أما الوظيفة الثانية فهي أن يمد الأديب يده إلى دولاب الحياة الدائر، فيوقفه، بخيالاته وتأملاته إذا شئت، ليقتطع منه منظرا أو فكرة أو حادثة، يستخلصها ليختزنها في عقله الباطن ليخرجها يوما ما إلى العالم مضيفا بذلك للكواكب كوكبا جديدا إلى سماء الخلود
au ciel de fixes . ولكن من هذا الأديب الذي يستطيع أن يمد يده إلى الزمن الدائر فيقتطع من عجلته شيئا ثابتا خالدا؟ ثم من هو ذلك الذي يستطيع أن يميز في الفلك الدائر السريع ما هو جدير بالاستبقاء؟
الصفة الأولى في ذلك الأديب هو ما نسميه تجاوزا شدة الحساسية، ويسميه علماء النفس التماس الواعي مع الحياة والأحياء، والتماس الواعي معناه أن مهمازا يشك قلبه ويفتح عينه ويلهب حسه ويوقظ روحه، فإذا كانت الحياة هي «الوادي الذي تنضج فيه الأرواح» على رأي «كيتس» فإنها إنما تنضج عن طريق الألم وعن طريق الدموع، عن طريق الشوك، عن طريق التماس الواعي الذي أشرت إليه. على أن الأديب الذي أشير إليه يمتاز بالبصر، بل بالبصيرة، ويسمى بالفرنسية
un visionaire
أي صاحب رؤيا، وهي كلمة ملائمة جدا، ومعناها أنه رجل يبصر وراء الأشياء حقائقها البعيدة، أو يراها مكبرة، أو يراها مغمورة بأضواء خاصة، أو بعبارة أخرى: ذات رموز ومعان وإيماءات وأخيلة تهيب به وتدعوه، هذه الدعوة هي التي أشرت إليها في أول الحديث، والتي هي العنصر الأول في الأدب لفظا ومعنى.
أما استجابة الأديب على هذه الدعوى فكيف تكون، تكون بصرخة ذات لون من ثلاثة: دهشة أو دمعة أو ضحكة.
فنحن نرى إذن أن هناك بصيرة، فتماس واع، فنداء، فصرخة، فاستجابة. وهذه الاستجابة هي ما نسميه «اللفتة الذهبية» وهي كلمة ملائمة جدا، ولو حللناها لوجدناها تعني أن العاطفة تلجأ إلى الفكر مستعينة به على كيفية الاستجابة. كيفية الاستجابة أو بعبارة أخرى: «عملية الأدب» مسألة جديرة بالنظر؛ لأنها نهاية المرحلة وثمرة المجهود، ومما هو واضح أن هاته الرواية من بصيرة إلى صرخة إلى التفاتة ذهنية، والتي يمكن أن نطلق عليها اللحظة الانفعالية، هي في الواقع مشروع رواية تتطلب الإخراج والظهور على المسرح، رواية غايتها الوضوح، لتجد سبيلا إلى الإقناع والمشاركة والتمتع بالتلاقي مع الآخرين في صعيد وجداني واحد.
فمن ثم يتضح لنا أن عملية الأدب هي: «التأثر بتجربة ما، تأثرا خاصا والامتلاء بها امتلاءا عنيفا، يلح إلحاحا باطنيا في إبراز هذه التجربة مغمورة بالضوء الذي أبصرته فيه، جالسة على عرش من الشعور الذي اكتشفها، متكلمة بلغة خاصة تحمل تفسيرا خاصا، وشرحا خاصا وسبيلا للإقناع خاصا يجعل المشارك في التجربة يرى ويفهم ويؤمن بالجمال الكامن خلف كل شيء في الوجود من الصغير إلى الكبير.»
فالأدب إذن ومضة من ومضات البصيرة تدعو إلى التعبير، ورسالته السمو بالنفس عن طريق الجمال.
فجوهر الأدب إذن في التعبير، فكيف تعبر تعبيرا تكون آيته تأدية رسالة الجمال؟
صفحه نامشخص