نص الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
الملك الحق المبين
الحمد لله وصلى الله على محمد النبي المصطفى وآله الطاهرين وسلم تسليمًا.
1 / 1
قال أبو علي محمد بن الحسين الحاتمي الكاتب اللغوي: إن معاني الآداب وإن كانت عاطلة الأطلال، مستحيلة الحال، دائرة العرصات، عافية المعالم والآيات المغاني، محادثة بألسنة الحدثان، فإنها اليوم بالرئيس لأبي الفرج محمد بن العباس حالية الجياد، صادقة الرواد، موسومة ربوعها بوسمي العهاد. تهتز نضره ونعيما، ويتم رياها تضوعًا ونسيمًا. فلا زالت معاقد الفضل به منظومة، وإغفاله بمجده موسومة، ومجاهله بمحاسنه معلومة، ما نشرت أنابيب القنا نثرة، واستضحكت لانتخاب الحيا زهرة، وتحيرت في مقلة عبره. أجد الرئيس شديد العلاقة بمفاوضي إياه ما كانت المشاجرة وقعت فيه بيني وبين أبي الطيب أحمد بن الحسين المتنبي، في المجلس الذي أثرت فيه آثاره، وسافرت في أطرار البلاد أخباره، مستهترًا بتكرير فصول منه تتعلق بحفظي منه، منازعًا جمع شتيته مشيرًا إلى اليوم الذي شجرت تلك المنازعة فيه إشارة معني به معين على الشهر والسنة والوقت من الزمان، وإلى ما أثمرت لي تلك المنازعة من بعد الصيت وشراد الذكر وقدم السبق واللحاق به، في حال الغرارة ولين الغصن، بالغاية التي لا يجري في مضمارها إلا المذكي من أهل الفضل. هذا إلى إناقة المكان، وازلاق السلطان، وتناصر الأنصار والأعوان. وانتشار ما كان مطويا في تلك الأيام من فضلي، ومغمورًا بقوارع الحساد وسن الصبا من محاسني. وأرادني، أدام الله قدرته، على إنشاء رسالة تشمل على إنشاء رسالة تشمل على أشتاته، وتنظم منشور فصوله وأبياته. وأجدني لا أرتاح إلى ذلك ارتياحي - كان - قديمًا له، ولا أهش إلى الحديث عنه هشاشة كانت إليه. لأمور أخصها ترفعي الآن، مع إبراق غصني وإثماره وتبسم نواره واستطارة أنواره، عن ذكره. ولتصوني عن قوارص غلمة لا أحلام لهم تنحط في شعبه وتنخرط في سلكه. ثم لأني أطلت عنان القول مع الرجل إطالة ربما اتهم الحاكي لها والمخبر عنها، وإن كانت الحال اشرد خبرًا وأخلد أثرًا من أن ينسخ صباحها أو يطفأ مصباحها. وقد حضر المجلس أعيان من الناس تقع الإشارة إلى إخطارهم، والاستنامة إلى أخبارهم، من بين قاضٍ يقطع بقوله، وشيخ من شيوخ الدب يقضى بشهادته، وحدث من أبناء الكتابة يمور ماء الحياء في أسارير وجهه وكانت للوزير أبي محمد الحسن بن محمد الحسن بن محمد المهلبي، ﵀، هناك طليعة من طلائعه، وربيئة من ربايا مراعاته، وعين من عيونه مذكاة. فإنه كان - نصر الله وجهه - لما تثاقل أبو الطيب عن خدمته، وأساء التوصل إلى استنزاله عن عرفه، ولم يوفق لاستمطار كفه وكانت واكفة البنان، منهلة باللجين والعقيان، سامني هتك حريمه، وتمزيق أديمه. ووكلني بتتبع عواره، وتصفح أشعاره وإحواجه إلى مفارقة العراق واضطراره كراهية لمقامه بعد تناهيه - كان - في إدنائه وإكرامه. وحسبي علم الرئيس بحقيقة الحال وصدق المقال وتبريز الفعال ونهوضي في حدثان الشبيبة بما قصرت عن جملته همم الرجال. وكانت أتيته رأد الضحى، وحين التقت الشمس قناها على الأرض، فجمعت في داره بين صلاتي الظهر والعصر. وانصرفت عنه وقد نفضت الشمس صبغها، وطفلت على الظلام بطفلها. وكنت استدركت في الحال ما تمكنت من استدراكه من تلك المشاجرة وتلافيت ما أسعد المقدار بالتوفيق بجمعه منها. وكان من مظاهرة الجماعة الحاضرة على نظمه وضمه، ومراعاة ما صدر عني وعنه، والتنبيه على ما استسر عن ذكري منه، ما أنهض خاطري وإن كان خطارا، واقتدح زناد فكري وإن كان يستطير نارا. فقيدته برسالة وسمت جبهة الأدب، وذهبت بها أفواه الرواة في كل مذهب. وإذ كان الرئيس مؤثرًا سمتها باسمه، وعرضها على تصفحه ونقده، فأنا أصيل جناح هذه المقدمة بها، وأهذب ما أرى تهذيبه من لفظها، وأبرأ إليه من العهدة في امتداد نفسي فيها، فإن يدي ولساني يجريان في حلبة البيان، جري بنات الغصين غداة الرهان. وأرجو أن يسعدها التوفيق بجميل رأيه، وأن تقع الموقع الذي توخيته بها من امتثال مرسومه. وسأتلو ذلك بمنازعات نازعتها أبا الطيب تتعلق بشعره في عدة مجالس وإياه من بعد هذا المجلس، وبمواقع طالعتها من اجتلاباته وسرقاته وسقطات أسقطها في شعره، لم تجر فيها مراجعة ولا منازعة، وليكون ذلك أمتع لقاريه وأجمع لشمل ما توخيته فيه. وأنسج بعضًا ببعض من غير أن أميز آخرًا عن أول، وماضيًا عن مستقبل، وأشفع القول بما يزيد الحق وضوحًا، من شاهد
1 / 2
يتعلق به أو بيت يناسب بيتًا، أو بيت جرى صدره فأتمت عجزه، أو عجزه فألحقت به صدره، أو معنى ضممت إليه شكله. وإن الحديث ذو لقاح والمثل السائر:) الحديث ذو شجون (. فقولهم) ذو لقاح (من الناقة اللقوح وهي التي بها حمل، واللقاح الحمل، والمعنى حديث ينضم إلى حديث كما انضم الولد إلى الأم لما صار في بطنها. ويقال:) حي اللقاح (إذا كانوا أعزة لا ينضمون إلى أحد ولا يدينون لملك ولا يقدر عليهم. كالناقة إذا حملت لا يقدر الفحل على أن يقربها. وأما قولهم) ذو شجون (فمن شجون الوادي وطرقه وانعراجاته. فإن الإنسان يكون في حديث ثم يخرج منه إلى غبره ثم يعود إلى حديثه الأول، شبه بالذي يمشي في وادي فيعرض له الطريق فيأخذ فيه يؤديه ذلك إلى الطريق الأعظم. فلا يستطيل الرئيس مسالك الكلام وإن أطلتها، فقد أجررت القلم مقود الخاطر، وأنصفت كل الإنصاف في تهذيب ما حكيته عن رجل، وحذفت فضول الألفاظ، وكسوت احتجاجاته عبارات لعله لو اعتمدها لقصرت مادته في البيان عنها. وأنا اسم هذه الرسالة) بالموضحة (تشبيهًا بالموضحة من الشجاع، وهي التي تبين عن وضح العظم كما قال طرفة:
وتصدُ عنك مخيلة الرجل ... العريض موضحة عن العظْم
بحسام سيفك أو لسانك ... الكلم الأصيل كأرْغب الكلْم
وهذا مأخوذ من قول امرئ القيس: وجرْح اللُسان كجرح اليدْ وقال حسان:
لساني وسفي صارمان كلاهما ... ويبلغُ ما لا يبلغٌ السيف مذودي
وقال جرير:
لساني وسيفي صارمان كلاهما ... وللسيفُ أشوى وقعهً من لسانيا
ومن الله تعالى أستمد المعونة والتوفيق.
لما ورد أحمد بن الحسن المتنبي، ويلقبه أحداث الشام والسواحل) المطمع (لقوله:
) يُطمِّعُ الطير فيهم طول أكلهم ... حتى تكاد على أحيائهم تَقَعُ (
1 / 3
مدينة السلام، منصرفًا عن مصر ومتعرضًا للوزير أبي محمد المهلبيَ للتخييم عليه والمقام لديه: التحف رداء الكبر، وأذال ذيول التيه، وصعر العراقيين خده، وارهف للخصام حده، ونأى بجانبه استكبارًا وثنى عطفه جبريةً وازوارًا، فكان لا يلاقي أحدًا إلا أعراض عنه تيهًا، وزخرف القول عليه تمويهًا يخيل عجبًا إليه، أن الأدب مقصور عليه، وأن الشعر بحر لم يرد نمير غيره، وروض لم ير نواره سواه، فهو يجني جناه، ويقطف قطوفه دون تعاطاه، وكل مجرِ في الخلاء يسر، ولكل نبأ مستقر. فغبر جاريًا على هذه الوتيرة مديدةً أجررته رسن البغي فيها يظل يمرح في ثنييه، حتى تخيل أنه السابق الذي لا يجاري في مضمار، ولا يساوى عذاره بعذار وإنه رب الكلام ومفتض عذارى الألفاظ، ومالك رق الفصاحة نثرًا ونظمًا، وقريع دهره الذي لا يقاع فضلًا وعلمًا، وثقلت وطأته على كثير ممن وسم نفسه بميسم الأدب، وأنبط من مائه مشرب، فطأطأ بعض رأسه، وخفض بعض جناحه، وطامن على التسليم له طرف، وساء معزً الدولة وقد صورت حاله أن يرد حضرته وهي دار الخلافة ومستقر العز وبيضه الملك، رجل صدر عن حضرة سيف الدولة وكان عدوًا مباينًا، فلا يلقى أحدًا بمملكته يساويه في صناعته، وهو ذو النفس الأبية والعزيمة الكسروية، والمهمة التي لو همت بالدهر لما تصرفت بالأحرار صروفه ولا دارت عليهم دوائره. وتخيل أبو محمد المهلبي، رجمًا بالغيب، أن أحدًا لا يستطيع مساجلته، ولا يرى نفسه كفوًا له، ولا يضطلع بإعناته فضلًا عن التعلق بشيء من معانيه. وللرؤساء مذاهب تعظيم من يعظمونه وتفخيم من يفخمونه وتكرمة من يراعونه ويكومونه. وربما حالت بهم الحال وأوشكوا عن هذه الخليفة الانتقال، وتلك صورة الوزير أبي محمد في عوده عن رأيه هذا فيه. ولم يكن هناك مزية يتميز بها أبو الطيب عن الهجين الجذع من أبناء الأدب فضلًا عن العتيق القارح إلا الشعر. فلعمري إن أفنانه كانت فيه رطبة وجانيه عذبة.
