أما الوسط الصناعي الذي صار طابع العصر في الغرب، والذي تتحول إليه مصر تحولا لا شك فيه فإنه وسط المعمل والمصنع، وسط الكفاح الفردي وسط ينضج فيه الفرد متأخرا ويتزوج متأخرا، وتقل قيمة الأسرة، وينظر للعفة والحياء والأمومة بنظرة مختلفة، ويكثر فيه القلقلة والاضطراب والكبت، ويقل الأمن والاستقرار، فلا شك أن «الإسعاد» فيه مختلف جدا عن كل ما سبق.
وإذن فالخلق الطيب يقدر بنتيجته، معنى ذلك أنه لا يوجد خلق طيب فاقد النتيجة، أو بعبارة أخرى: له صفة سلبية، فليس يكفي أن تكون لك النية فقط، بل يجب أن تتحرك وتعمل فصفة العمل الطيب الأساسية أنه إيجابي نافع ومسعد.
ما الطريقة إذن لخلق شخص له هذه الميزة المثلثة؟ إن الفلسفة توقفنا عند هذا الحد ثم تسلمنا لابنها الأكبر وهو علم النفس، يتحدث عن أمرين: دوافع داخلية ووسط، وإن جميع المشاكل - لا مشكلة الأخلاق وحدها - قائمة على التحيز لأمر من هذين.
وإذا قسمت الفلاسفة المحدثين وعلماء النفس المشهورين قسمتهم مدرستين كبيرتين من حيث التحيز لهذا الرأي أو ذاك.
صفحه نامشخص