1 / 4
نهدت له متتبعًا عواره، ومقلمًا أظفاره، ومذيعًا أسراره، وناشرًا مطاويه، ومنتقدًا من نظمه ما تسمح به، ومنتحيا أن تجمعنا دار يشار إلى ربها، فأجري أنا وهو في مضمار يعرف به السابق من المسبوق، واللاحق من المقصر عن اللحوق. وكنت إذ ذاك ذا سحاب مدرار، وزند في كل فضيلة وار، وطبع يناسب صفو العقار، إذا وشيت بالحباب، ووشت بها الأكواب. هذا وغدير الصبا صاف، ورداؤه ضاف، وديباجة العيش غضة، وأرواحه طلة، وغمائمه منهلة، وللشبيبة شرة، وللإقبال من الدهر غرة، والخيل يوم الرهان بجدود أربابها، لا بعروقها ونصابها. ولكل امرئ حظ من مواتاة زمانه، يقضى في ظله أرب، ويدرك مطلب، ويتوسع مراد ومذهب. حتى إذا عدت عن اجتماعنا عوادِ من الأيام، قصدت مستقره، وتحتي بغلة سفواء تنظر عن عيني بازٍ مسجل، وتتشوف بمثل قادمتي نسر. وتتقيك من هاديها بشطر خلفها، يعلوها مركب رائع كأنه كوكب وقاد، من تحته غمامة يقتادها زمام الجنوب، وبين يدي عدة من الغلمان الروقة، مماليك وأحرار، يتهافتون تهافت فريد الدر عن أسلاكه. ولم أورد هذا متبجحًا به ولا متكثرًا بذكره بل ذكرته لأن أبا الطيب شاهد جميعه في الحال فلم ترعه روعته، ولا استعطفه زبرجه، ولا زاده ما شاهد من تلك الجملة الجميلة التي ملأت طرفه وقلبه إلا عجبًا بنفسه، وسحبًا لرداء تيهه، وإعراضًا عني بوجهه. وقد كان أقام هناك عند أغيلمة لم ترضهم العلماء، وعركتهم رحا النظر، ولا أنضو أفكارًا في مدارسة الأدب، ولا فرقوا بين حلو الكلام ومره، وسهله ووعره. نما غاية أحدهم مطالعة شعر أبي تمام، وتعاطي الكلام على نبذ من معانيه، وعلى ما يعلقه الرواة مما تجوز فيه. ومن للرئيس بمن يضطلع بهذا، وإن كان التشاغل بغيره من مراعاة أشعار الفحول الذين تكلموا عفوًا بطباعهم، وجروا على عاداتهم، ولم يتعاطوه تكلفًا، ولا استكرهوه تعسفًا، والبحث عن أعراضهم التي رموا إليها، أولى فألفيت هناك فتية تأخذ شيًا، فحين أوذن بضوري، واستؤذن عليه لدخولي، نهض عن مجلسه مسرعًا، ووارى شخصه عني مستخفيًا، وأعجلته نازلًا عن البغلة، وهو يراني لانتهائي بها إلى حيث أخذها طرفه، ودخلت فأعظمت الجماعة قدري، وأجلستني في مجلسه، وإذا تحته أخلاق عبادة قد ألحت عليها الحوادث فهي رسوم دائرة وأسلاك متناثرة، فكان من سوء أدبه عند اللقاء ما أطويه عنان القول فيه. فلم يكن إلا ريث ما جلست حتى خرج إلي، فنهضت فوفيته حق السلام غير مشاحٍ له في القيام، لأنه إنما اعتمد بنهوضه عن الموضع ألا ينهض إلي، والغرض كان في لقائه غير ذلك. فعركت ما جرى بجنبي، وطويت عليه كشحي، وحين لقيته تمثلت بقول الشاعر.
وفي الممشى إليك علي عار ... ولكن الهوَى منَعَ القرَار
فتمثل بقول الآخر:
يشقَى أناس ويشقىَ آخرون بهم ... ويسعدُ الله أقوامًا بأقوْامِ
وليس رزْق الفتى من فضل حيلتهِ ... لكنْ جدودٍ وأرزاق وأقسام
كالصيد يحرمه الراَمي المجيد وقد ... يرمي فيحرزهُ من ليسَ بالرُامي
وإذا به لا بس سبعة أقبية كل قباء منها لون، وكنا في وغرة القيظ وجمرة الصيف، وفي يوم تكاد ودائع الهامات تسيل فيه، خليق بقول مضرس بن ربعي:
ويومٍ كأن الشمس فيه مقيمة ... على البيِد لم تعرْف سوى البيدِ مذهبًا
وبقول الآخر:
ويوْم كأنُ الملْح ينتشًر وسْطه ... ترىَ وحشهَُ يركَبنَ فيه النوًاصيا
1 / 5
فجلست مستوفزًا وجلس متحفرًا، وأعرض عني لاهيًا وأعرضت عنه ساهيًا. أرنُب نفسي في قصده، وأسخف رأيها في تكلف ملاقاته. فغبر هنيهة ثانيًا عطفه لا يعيرني طرفه، وأقبل على تلك الزًعنفة التي بين يديه، وكل يومئ إليه ويوحي بطرفه، ويشير إلى مكاني بيده، يوقظه من سنة جهله، ويأبى إلا ازورارًا ونفارًا، وعتوًا واستكبارًا. ثم رأى أن يثني جانبه إلي، ويقبل بعض الإقبال علي فأقسمت بالوفاء فإنه من محاسن القسم إنه لم يزد أن قال: أي شيْءٍ خبرك؟ فقلت: بخبرٍ أنا، لولا ما جنيته على نفسي من قصدك، ووسمت به قدري من ميسم الذل بزيارتك، وجشمته رأيي من السعي إلى مثلك، ممن لم تهذبه تجربة، ولا أدبته بصيرة. ثم تحدرت عليه تحدر السيل إلى قرارة الوادي وقلت: ابن لي مم تيهك، وعجبك وكبرياؤك، وما الذي يوجب ما أنت عليه من الذهاب بنفسك، والرمي بمهمتك إلى حيث يقصر عنه باعك، ولا تطول إليه ذراعك؟ هل هاهنا نسب انتسب إلى المجد به، أو شرف علقت بأذياله، أو سلطان تسلطت بعزه، أو علم تقع الإشارة إليك به؟ إنك لو قدرت نفسك بقدرها، أو وزنتها بميزانها، ولم يذهب بك التيه مذهبا، لما عدوت أن تكون شاعرًا متكسبًا. فامتقع لونه، وعصب ريقه، وجعل يلين في الاعتذار، ويرغب في الصفح والاغتفار، ويكرر الأيمان أنه لم يشبتني، ولا اعتمد التقصير بي فقلت: يا هذا إن قصدك شريف في نسبه تجاهلت نسبه، أو عظيم في أدبه صغرت أدبه، أو متقدم عند سلطانه خفضت منزلته، فهل المجد تراث لك دون غيرك؟ كلا والله، لكنك مددت الكبر سترًا على نقصك، وضربته رواقًا حائلًا دون مباحثتك. فعاود الاعتذار، فقلت: لا عذري لك مع الإصرار. وأخذت الجماعة في الرغبة إلى في مياسرته وقبول عذره، واستعمال الأناة التي يستعملها الحزمة عند الحفيظة. وأنا على شاكلة واحدة في تقريعه وتوبيخه وذم خليقته، وهو يؤكد القسم أنه لم يعرفني معرفةً ينتهز معها الفرصة في قضاء حقي. فأقول: ألم يستأذن عليك باسمي ونسبي؟ أما في هذه الجماعة من كان يعرفني لو كنت جهلتني؟ وهب أن ذلك كذلك ألم تر شارتي؟ أما شممت نشر عطري؟ ألم أتميز في نفسك عن غيري؟ وهو في أثناء ما أخاطبه به وقد ملأت سمعه تأنيبًا وتفنيدًا يقول: خفض عليك، اكفف من غربك، أردد من سورتك، أستأن فإن الأناة من شيم مثلك. فأصبحت حينئذٍ جانبي له، ولانت عريكتي في يده، واستحييت من أجاوز الغاية التي انتهت إليها في معاقبته، وذلك بعد أن رضته رياضته رياضة القضيب من الإبل، والفلو المفتلى عن أمه من الخيل، وأقبل علي معظمًا، ووسع في تقريظي مفخمًا وأقسم أنه ينازع أنه منذ ورد العراق ملاقاتي، ويعد نفسه بالاجتماع معي، ويشوقها التعلق بأسباب مودتي. فحين استوفى هذا المعنى، استأذن عليه في من فتيان الطالبيين الكوفيين فأذن له، وإذا حدث مرهف الأعطاف تميل به نشوة الصبا، ويبسم ماؤه في أسارير وجهه، فتكلم فأعرب عن نفسه، وإذا لفظ رخيم ن ولسان حلو، وأخلاق فكهة، وجواب حاضر، في أناة الكهول، ووقار المشايخ. فأعجبني ما شهدته من شمائله، وملكني ما تبينته من فضله. فجاراه أبياتًا كان منها قول عدي بن زيد.
كدمى العاجِ في المحاريبِ أو ... كالبيض في الروضْ زهرةُ مستنيرُ
فقال أبو الطيب: شبه النساء بصور العاج، والمحاريب صدور المجالس، وذكر البيض في الروض لحسنه وأملاسه. فأقبل الطالبي علي فقال: ما تقول؟ المعنى ما ذكره. قال: فما قوله) زهرة مستنير (؟ فقال: ليكون أحسن له. فلم يقنعه ذلك، فقلت له: شبه ألوان الثياب التي عليهن بألوان نور الرياض، وزهره حمرته وصفرته، فأعجبه ذلك فسأله عن قوله في هذه الكلمة: ثم بعد الفلاحِ والمْلكِ والإمةِ وارتْهُم هناكً القُبور ثمَ أضحواْ كأنهمْ ورقٌ جفُ فألوتْ بهِ الصُباَ والدبوًُر
1 / 6
فقال أبو الطيب: البقاء والإمة: النعمة فقال: كيف جمع بين الصبا والدبور وإحداهما لينه والأخرى شديدة فقال: ليصبح الوزن والقافية. فأقبل الطالبي علي فقلت: غنما اختار الصبا مع الدبور فجاء بألين ريح مع أشد ريح، لأن الناس يموت بعضهم بالشدة وبعضهم بالسهولة، ومنهم من تخترمه المنية هكذا، ومنهم من تخترمه هكذا، على حال تأتي وتأخذ. فقال أبو الطيب: ما سمعنا بهذا. فقلت: ولا بغيره. ثم قلت: من الإنصاف أن لا تتعدى شعرك إلى غيره، لأن في تصفح محاسبه واستثمار أفنانه ما ألهى عن غيره. وهاهنا أشياء تعتلج في صدري منه، أحببت مراجعتك القول فيها: فقال: وما هي: أخبرني عن قولك:
) خفَ الله واستْر ذا الجمال ببرقعٍ ... فإن لُحتَ حاضتْ في الخدودِ العواتقُ (
أهكذا ينسب بالمحبين؟ فقال: أما هكذا في كتابكم؟ فكفر، لعنه الله فقلت: أين؟ فقال تعالى:) فلما رأينه أكبرنه (أي حضن شهوةً له واستحسانًا لصورته، فقلت: لم يقل هذا أحد من محصلي أهل العلم، ولا شهد به ثقةوإنما روي بيت شاذ لم ينسب إلى أحد:
نأتي النًساءَ على أطهارهنٌ ولا ... نأتي النُساء إذا أكبْرنً إكباراَ
قال: فما معنى أكبرنه؟ فقلت: أعظمنه، ولا يجوز أن يكون: حضنه، لأن تقدير الكلام يوجب ذلك، إن كان الإكبار الحيض. قلت والدليل على أن معناه أعظمنه قولهن:) ما هذا بشرًا إن هذا إلا ملك كريم (. قال فاغتفر هذا القول لقولي في هذه القصيدة:
) وليلٍ دجَوجيِ كأنا جلتْ لنا ... محيالَ فيه فاهًدينا السمالقُ (
) فما زالً لولا نوُروجهكً جنحهُ ... ولا جابهًا الرُكبانُ لولاْ الأيانق (
) شدواْ بابن إسحاقَ الحسينِ فصافحتْ ... ذَفاريهاَ كيرانهاُ والنمارقُ (
) فتى ًكالسحابِ الجونْ يخشى ويُرتجى ... يرجىُ الحيَا منه وتخشىَ الصواعقُ (
) إذا الهند وانياتِ بالهامٍ والطُل ... فهنِ مداريها وهنَ المخانقُ (
) كأنكَ في الإعطاء لمالِ مبغضُ ... وفي كلٌ حربٍْ للمنيًةٍ عاشقُ (
) فما ترْزُقُ الأقدار مًن أنتً حارٍمُ ... ولا تحرم الأمن أنت رازقُ (
) لك الخير غيرك الغنى ... وغيري بغيرِ اللاذقية لاحقُ (
) هي الغرضُ الأقصى ورؤيتكُ المنى ... منزلكُ الدنيُا وأنت الخلائق (
فقلت له: أما قولك) وليلِ دجوجيٍ كأناُ جلستْ لنا (فمن قول محمد بن مناذر:
لماُ رأيناْ صارً لنًا ... الململْ نهارًا بذكْر هاروناَ
إذا نحن أدلجنْا وأنْت أمامنا ... كفىً بالمطاياَ ضوءُ وجهكَ هادياَ
أليسَ يزيدُ العيسَ خفةَ أذرعٍ ... وإنْ كنُ حسرْى أن تكون أمامياَ
فأخذ هذا مروان الأكبر فقال للمهدي:
إلى المصطفى المهديً خاضتْ ركابناُ ... دجى الليلِ يخبطنَ السريحَ المخدما
يكون لها نورُ الإمام محمدٍ ... دليلًا به تسري إذا الليلُ أظْلماَ
فأخذ هذا المعنى إدريس بن أبي حفصة فقال:
لما أتتك وقد كانتْ منازعةً ... دانى الرضاَ بينَ أيديها بأقيادي
لها أمامك نورُ تستضيء بهِ ... ومنَ رجائكَ في أعقابها حادي
فقال أشجع:
إذا غابَ الفجرُ خضنْا بوجههِ ... دجىُ الليَل حتى يسَتبينَ لنا الفجرُ
ونقل المعنى العباس بن الأحنف فقال:
لوْ لم يكنْ قمرُ إذا أنا زٌرْتكمْ ... يهدي إلى سننَ الطُريق الواضحِ
لتوَقدُ الشوْقُ المنُير بذكركمْ ... حتى تضُيء الأرضْ بينَ جوانحي
فقال القصافي وأحسن:
ذكْرتُكُم يوْمًا فنوَر ذكركمْ ... دجىٌ الليلُ حتى انجابَ عني دياجرهْ
فو الله ما أدري أضوْءَ مسجَر ... لذكراكُم أمْ يسجرُ الليل ساجرهْ
فقال بعض الشاميين المطبوعين، وعليه اعتمدت:
وليلٍ وصلناْ بينَ قطريهْ بالسرىَ ... وقد جد شوْقُ مطمع في وصالكِ
أربتْ عليناَ من دجاه َ حناَدسُ ... أعدْن الطَريقَ الوَعَر نهجَ المسالكِ
فنادَيْت يا أسماءُ باسمكِ فانجلتْ ... وأسفرَ منها كلٌ أسودَ حالكِ
بنا أنت من هادٍ نجوْنا بذكْرهِ ... وقد نَشبتْ فينا أكفُ المهالكِ
منحتٌكِ إخلاصي وأصفيتٌك الهوىَ ... وإن كنتِ لماُ تخطريني ببالكِ
وأما قولك) غدا الهندانيات (فمن قول أبي الهول الحميري:
1 / 7
حُسامُ غذاه الُروحُ حتى كأنهَ ... من الله في قبَضِ النفَوسِ رسَولٌ
وأما قولك:
) كأنك في الإعطاء للمالِ مبغضُ ... وفي كل َ حرْبِ للمنيةً عاشقُ (
فمن قول البحتري:
تَسَرعَ حتى قالَ منَ شهَد الَغي ... لقاءٌ أعادٍ أمْ لقاءُ حبائبِ
وأما قولك) فتىَ كالسحاب الجون يخشى ويرتجى (، فمن قول بشار:
يرْجوُ ويخشىَ حالتيَكَ الوَرىَ ... كأنكَ الجنةُ والَنارُ
وقولك:) ومنزلك الدنيا (فمن قول علي بن جبلة:
ذَريني أجول الأرضَ في طلبِ الغنى ... فما الكَرخُ الدنياْ ولا الناس قاسمٌ
وقولك:) وأنت الخلائق (فمن قول أبي نؤاس:
وليْسَ لله بمسَتنكَرٍ ... أن يجمعَ العالمَ في واحد
وأبو نؤاس أخذه من قول جرير:
إذا غضبتْ عليك بنو تَميمٍ ... حَسبتً النُاس كلًهمُ غضاَبا
فنقله أبو نؤاس من القبيل إلى رجل. فلا معنى لك في هذه القافية إلا مقتفى، ولا إحسان أشرت إليه إلاَ مستشرق محتذى. وعلى ذلك فأنت فيما استرقته كما قال بعض المحدثين:
وفتى يقَول الشُعرَ إلا أنه ... فيما عَلمِنُا يسَرِق المسَروقَا
فقال في بعض صياغته: فأين أنت من قوله في الكلمة الأخرى:
) تذكُرت ما بَينَ العُذيبِ وبارِقِ ... مَجَر عوَالينا ومَجرَى السوًابقِ (
) وصحُبةَ قومٍ يذَبحُونَ قَنيصهم ... بفضلاتِ ما قد كسروا في المفارقِ (
) ولَيلًا توسدنا الثوِيةَ تَحته ... كأن ثَرًاها عَنبر في المَرافقِ (
فقلت: أخذ البيت الخير من قول أبي عيينة:
بغَرس كأمثالِ الجوَاري وتُربةٍ ... كأنُ ثراها ماءُ ورَدٍ على مسِكِ
أو من قول عبد الصمد بن المعذل:
يَمُحٌ نداها فيه عفراءَ جعَدَةً ... كأن ثَراها ماءُ ورَدٍ وعَنبرِ
وقد أخذه منهما ابن المعتز فقال:
فكأنما سطعَتَ مجامرٌ عَنبَرٍ ... أو فٌت فأرُ المسكِ فوقَ ثرَاك
وكأنما حصَباءٌ أرضِك جوَهَرٌ ... وكأنُ ماءَ الوَردِ قَطرٌ نَداك
ثم قلت له: أين من تغزلك ما يناسب هذا؟ فأنفرد اثنان من الحاضرين لتعليق ما ينجم من جواب أبي الطيب عما أورده، واثنان لتعلق ما أذكره وأعدده. فلما اتسع نطاق الكلام، وماج بحره وترامت أواذيه، وغمرهم منه بما لم يستقلوا برسمه في كتاب، اقتصروا على تعليقه وحيًا، وعلى الكلمات في أوائل الأبيات، ولمعٍ نبذوها نبذًا من الاحتجاجات في دفاترهم. وتنبهت عزائمهم من التلطف في جمع ذلك لما أحتسب تنسبها له، ولم يجر شيء إلا وعملي محيط به. وقلت: أخبرني عن قولك:
) فإن كان بعض الناٌسِ سيفًا لدولةٍ ... ففي الناسِ بوقاتٌ لها وطُبول (
أهذا من صريح المدح أم هجينه؟ فقال: بل من هجينه. فقلت: ما الذي اضطرك إليه: إنها عثرة من عثرات الخاطر ينهض منها قولي:
) وإن الذي سميُ علينًا لمنصف ... وإن الذي سمَاه سيفًا لظمالمهْ (
) وما كلَ سيفٍ الهامَ حدهُ ... وتَقَطعَ لزْيات الزًمانِ مكارمهْ (
وقولي في هذا المعنى:
) تحيَرَ في سيْفٍ أصْله ... وطابعٌه الرحمنَ والمجدُ صاقل (
وفي هذا أقول مشيرًا إلى هذا المعنى، وذاكرًا حال رسولٍ كان ورد إليه من متملك الروم:
) وأنى اهتَدى هذا الرَسول بأرْضهِ ... وما سكنَتْ مذ سرتْ فيها القساطل (
) ومن أي كان يسقْي جياده ... ولم تصفُ من مزْج الدُماء المناهل (
فقلت: أخذت قولك:) والمجد صاقل (من قول أبي تمام:
متدَفقًا صَقلوا به أعراضهم ... إن السماحةَ صقيلُ الأحسابِ
وأخذتَ قولك:) ولم تصفُ من مزْجِ الدماء المناهلُ (من قول أبي سعد المخزومي:
لا يشَربٌ الماء إلا من قَليبِ دمِ ... ولا يبيتُ له جارُ على وجلَِ
وأبو سعد أخذه من بشار:
فتىً لا يَبيت على دمنْهٍ ... ولا يشَربَ الماء إلا بدمْ
فقال: وقولي:
) أماَ للخلافةَ من مشْفقٍ ... على سيفِ دوْلتها القاصلِ (
) يقُد طلاُها بلا ضاربٍ ... ويسرْي إليهمْ بلا حاملِ (
وقولي في هذا المعنى:
) عاتقِ الملك الملْك الأغَر نجاده ... وفي يدِ جبار السماواتِ قائمهْ (
فقلت: أخذت هذا من قول أبي تمام:
لقد خابَ منَ سويداءَ قلبهِ ... لحدَ سنانٍ في يدَ الله عاملهْ
1 / 8
قال: وقولي أيضًا في هذا المعنى:
) أتحسبُ بيضُ الهندِ أصلها ... وأنكَ منهاْ ساء ما تتَوَهمُ (
) إذا سمعتْ باسمْ الأميرِ حسبتهاَ ... من التيهِ في أغمادها تتبِسِم (
فقلت: الثاني من قول أبي نقلًا من جهة إلى جهة:
تتيه الشمسُ والقمرُ المنيرُ ... إذا قلنُا كأنهماُ الأميرُ
وقلت: فأخبرني عن قولك في مرثية أم سيف الدولة:
) ولا من في جناَزتها تجارُ ... يكون وداعهمْ نَفَض النعال (
أهكذا يؤبنُ مثلها، وقد كانت بلقيس عصرها قدرًا عظيمًا وملكًا جسمًا، وحديثًا وقديمًا فقال: ألستُ في هذه الكلمة:
) مشىَ الأمراءُ حوليهْا حفاةً ... كأن المرْو من زف الرئال (
) وأبرزَتَ الخدودُ مخبَتاتٍ ... يضَعنَ النفًس أمكنهَ الغوالي (
) أَتَتْهُنَّ المصيبةُ غافلاتٍ ... فَدَمْعُ الحُزْنِ في دمع الدّلالِ (
وأنشد أبياتًا من محاسن هذه القصيدة: البيت الأول من هذه الأبيات من قول الصنوبري: نؤومُ الضحىَ أذهبُ القنافذِ عندهُ إذا ما عراه النومُ أهبُ الثَعالب أو من قول ابن الرومي:
لوْ أنها استلقتْ على شوْك الحسكْ ... تحتَ الزَباةِ وجدته ْكالفَنَكْ
والبيت الأخير من هذه الأبيات ينظر إلى قول العباس بن الأحنف نظرًا خفيًا. وهو من معانيه التي اخترعها:
) بكتْ غيرَ آسيةٍ بالبكاءِ ... ترى الدمع في مقلُتيَهاَ غريبا (
وعلى ذلك فمن الواجب ألا تدفع عن إحسان انتظمه شعرك، ولا عن معنى نكد طوح به في البلاد فكرك. ولكنك في البيت من القصيدة والأبيات إحسانًا لا يجهله نقاد الكلام وأرباب البيان، إنجازًا في عبارته، وإبداعًا في نظمه، وصوابًا في معناه، وسلامة في لفظه. ثم تشفع ذلك بالأبيات السخيفة لفظًا ومعنى، وبالأبيات التي تغير على معانيها وبعض ألفاظها إغارة الذئاب المعط على سرح النقد، فتاتي القصيدة بالشعر على غير مشاكهة. ومن أفحش المعايب ألا تقع اللفظة مصاحبة أختها، ولا مزاوجة ما جاورها. وقد قال مروان بن سعيد بن عباد بن حبيب ابن المهلب بن أبي صفرة، مخاطباَ عبد الله بن محمد أبي عيينة:
ما بالُ شِعِرك ملُتاثًا ومختلفا ... بيتًا ثَنِيا وبيتًا ساقطًا خرَفاَ
وقال عمر بن لجأ لابن عم له: أنا أشعر منك. قال: وكيف؟ قال: لأني أقول البيت وأخاه وأنت تقول البيت وابن عمه ألا ترى إلى قول الشاعر:
وشعْر ٍكبعْرِ الكْبشِ فرُق بينهُ ... لسُان دعيٍ في القرَيضِ دَخيلِ
يقول: هو مختلف المعاني متباين المباني جارٍ على غير مناسبة ولا مشاكلة ولا مقاربة، لأن بعر الكبش يقع متبددًا متفرقًا متباينًا. وقد قال الكميت:
وقد رأيناْ بها حوُرًا منعًمةً ... بيضًا تكاملَ فيها الدَّل والشًنبُ
فعاب هذا عليه نصيب وقال: هلا قلت كما قال ذو الرمة:
لمياءُ في شفٌتَيْها حوةُ لعسٌ ... وفي اللثاتِ وفي أنيْابها شَنبُ
وهذا لعمري عيب فاحش لأن الكلام لم يجر على نظم، ولا ورد على اقتران وممازحة، ولا اتسق على اقتران. ومما يحتاج إليه القول أن ينظم على نسق المماثلة وأن يوضع على رسم المشاكلة.
ومما ذهبت فيه هذا المذهب قولك:
) ما أبعدَ العيبَ والنٌقصانَ من شيميَ ... أنا الثَرياَ وذانِ الشُيبُ والهرمُ (
وهذا أيضًا كلام جار على غير مناسبة؛ لأن الثريا ليست من جنس الشيب والهرم ولا هما من جنسها. وكان وجه الكلام أن قول: أن الثريا سفورًا وعلوًا وذان السهى خفاءً وخبوًا. أو أن تقول: أنا الشباب وذان الشيب الهرم. وربما أوردت البيت مشتملًا مستودعًا من المعنى المستحيل على ما يهيجن القصيدة بأسرها، ولو كان من لباب اللفظ ونصاب الفصاحة، كقولك في القصيدة التي أولها:
) سِربُ محَسِنٌهٌ حُرِمت ذَوَاتِها (
وكأن هذا البيت من كلام الشبلي أو سمنون الصوفي. ثم تغزلت فقلت:
) إني على شَغفَي بما في خُمرِها ... لأعِف عَما في سَرَاويلاتِها (
وشتان هذا من قول الأول:
لا والذي تسجُدُ الجباهُ لهُ ... ما لي بما تحتَ ذيلهاِ خَبرُ
فقال أبو الطيب: إن ذاك، وعلى هذا فليس الذي قلته بأفحش من قوله امرئ القيس:
فمثْلِكِ حبلىُ قد طَرقتُ ومرْضعِ ... فأنْهيتهاُ عن ذي تمَائمَ محوْلِ
1 / 9
إذا ما بكى من خلفها انصرفتْ لهُ ... بشقٍ وتحتي شقُها لمْ يحولُ
فقلت: أن امرأ القيس كان مفركًا والحبلى الرغبة في الرجال.
فيقول: إذا أليتها فأنا إلى غيرها أحب. وقد أخذت هذا البيت من أسلم بيت وأكرمه لفظًا:
لا والذيٌ تسُجدُ الجباهٌ لهُ ... ما لي بما تحتَ ثوْبهاِ خبَرُ
ولا بفيها ولا هممْتٌ بهاِ ... ما كان إلا الحديثٌ والنظر
وقولك الآخر في هذا النحو أسمي وأكرم وهو:
) يردَ يدًا عن ثوْبها وهو قادرُ ... ويعصي الهوَى في طيفهاَ وهوَ راقُد (
فقال: ألم أقل في الكلمة الثانية:
) أقْبلتهأُ غرُرَ الجيادِ كأنما ... أيدي بني في جَبهاَتها (
وفيها أقول:
) ومقانبٍ بمقانبٍ غادرْتهاُ ... أقواتَ وحَشيٍ من أقواتها (
فقلت: أما البيت الأول فمن أبي نؤاس يصف كلاب الصيد:
غُرَّ الوجوُهِ ومحَجلاَتها ... كأن أيدْينا على لباتها
والبيت الثاني من قوله في هذه الأرجوزة:
بأكلُبِ تمرحُ في قدَاتهاَ ... تعدُ عينَ الوحشِ من أقواتهاِ
وأبو مؤاس أخذه من قول أبي النجم:
تَعدُ عاناتِ اللوَى من مالها
وربنا أتيت بالبيت الجوف والمعتل، قال: وما المعتل والأجوف؟ فقلت: حكى يونس بن حبيب أن الأجوف الفاسد الحشو، والمعتل ما اعتل طرفاه. وحدود الشعر أربعة: وهي الفظ والمعنى والوزن والتقفية. ويجب أن يكون ألفاظه عذبة مصطحبة ومعانيه واستعاراته واقعة وتشبيهاته سليمة. وأن يكون سهل العروض رشيق الوزن متخير القافية، رائع الابتداء وربما أخليت وأخلفت وأعذرت وهلهلت، وما أراك تتطلع على موجب هذه الألفاظ. قال: وأي موجب لها! وإنما توردها تسمحًا وشغفًا بالإطالة وتسحبًا بالدعاوى الباطلة. فقلت لا تطل عناج القول في ما يخرج عن مذاهب أهل الفضل فتسمع من القول ما يضيق ذرع صبرك عنه. فقد قال امرؤ القيس:
إذا المرءُ لم يحزُنْ عليْهِ لسانهُ ... ليسَ على شيء سواهُ بخَزّانِ
بل يقال للشاعر إذا أتى بأبيات مشتملة على معان مبتكرة وألفاظ متخيرة، ثم أورد في أثنائها بيتًا خاليًا من هذا الوصف: قد أخلى ويقال له إذا أتى بمعنى لم يستوفه: قد أعذر. وإذا خالف بين قافية الضرب وقافية المصراع في افتتاح القصيدة: قد أخلف كما قال ذو الرمة:
ألا يا اسلمي يا دارَ ميَ على البلىَ ... ولا زالَ منهلًا بجرْعائك القطْرُ
فكأنه لما قال) على البلى (وعد ينظم قصيدة على روي وكأنه لما قال) القطر (أخلف ذلك الوعد إذ جعلها رائية. ثم قلت: ومن غزلك الذي باينت فيه مذاهب المطبوعين والمرهفين قولك:
) ربحْلةٍ أستمرٍ مقَبلهاُ ... سبحْلةٍ أبيضٍ مجرَدها (
فالربحلة: العظيمة الجيدة الخلق، والسبحلة: الطويلة العظيمة، ورجل سبحل ربحل. لذلك تستهجن هاتان اللفظتان في ألفاظ المحدثين، لأنهما من ألفاظ العرب الجافية. وقد أخذتهما نسخًا من قول بعض العرب في ترقيص بنية له:
سبحْلةُ ربحْلهْ ... تنميَ نَباتَ النخلةْ
قلت: وأخبرني عن قولك واصفًا فرسًا:
) قد زادَ في السُاقِ على النَقانقِ ... وزادَ في الأذن على الحَرانق (
) وزاد في الحذْر على العقاعق (
قال: وما في ذلك؟ قلت: إقدامك على نظم هذا الكلام الساقط واجتراؤك على قرع السماع بمثله غير مستحيٍ ولا مراقب. فما تريد بقولك) زاد (أزاد في قوة الساق أو في طوله، وفي خلق أذن الخرنق أو في لطف سمعها؟ ما أسخف هذا لفظًا وأقله من البيان حظًا، وإنما ذهبت في قولك:
) قد زاد َفي الساقِ على النقانقِ (
إلى قول أبي دواد:
لهُ ساقا ظليمٍ خا ... ضبٍ فوجئ بالرعُبْ
وفي قولك:
) وزاد في الحذرِْ على العقاعقِ (
قول بعض العرب:
منُيتُ بزَمرًدةٍ كالعصاَ ... ألصَ وأخبثَ من كنُدشِ
وقولهم:) هو أحذر من كندش (، وهو العقيق. وقد سمعت قول امرئ القيس
لهُ أبْطلاَ ظبيٍ وساقا نعامةٍ ... وإرخاء سرْحانٍ وتقربُ تتفُلِ
1 / 10
فليلهك عن وسواس فكرك هذه الألفاظ التي ذهبت بك في التيه، وانظر إلى جمعه بين هذه الألفاظ المتباينة والأجزاء المتحاجزة. فإنه شبه في هذا البيت أربعة أشياء، إذ كان مخرج هذا اللفظ في التشبيه حتى يكون المعنى المقصود واقعًا من البيان، على أن له أيطلين كأيطلي الظبي وساقين كساق النعامة وإرخاء كإرخاء السرحان وتقريبًا كتقريب التنقل. فضلت في أبياتك هذه عن مدرجة الإحسان وأطفأت بهذه الألفاظ القلقة مصباح البيان. قال: ففيها أقول:
) يرٌيكَ خُرْقًا وهوَ عَينٌ الحاذِقْ (
فاحفظني ذلك القول منه وقلت: أراك تعتدنا نَعم! فقال: حاشى لله. فقلت: أما هذا مسلوخ سلخ الإهاب من الرجز يصف ناقة:
خرْقاء إلا أنها صناعُ
أو من قول حميد بن ثور:
فقال وسنْانً ولماُ يرْقدُ ... إلى صناعِ الرجَل خرقْاء اليَدِ
وهذان البيتان من أوجز ما قالته العرب. وما يجري معهما في الاختصار وحسن الإيجاز وقرب المأخذ قول الآخر يصف سهمًا:
غادرَ داءً ومضىَ صحيحاَ
ومثله قول الآخر يصف وحشًا وسهمًا:
حتى نجاَ من جوْفهِ وما نجاَ
وقد قال أبو نواس:
صنعْ اللطيفةِ واستلابَ الأخرقِ
فكأنه من قول حميد بن ثور:
بَنتَْ بيتهُ الخرْقاءُ وهي لطيفةُ ... لهُ بمراقٍ بينَ عُودَين سلماَ
وفي هذه يقول في صفة الفرس:
) بذَ المذاكيَ وهوَ في العقائق (
وإنما أخذه من قول الراجز:
قد سبقَ الأقرَح وهوَ رابضُ ... فكيفَ لا يسبقَ إذ يراكضُ
يريد أن أمه قد سبقت وهو في بطنها. ثم قلت: وقد تبردت في هذه الأرجوزة على عادتك بان قلت:
) أقام فيها الثْلجُ كالمراِفقِ ... يعقد فوقَ السنَ ريقَ الباصقِ (
وأشهد الله أن هذا من غث الكلام وسقط الشعر. فقال بعض صاغيته: أيقال لكلام مثله غث؟: أجل أليس هو القائل:
) ألعبْدُ لا تفضُلُ أخلاقهُ ... عنْ فرجهِ المننُ أو ضرْسه (
ومن براداته قوله:
) وإنماٌ تحتاْلُ في حلُه ... كأنكَ الملاحُ في قلَسهِ (
ونحو هذا قوله:
) لسريِ لباسهُ خشُن القُطْ ... نِ ومرْويُ مرو لبسُ القرود (
وقوله:
) وكنتُ من الناسِ في محْفلٍ ... فها أنا في محفلٍ من قُرودِ (
) فلا تسَمعنَ من الكاذبينَ ... ولا تَعبأنَ بمحْل اليَهودِ (
ومن قبيح التشبيه قولك تصف كتيبة:
) وملمْومةٍ سيفَيةٍْ ربعَيةٍ ... يصيحُ الحصىَ فيهاَ صياحَ اللقَلقِ (
وقد أخذته من قول ابن المعتز:
وبلدةٍ صائحةِ الصُخورِ
وأحسن من هذا قول النامي في كلمة امتدح بها سيف الدولة أولها:
قفوا وعليهِ الدَمعُ فهوَ كثيبَ
فقال فيها:
تتُعتعُ ألفاظَ الحَصىَ بسنَابكٍ ... إذا كلمَتُهْ عجُمهنُ تُحبُ
فقال: أما تشبه أصوات الحصى من تحت حوافر الخيل أصوات اللقالق؟ فقلت: هبه أشبهه فهل هو من محاسن التشبيه؟ ألا ترى أنهم هجنوا قول لبيد:
. . . وترْكًا كالبَصلْ
وهو تشبيه واقع، وذمواُ قول الآخر:
والخيل من خلَل الغُبارِ مغُيرةُ ... كالتمرِ يُنثرُ من وراء الجرَمِ
والجيد قول الشعر: يقول: خرجت متساوية كتساوي أصابع المصطلي عند اصطلائه.
ومن جافي لفظه قوله:
) أين التوْرابُ قبلَ فطامهِ ... ويأكلُهُ قبلَ البلوغِ إلى الأكْلِ (
فلفظة التورْاب على سلامة مصدرها جافية جدًا. وقد اعتمد في هذا البيت على أرق بيت في معناه وأشجاه لفظًا، وهو قول محمد بن يزيد الأموي السلمي:
فَطمَتكَ المنونَ قبلَ الفِطامِ ... واحتواكَ النقصانُ قبل التَمامِ
ومن سفاف الكلام وسقطه ومستعجمه قوله:
) صَغرْتَ كلً مكبُرٍ وعلْوت عن ... لكأنهُ وبلَغتَ سنّ غلاُمِ (
فهذا من النسخ الغلق القلق، وهو مع قلقه مأخوذ من أعذب لفظ واسلمه. قال بعض الشعراء المتقدمين في الدولة الأموية:
بَلغْتَ لعشَرِ مضتْ من سنيكَ ... ما يبلغُ السَيدُ الأشيَبُ
فهمُك فيها جِسامُ الأمورِ ... وهمُ لداتكَ أنْ يلَعبوا
وأحسن من قوله:) صغرَتْ كُل مكبرَ (قول الأول:
لهُ هممُ لا منتهىُ لكبارهاِ ... وهمتهُ الصغرُى أجلُ من الدهرِْ
ومن براداته قوله:
1 / 11
) كَريمُ نَفضتٌَ النٌاسَ لماُ بلغتهُ ... كأنهمُ ما جفَ من زادِ قادمِ (
فتبًا لهذا التشبيه، وضلة لهذا التمثيل، ويا رحمتا للممدوح به والمواجه بإفساده. وقوله أيضًا:
) يقْضمَ الجمرَ والحديدَ الأعادي ... دونهُ، قضمَ سكُرَ الأهوازِ (
وفي هذه الكلمة يقول واصفًا سيفًا:
) حَمَلتْهُ حَمائلُ الدهُرِ حتى ... هيَ محُتاجةٌ إلى خرازِ (
على أنه قد أخذه من قول البحري يصف سيفًا:
حَملَتْ حمَائلهُ القديمةُ بقلةً ... من عهدِ عادٍ غضَةً لم تذْبلِ
ولعمري لقد فات فحول الشعراء في وصفه هذا السيف، وجرى وإياهم في حابه الإحسان فقصروا عن غاية سبقه، وألهانا قول المتنبي هذا في وصفه سيفه:
) هيَ مٌحتاجةُ إلى خَرازِ (
عن قول طرفة في وصفه سلفه:
أخي ثقَةٍ لا ينثني عنَ ضريبةٍ ... إذا قيلَ مَهلًا قال حاجزهُ قَدي
حسامُ إذا ما قمتَ منُتصرًا بهِ ... كفى العوْدَ منه البدْءْ ليس بمعضدِ
وعن قول النابغة:
تقدُ السٌلوقيَ المَضاعَف نَسخةُ ... وتوقدُ بالصفاحِ نارِ الحُباحبِ
قوله:) إذا قيل مهلًا (معناه إذا قال مهلًا، قال الحاجز الذي بيني وبين المضروب قد أتى على ما أراد من القطع.
وقول أبي النجم:
يُذْري بإرعاسِ يمينِ المُؤتليَ ... خُضُمةَ الساعٌدِ هدَالمُختليَ
قلت: وهو القائل:
) منْ لي بفهَمِ أهيلَ عصرٍ يدُعي ... أنْ يَحسبَ الهنديُ فيهم باقلُ (
فلو أن باقلًا قائل هذا الشعرلكان منعيًا عليه في مدة، وما أكثر إعجابه بالتصغير، ولا يتفق له فيه تصغير مستعذب، ولعله احب أن يماثل قول القطامي:
قدُ يدْيمهَ التُجريبِ والحْلم إنني ... لأرىَ غفَلاتِ العيشِ قبل التجاربِ
أو قول النجاشي:
قُبيَلةُ لا يغْدرونُ بذمةٍ ... ولا يظَلمونَ الناُسَ حَبةَ خرْدلِ
وأتانا من تصغيره ما خرج عن هذا الباب، فضل فيه عن طريق الصواب وهو القائل:
) قَبيلُ أنتْ أنتَ وأنتَ منهُم ... وجدُكَ بشْرُ المَلكُ الهُامُ (
فهذا، وإن كان غشًا كما يرى الرئيس، فإنه دال على لكنه قائله. وكيف لا ينسب إلى البرد وهو يأتي بهذا ونظائره! ومن الكلام الهجين والمعنى المهين قوله: ولعمري إنُ هذا من نتائج خاطره واختراعات فكره وبنات صدره.
وكذلك قوله أيضًا:
) ففَي كل يوْمٍ ذا الدُمستقُ مقُدمٌ ... قفاُه على الإقدامِ للوجهِْ لائمُ (
وهذا من الطباق الغث، وكفى بقول عبد الصمد بن المعذل:
بدَ حسنَ الوُجوهِ حُسنُ قفَاكا
ومما يشترك في هذا المعنى قول الآخر:
قفاَهُ وجهُ ثم وجهُ الذي ... قفاءُ وجْهُ يشبهُ النُفْساَ
ومما نعي على الرمة قوله:
ومَيةُ أحسنُ الثقَلينِ جيدًا ... وسالفةً وأحسنهمُ قذالا
ومما لا ترى في برده ولا ريب في لكنه قائله:
) فحُذاَ ماء رجلْهِ وانضحَا في ... المدْنِ تأمنْ بواثق الزُلزالِ (
ومن اللكنة وركاكة اللفظ والافتقار الشديد قوله:
) العاِرضُ الهَتنُ ابن العرض الهتنِ ... ابن العرضِ الهتنِ ابن العارض الهتنِ (
وأحب أبا الطيب ناجي نجوم الدجى ليلةً كلها حتى حياه بوجهه صبحها حين انتظم له هذا البيت، وسوف يأتي فيما بعد: ومن أهجن الأقسام وأوهى معاقد الكلام قوله:
) إنْ كانَ مثُلك كانَ أو هو كائنُ ... فبرئْت حينئذ من الإسْلامُِ (
وإنما احتذى في قول بعض القضاة في أيام المأمون:
برئْتُ من الإسلامِ إن كان ذا الذي ... حكاهُ لك الواشونَ عنيُ كما قالُوا
ولكنُهُمْ لما رأوْكُْ غَرِيةُ ... بوَصْلي تواصْوا بالنُميمةِ واحتالوٌا
وكأنهَ لم يسمع قسم النابغة في قوله مخاطبًا النعمان:
ما إن نَديتُ بشيء أنت َ تكرهَهُ ... إذًا فلا رفَعتْ سوْطي إلى يدَي
إذنْ فعاقَبَني ربيُ مُعاقبةً ... قَرتْ بها عينُ منَ يأتيكَ بالحسَدِ
وينظر إلى هذا المعنى قوله في الكلمة الأخرى:
فَلوْ كفَي اليمينُ نَبتْك خوْفا ... لأفردْتُ اليَمينَ من الشمالِ
إلى قول عمرو بن قميئة:
فما قُلتُ ما نطقواَ باطلًا ... ولا كنتُ أكرهُهُ أنْ يقُالا
فإنْ كان َ حقًا كما خَبرُوا ... فلا وصَلَتْ لي يمينُ شِمالا
1 / 12
ومن هاهنا أخذ النابغة قوله:
إذنْ فلا رفَعَتْ سوْاطي إلى يديَ
وهبه لم يرد هذا، أما روى قول أبي سعد المخزومي:
لا والذي خَلقَ الصهُباءَ من ذهَبٍ ... والماءَ من فضةٍ لا سادَ منَْ بخلاَ
ولا روى قول علي بن محمد العلوي البصري:
يلَقىْ الرماحَ بنحرهِ وبصَدرهِ ... ويقيُمُ هامتَهُ مقُامَ المغفَر
ويقولُ للطُرفِ اصطبرْ لشبا القنَا ... فهدَمت رُكنَ المجدِ إن لم تُغفرِ
وإذا تأمل شخصَ ضيفٍ طارقًا ... مُتسَربلًا سرْبالَ ليلٍ أغبرِ
أوْمأ إلى الكوْماء هذا طاِرقٌ ... نحَرتْنَي الأعداء إن لم تنُحْري
غث الكلام ومستكرهه قوله:
) فتىَ ألفُ جزْءٍ رأيهُ في زمانهِ ... أقل ُ جُزيءٍ بعضهُ الرأيُ أجمعُ (
وقوله:
) فكلُكمُ أتى مأتيَ أبيهِ ... وكلَ فِعالِ كُلكمُ عُجابُ (
فهذا لفظ مضطرب ونظم متهافت وقوله:
) يا منَ نلوذُ من الزمانِ بظلهِ ... أبدًا ونطردُ باسمهِ إبليساَ (
) خيرُ على القُصوُرِ وشرهاَ َ ... يأوي الخرابَ ويسكنُ النُاوُوسا (
وفي هذه الكلمة يقول يقول خير الطيور على القصور فمن الطيور التي تألف القصور المبينة اللقالق والهام، وليست بخير الطيور.
ومن سفساف الكلام قوله:
) حتى يقولَ الناُسُ ماذا عاقلًا ... ويقول بيتُ المالِ ماذا مسُلماَ (
وإنما آذاه قول عبيد بن أيوب العنبري أحد اللصوص:
ما كانَ يعُطي مثلهاَ في مثْلهِ ... إلا كَريمُ الخيمِ أوْ مَجنونُ
وإلى هذا ذهب أبو نواس في قوله الذي تاه خاطره عن طريق الصواب فيه: جاد بالأموالِ حتىٌ قيلَ ما هذا صحيحُ فقال أبو تمام:
ما زالَ يهذيَ بالمكارمِ والندىَ ... حتى ظننَا أنهُ محمومُ
فقال البحتري وأحسن في عبارته:
إذا معشُر صانوا السماحَ تعسرتْ ... به همةٌ مجْنوُنةُ في ابتذالِهِ
وكل هؤلاء أرادوا قول الأول:
في حبُ منَ يرْجىُ فَواصلهُ ... فاستمطرواُ من قرُيشٍ كل منُخدعِ
تَخالُ فيهِ إذا خادعته بلها ... عن مالهِ وهوَ رابي الدُين والورَعِ
فوقع إلى التيه، وتَد هدىَ أبو الطيب في آثارهم على أم رأسه. وقد ألمُ بهذا المعنى أبو تمام فتخطىُ العيب فيه:
ولَهَتهُ العلىُ فليسَ يَعُدُ ... البؤسَ بؤسًا ول النٌعيمَ نعيَماَ
وقوله:
) كأني دحوْتُ الأرْضَ من خبرتيَ بها ... وكان بني الإسكندرُ السدُ من عزمي (
وهذا لفظ مستهجن، وتشبيه غير مستحسن. وإنما أراد به قول أبي تمام على أنه لا خير فيه أيضًا:
فطَحطحتُ سدًا سدُ يأجوجَ دونهُ ... منَ الهمَ لم يفرغْ على زبْرهِ قطرُ
ومما لا طائل فيه قولك:
) دانٍ بعيد مجيبٍ مبغضٍ بهجٍ ... أعزَ حُلوٍْ ممرٍُ لينٍُ شرسِ (
) ندٍ أبيٍ غرٍوافٍ أخي ثقةٍ ... جعدٍ سريٍ نهٍ ندبٍ رضىً ندُسَ (
أخذ قوله:) حلُوْ ممرُ (من قول الشنفري بل من قول الهذلي:
حُلوْ ومرُ كعطْفِ القدحِ مرتهُ ... في كل إنيٍ قضاهٌ الليلُ ينتعلُ
ومما لا طائل فيه أيضًا قولك:
) العارض الهَتنُ ابن الهتنِ ... ابن العارضِ الهتن ابن العارض الهتنِ (
ونحو هذا قولك أيضًا:
) أطعَنُها بالقناةِ أضربُها ... بالسٌيفِ جحجاحُها مُوَودها (
) أفْرسهاُ فارِسًا وأطْولهاُ ... باعًا ومغوراُها وسيُدها (
) شمسُ ضحاها هلالُ ليلتها ... دُرٌ تقاصيرها زَبرْجدها (
وهو مع ذلك مركب تركيبًا على قول أبي بكر دريد في قصيدة أولها:
ما شُغُلي بالطولِ أندُبهاُ
حجْزُ فتَى يعْربٍ ومِدرْههاُ ... وسيُفها المنُتضى ومحرَبهاُ
صندْيدُها حصْنهاُ خبعْثنُها ... أطْعنهاُ بالقنَا وأضْربهاُ
لهُمٌومهاُ قرمهاُ مقدَمهاُ ... ضيغمهاٌ نجمهاُ عصبصَها
وجرى في نحو هذا عدة أبيات. ولم نسمع بأحد شبه الرجل بالزبرجد قبله، وهذا من معانيه الأبكار وألفاظه الأحرار.
ومن هجين الكلام قوله أيضا:
) وليسَ كبحرِ الماء يشتَفُ قعَرهَ ... إلى حيث يفَنى الماءُ حوتُ وضفدعُ (
ومن الغثاثة التي لا ريب فيها قوله:
) غثاَتهُ عيْشي أنْ تغثُ كرامتي ... وليسَ بغَثٍ أنْ تغثً المآكلُ (
1 / 13
وأهجن من هذا لفظًا وأقل من البيان حظًا قوله:
أديبُ رستْ للعلمِ في ارضْ صدرهِ ... جبالُ، جبالُ الأرضْ في جنبها قفٌ
) جوادُ سمتْ في الخيرِ والشرُ كفهُ ... سمُوًا فَود الدُهر أن اسمه كفُ (
) فليس بدونٍ يرْتجَى الغيثُ دونه ... ولا ينتهي الجودُ الذي خلفْهَ خلفُ (
وقوله:
) واغتفارُ لوْ غَيرَ السخُط منهُ ... جعُلتْ هامهُمُ نَعالَ النعالِ (
وقوله في وصف الغيث:
) لسَاحيهِ على الأجداثِ حَفْشىُ ... كأيدْي الخيلِ أبصرتِ المَخالي (
وإنما اغتره قول زهير:
. . . يحْفشىُ الأكْم وايلُه
لم يذكر البيت.
فأما أن يستقي مستسقٍ للقبور غيثًا يحفش تربها وينبث ثراها، فلم يقله أحد. وإنما يستقى لديار الأحبة ولقبور الأغرة لتكلأ تلك الأرض، وتعشب تلك البلاد فتنتجع. فيتذكر أهلوها ويترحم على من واراه الترب فيها. وينتج كل من نأي عنها ثم يحترسون في السقيا من أن تدرس مغانيها وآثارها كما قال طرفة:
فسقى دياركَ غَيرَ مفسدهاِ ... صَوْبُ الربيعِ وديمةُ تهْمي
وقال الآخر:
سَقىَ اللهُ سُقيا رحمةٍ أهل بلدةٍ
احترس بقوله:) سُقيا رَحْمةٍ (احتراسا لطيفًا. فأما أن يستقي غيثًا لها يعفي الأثر وقعه كوقع أيدي الخيل تضرب الأرض، حتى يهدمها ويحفرها فلا. وقوله:
) وأظنُهُ حَسبَ الأسنَةَ حُلوةً ... أو ظَنهاَ البرْنيٌ والآزادا (
وقد نعي على كثير قوله وهو دون هذا:
وهمْ أحلى إذا ما ذُقْتَ يَوْمًا ... على الأحناك من رطبِ ابن طابِ
وغير عليه فجل:) من عسَل اللعاب (وكلاهما لا خير فيه. ثم قال:
) فغدَا أسيرًا قد بَللتْ ثيابهُ ... بدمٍ وبلَ ببوْله الأفخاذَا (
وكذلك قوله:) الازاذا (وهذه قافية قلقة مجتذبة مجتلبة معلولة غير مقبولة. وسبيل الشاعر أن يعنى بتهذيب القافية فإنها مركز البيت حمدًا كان ذلك الشعر أو ذمًا، وتشبيبًا كان أو نسبيًا، ووصفًا كان أو تشبيهًا. وأن يتأمل الغرض الذي يرميه فكره، فينتظر في أي الأوزان يكون أحسن استمرارًا، ومع أي القوافي يكون أشد اطرادًا، فيكسوه أشرف معارضه، ويبرزه في أسلم عباراته، ويعتمد إقرار المعاني مقارها، وإيقاعها مواقعها. وقد حكى عن الحطيئة أنه قال: نقحوا القوافي فإنها حوافر الشعر. فشتان ما بين قولك) الأفخاذا (وقول الحطيئة:
همُ القومُ الذينَ إذا ألمتْ ... منَ الأيامِ مظُلمةُ أضاءوا
فلقوله) أضاءوا (موقع لطيف؛ وذلك أنها لفظة لا يستطاع تبديلها بغيرها، ولا تغييرها بما يسد مسدها. وكذلك قول النابغة:
كالأقْحوان غداةَ غِبَ سمائهِ ... جَفُتْ أعساليهِ وأسفُلهُ ندىَ
فلقوله:) وأسْفلُهُ ندىَ (موقع عجيب في هذا الموضع؛ وذلك أن الأنوار. فكره أن يشبّه الثغر به في هذا الحال، فيكون الثغر كالمتركب بعضه على بعض، فشبهه بالأقحوان إذا أصابته الشمس؛ فقال:) جَفتّ أعاليه (أراد انبسطت وذهب تجعيدها ثم قال:) وأسُلفه نَدى (فاحترس أن يكون ذَوَى وجفّ. وقولك: قد) بَلَلت ثيابهَ. . . وبلّ ببوله الأفخاذا (ينظر إلى قول الأول:
آليْتُ لا أدفنُ قَتْلاكُمُ ... فدَخنَوا المْرء وسْربالهُ
يقول: إنه إذا طعنه أحدث في سرجه، كنى عن ذلك بهذه الكناية البليغة البديعة، وعبر بهذه العبارة الجزلة. ومن القول في المباني المسفرة قول امرئ القيس:
فإنكَ لم يفْخرْ عليَك كفاخرٍ ... ضعيفٍ ولم يغلْبك مثلُ مغلُب
وقول زهير:
وأعلمُ ما في اليوْمِ والأمسِ قبلَهُ ... ولكنني عن علمِ ما في غدٍ عمىَ
ومن ألفاظه القلقة ومعانيه الغلقة قوله:
) لم تحْكِ نائلَك السحابُ وإنما ... حُمتْ بهِ فصبيبهُا الرحضاءُ (
وإنما نظر إلى قول أبي نؤاس:
إن السَحابَ لتَستحيي إذا نظرتْ ... إلى نداكَ فقاستهْ بما فيها
حتى تهم ّ بإقْلاعٍ فيَمنعهاُ ... خوفُ العقوبةِ عن عصيانِ باريها
ومما هذه سبيله قوله:
) يكادُ من صحةِ العزيمةِ أنْ ... يفعلَ ما لا يكادُ ينفعلُ (
ومن خروجه المتكلفُ المتعسفُ الذي باين مذاهب المحدثين قوله:
) أحبكِ أوْ يقولوا جرّ نمْلُ ... ثبيرًا وابن إبراهيمَ رِعًا (
1 / 14
ريع من الروع. فما ابعد هذا الكلام من الإحسان، وأشد مباينته للبيان وأدله على ضيق عطن قائله، وعلى فساد تخيله وما أحسبه سمع قول منصور النمري:
أجدَك هل تدرينَ أنْ رُبّ ليلةٍ ... كأنً دُجاها من قُرُونكِ يُنشَرُ
صَبَرٌتُ لها حتى تَجَلٌتٌ بغُرةٍ ... كغُرةِ يحيى حينَ يذٌكرُ جَعفرُ
ولا طالع قول محمد بن وهيب:
ما زالَ يلٌثمنٌي مرَاشفَهُ ... ويعِلني الإبريقُ والقَدَحٌ
حتى استَردَ الليلُ خلعتهْ ... وبدا خلالَ سوَادهِ وضَحُ
وبدا الصباحُ كأنّ طلعَتهِ ... وجهُ الخليفةِ حينَ يمتدحُ
ولا قول البحتري يصف دارًا:
ولو أننّي أعطيتُ فيهنّ المنىُ ... لسَقيتُهنُ بكفّ إبراهيما
وقد أخذت هذا فقلت:
) سقىَ مثواكِ غادٍ في الغوادي ... نظيرُ نوالَ كفكِ في النَوالِ (
ولا قوله:
وقاسَينَ ليلًا دونَ قاسانَ لم تكدْ ... أواخرُهُ من بعدِ قُطريهَ تلحقٌ
بحيثُ العطايا موُمضاتٌ سوافرٌ ... إلى كل عافٍ والمواعيدٌ فُرّقٌ
ولا قوله:
شقائِقٌ يحملنَ الندَى فكأنهُ ... دموُعُ التصابي في خدودِ الخَرائدِ
كأن يدَ الفتحِ بنِ خاقانَ أقبلتْ ... تليها بتلكَ البارقاتِ الرّواعدِ
بلى قد قرأت هذا، فإنك أخذت المعنى فيه فقلت:
) ردّي الوِصالَ سقى طولَك عارضُ ... لو كانَ وصْلكِ مثلهَ ما أقْشعاَ (
) زَجلًا يريكِ الجوّ نارًا والملاَ ... كالبحرِ والتلعاتِ روضًا ممرعاَ (
) كبَنان عَبدِ الواحد الذي ... أروى وآمنَ منَ يشاءُ وأجزَعاَ (
ومن أحسن الخروج قول أبي تمام:
إساءةَ الحادثاتِ استنبطي نَفقاَ ... فقد أظلكِ إحسانُ ابن حَسانِ
وقوله:
فَعَلَتْ مقُلتاهُ بالصبّ ما تفْعلُ ... جدوْىَ بدَيْكَ بالآمالِ
وقوله:
لا تنكري عطَلَ الكريمِ من الغنيِ ... فالسُيلٌ حَربُ للمكانِ العالي
وتنظَري خنَببَ الرَكابِ ينٌصهاّ ... محييُ القريضِ إلى مميتِ المالِ
بَسَطَ الرجاءَ لنا برغَمِ نوائبٍ ... كَثرتْ بهنّ مَصارع الآمالِ
أغلى عذاريَ الشَعرِ أنْ مُهوُرها ... عندَ الَكريمِ إذا رَخُصْنَ غَوالي
ومن مستغلق كرمه وجافي تشبيبه قوله:
) إذا عذَلوا فيها أجَبتُ بأنهُ ... حُبيبتاَ قلبيَ فؤادا هيا جمْلُ (
ومن الغلق المستغلق قوله:
) أرْضُ بها شرَفُ سواِها مثلهاُ ... لو كانَ مثلكَ في سواها يوُجدُ (
يقول: إن لهذه الأرض التي شرفًا بحلولك إياها، ولو ألقي مثلك في أرض أخرى غيرها لكانت مثل هذه. قوله:
) مَنْ في الأنامِ من الكرامِ ولا تقلُْ ... من فيك شأنُ سوى شجاعٍ يقصدُ (
يريد: لا تقل من فيك يا شأم بل من في الأنام أجمعين من يقصد. ومن المستغلق فيها قوله:
) أتى يكون أبا البرِيةِْ آدمُ ... وأبوكَ والثَقلانِ أنتَ مَحمدُ (
تقدير الكلام: كيف يكون آدم أبا البرية وأبوك محمد وأنت الثقلان. وربما يريد أنت الأنس والجن، وآدم واحد من الإنس، وأبوك محمد، فكيف يكون آدم أبا البرية؟ وقد فصل بين المبتدأ الذي هو) أبوك (وبين الخبر الذي هو) محمد (بالجملة التي هي قوله) والثقلان أنت (، وهذا تعسف شديد، ومذهب عن الفصاحة بعيد. ومن المستعجم المبهم قوله:
) وكمْ وكم حاجةٍ سمحتَ بها ... أقربُ مني إليَ موْعدها (
وهذا من مستهجن الكلام، ومستكره التركيب. وإنما ذهب إلى مصر عمر موعده، وقرب وعده في إنجازه، فأساء العبارة عن هذا المعنى كل الإساءة. ومن هذا الجنس قوله:
) وأبعدَ بٌعدناَ بعُدَ الّتدّاني ... وقرَب قرْبناَ قربَ البعادِ (
يقول: أبعد ما كان بيننا من البعد فجعله كبعد التداني الذي كان بيننا، وقرب قربنا فجعله مثل قرب البعاد كان بيننا، ذهب إلى أن قربه إليه كان بحسب ما كان بينه وبينه من البعد.
ومن أسوأ العبارة قوله يصف فرسًا:
) سَبوحُ لها منها عليهاَ شَواهدُ (
وقوله:
) اخترتُ دَهماءَ تَين يا مطرُ ... ومنْ له في الفواضلِ الخبرُ (
1 / 15
يريد: اخترت الدهماء من هاتين الفرسين يا رجلًا يجري في جوده مجرى المطر وهذا كلام يشهد تكلفه واستكراهه ببعده عن مدرجة البيان. ومن كلامه الهجين قوله في هجاء ابن كيغلغ:
) وإذا أشارَ محدثًا فكأنهُ ... قرْدٌ يقهقهُ أو عجوزٌ تلطمُ (
فقال أبو الطيب: أما طالعت في هذه القصيدة قولي:
) يحمي ابن كيَغلغَ الطريقَ وعرْسهُ ... ما بينَ رِجلهاَ الطرّيقُ الأعظمُ (
فقلت: هذا من قول الفرزدق:
وتركتَ عرْسكَ يا جريرُ كأنهاّ ... للناسِ بارِكةً طريقٌ معملُ
فقال جرير يرد فيها عليه:
وعجانٌ جِعثنَ كالطرّيقِ المُعملِ
وفي هذه القصيدة يقول:
) يرنو إليكَ معَ العفافِ وعندهُ ... أنّ المجوسَ تصيبُ فيما تحكمُ (
وهذا من قول أبي تمام:
بأبي منْ إذا رآها أبوها ... أقبلتْ قال ليت أناّ مجوسُ
فقال: ما علي حرج في البيت يشذ عن مدرجة الإحسان، واللفظ يند عن شرك البيان. قلت فأخبرني عن قولك:
) بليتُ بلى الأطلال إنْ لم أقفْ بها ... وقُف شحيحٍ ضاعَ في الترْبِ خاتمُهْ (
كيف قلته أشحيح أم شجيج؟ فقال: أنا قلته بحاء لا غير، هذا معنى اخترعته: إنما اجتذبته من قول هميان بن قحافة:
فُهنّ حَيرى كَمُضلاتِ الخَدمْ
فبين اللفظتين بون بعيد وقد أوحشت في قولك:
) بَليتُ بلىِ الأطلالِ إنْ أقفْ بها (
وأسأت في العبارة عناّ أخذته فأتممت البيت به. فانظر إلى قول أبي نؤاس في منى بيت هميان، ما أعجبه وأحسن مذهبه وأفصحه وأوضحه حين يقول:
لقد طالَ في رسْمَ الدّيارِ بكائي ... وقد طالَ ترْدادي بها وعنائي
كأني مُريغُ في الديارِ طَريدةً ... أراها أمامي مرةً وورائي
قلت: وقد كررت معنى قولك:) بليتُ بلي الأطلال (فقلت، إلا أنهُ لم يأت موجزًا إيجازك فيما تقدم:
) ما زالَ كلُ هزيمِ الوَدق ينُحلها ... والسقمُ ينحلني حتى حكتْ جسدي (
وقد عمدت في هذا البيت إلى أحسن بيت وأشرفه عبارة، فأعدته في عبارته في عبارة مجتذبة، وألفاظ غير مستعذبة.
قال محمد بن وهيب:
طَللاِنِ طالَ علَهما الأبدُ ... دَثرا فلا علْمُ ولا قصَدُ
لبساَ البِلى فكأنّما وجدَا ... بعْدَ الأحبةِ مثلَ ما أجدُ
فلو لم يكن في هذين البيتين من محاسن اللفظ إلا قوله:) لبسا البلى (فإنها استعارة واقعة حلوة. ولو شاء قائل إنها في هذا الموضع أحسن موقعًا منها معها في قول الجعدي:
لَبستُ أناسًا فأفنَيتُهْم ... وأفَنيتُ بعدَ أناسٍ أناساَ
أو من قول الآخر:
ما الضّجيعُ ثناها إليَهِْ ... تدَاعَتْ عليَهِ فكانتْ لباساَ
على أن بعض العرب قد قال وأوفى على كل مقال:
ألمْ تَرَ أنّ الريْحَ بينَ مُوَيسلٍ ... وجاَوا إذا هبتْ عليك تطيبُ
وأحسن الآخر كل الإحسان بقوله:
لمنْ طللُ وقَفتُ بهِ طريقاَ ... أسائلُ ربعُه الخلقَ السّحيقاَ
لسَمىَ لا تَغَيرَ ربعُ سلمىَ ... وألبَسَتَ الرَواعدَ والبرُوقاَ
وقول محمد بن وهيب:
لبساَ البلَ فكأنّما وَجداَ
مأخوذ من قول معلى الطائي:
لَبسنَ البلىِ حتى كأن رسومهاَ ... طَعمنَ الهوىَ أو ذُقنَ هجرَ الحبائبِ
ومن هذا أخذ البحتري قوله:
بينَ الشقّيقةِ فاللّوىَ فالأجَرعَِ ... دمنُ حبُسنْ على الرّياحِ الأربْعِ
فكأنّما ضَمنتْ مغانيَها الذي ... ضمنتهُ أحشاءُ المحبّ المُوجعِ
وكإساءتك في أخذ هذين البيتين في قولك:
) وكمْ للهوىَ من فتىً مدْنفٍ ... وكم للنوّى من قتيلٍ شهيدِ (َ
فإنّك سرقت عجز هذا البيت افحش سرقٍ من جميل، ومن محاسن قوله:
لكُلّ حديثٍ بينهنّ بشَاشةُ ... وكلٌ قتيلٍ عندهنّ شهيدُ
وما كنت أرى ذا رويةٍ يستجيز أن يهتك حرمه هذا البيت، ويأتي إلى هذه الألفاظ الرطبة العذبة فيحيلها إلى ذلك اللفظ السفساف والنظم المتهالك ومن تبديله الحسنة بالسيئة قوله
) تهَلَل قبلَ تسليمي عليْهِ ... وألقى مالهُ قبلَ الوِسادِ (
ولولا تسمحه في تناول هذه المعاني التي تقدم أربابها فيها، وسبق إلى اختراعها، لخل لسانه كما يخل لسان الفصيل الملهج: وما يصنع بقوله:
) تَهَلل قَبلَ تسليمي علَيهِ (
مع قول زهير:
1 / 16
تراهُ إذا ما جئتهُ متَهَللًا ... كأنك تعُطيهِ الذي أنتَ سائلهْ
وقد أخذ قوله:
كأنّكَ تُعطيهِ الذي أنتَ سائلُهْ
شاعر فقال في الّسري بن عبد الله:
كأنّ الذي يأتي السَريَ بحاجةٍ ... أناخ عليهِ بالذي جاء يطلبُ
وأخذه الكميت فقال:
كأنما جئتُهُ أبشرهُ ... ولم أجيءُ راغبًا ومُجتلباَ
ومع قول بعض العرب:
إذا ما أتاهُ السّائلونَ توقَدَتْ ... عَليهُ مصابيحُ الطّلاقةِ والبِشْرِ
لهُ في ذوي الحاجات نُعمى كأنّها ... مَواقعُ ماء المُزنْ في البلدِ القفْرِ
ومما سرقه فلم يزد على أن كرر لفظه في غير وزن البيت المسروق منه قوله:
) فإن الجُرْحَ ينفرُ بعَد حينٍ ... إذا كانَ البناءُ على فسادَ (
فإنّك أخذته لفظًا ومعنىَ من قول البحتري:
إذا ما الجْرحَ رُمّ على فسادٍ ... تَبينَ فيهِ تفرَيطُ الطّيبِ
ومن هذا النوع قولك:
) فمَضَتْ وقد صبَغَ الحَياءُ بياضهاَ ... لَوْني كما صَبَغَ الٌلجينَ العَسجدُ (
فما تصنع بهذا مع قول ذي الرمة:
حَوْراءُ في برَجٍ صَفراءُ في نعَجٍ ... كأنّها فضةُ قد مَسهاَ ذهبُ
ومن هذه الجذوة اقتبس بشار قوله:
قد لَحّ بي في لعبِ ... ذو راحةٍ من تَعبِ
جسْمٌ من الفّضةِ قد ... تشَرْبتْ بالذهَبِ
ومن هاهنا نقل أبو الشيص قوله في صفة الخمر:
كأنما أقداحهاُ فضِةٌ ... قد بطّنتْ بالذهبِ الأحمرِ
ومن تقصيرك في الأخذ قولك:
) لا بقوْمي شٌرْفتُ بل شُرفوا بي ... وبنفسي فَخَرْتُ لا بجدودي (
فإنك أخذته من قول الأول:
نَفس عصامٍ سَوّدتْ عصاما ... وعلَمتهُ الكرَ والإقداماَ
وجعلَتهُ مَلكًا هُماما وما تصنع بقولك وقول غيرك في هذا المعنى مع قول عامر بن الطفيل:
فما سَوّدّتني عامرُ عنَ وراثَةٍ ... أبىَ اللهّ أنْ أسموُ بأمٍ ولا أبِ
ولكننيّ أحمي حماها وأتقي ... أذاها وأرْمي منَ وماها بمقْنبِ
ومن تقصيرك فيما سرقته قولك:
) بانوا بخُرْعوبةٍ لها كَفلٌ ... يكادُ ند القيامِ يقعدها (
فإنك أخذته بقول المحدثين:
تَمشي فيقُعدها روَادِفهاُ ... فكأنما تمشي إلى خَلْفِ
فهذا هو الإعذار. ألا ترى أنك لم تستوف المعنى لأنك إنما أخذت الشطر الأول الشطر الأول من هذا البيت وغادرت قوله:
فكأنمْا تمشي إلى خَلفِ
ومن التقصير الشديد قولك:
) أمنَ ازدياركَ في الدَجى الرّقباءُ ... إذ حيثُ كنتِ من الظلامَ ضياءُ (
وهذا من التكلف الشديد، البعيد من اللفظ السديد. ثم قلت:
) قلقُ الملَيحة وهيَ مسكُ هتكهاُ ... ومَسيُرها بليلِ وهيَ ذٌكاءٌ
ففي قولك) هتْكها (هتك لحريم ودها. وقد سرقت البيت الأول من قول الشاعر:
تَبَسمتْ فانجلى الظلامَ ولمْ ... تَخفْ وقد كان قبل أخفاها
ومن قول الآخر:
قَمرَ نمَ عَليهِ حُسنهُ ... كيفَ يخْفي الليلُ بدرًا طالعاَ
وأخذت البيت الثاني من قول بشار:
أملي لا تأتِ في قمرٍ ... لحَديثٍ واثقِ الدرُعاَ
وتَوقّ الطَيب ليلَكَ ذا ... إنهُ واشٍ إذا سَطعَا
وقد أخذ بشار البيت الأول من قول عمر بن أبي ربيعة:
قالتْ صَدقتَ ولكنْ في قمرٍ ... ألا تَبصّرتَ حتى تأتي الدرعُ
ثم قلت له وأخرى من قولك:
) طَلبَ الإمارةَ في الثغورِ ونشؤهُ ... ما بينَ كَرْخايا إلى كلْواذاَ (
من أين لك هذه اللغة في) كلواذا (؟ ما أحسبك أخذتها إلا عن الملاحين.
قال: وكيف؟ قلت: وإنك أخطأت فيها خطأ تعثرت فيه ضالًا عن وجه الصواب. قال: ولم؟ قلت: لأن الصواب كلْواذ بكسر الكاف وإسكان وإسقاط الياء. قال: وما الكلواذ؟ قلت: تابوت التوراة بها سميت المدينة. قال: وما الدليل على هذا؟ قلت الراجز:
كأن أصوات الغبيطِ الشاذي ... زَبْرُ مهاريقٍ على كلْوادِ
والكلواذ: تابوت توراة موسى. وحكي في بعض الروايات أنّه كان مدفونًا بهذا الموضع، فمن أجله سميت كلوذا. وأطرق لا يحير جوابًا ثم قال: لم يسبق إلي علم هذا، وقولك مقبول والفائدة غير مكفورة. قلت: وأخطأت في قولك:
1 / 17
) وَصَلتْ إليكَ يدُ سواءُ عندهاَ ... البازيُ الأشهب والغراب البقعُ (
فإنك شدّدت الياء في) البازي (لا وجه له، ووصلت ألف القطع في الأشهب. ولا أعلم أحدًا من الفصحاء شددّ الياء في البازي إلاّ البحتري، وعليه اعتمدت، وعلى لفظ بيته ركنت في قوله:
وبياضُ البازيَ أحسنُ لوْنًا ... إنْ تأملتَ منْ سوادِ الغُرابِ
وقد ردّ هذا على البحتري وخطئ في تشديده الياء. والمسموع في ذلك لغتان: إحداهما بازُ وبزاة كما تقول قاضٍ وقضاة ورامٍ ورماة. قال امرؤ القيس:
على بازٍ في السماء محلقُ
واللغة الثانية) باز (بالهمز) وأبؤز (، كما تقول كلْب وأكلبُ ويجمع على بئزان جاء ذلك في الشعر الفصيح فقال: لم أقل هكذا وإنما قلت البازي الأشهب بسكون. فقلت: قد قطعت ألف الوصل في البازي الأشهب ووصلت ألف قطع فجمعت بين ضرورتين في بيت واحد. فقال: قد جاء مثل ذلك في اشعر. إنما جاء شاذًا وليس بسائغ لمحدث.
فقال: قد قال الطرماح:
ألا أيها اللّيل الطويلُ ألا آصبحِ
فوصل. فقلت ك الطرماح قروي والرواية الصحيحة:
ألا أيها اللّيل الذي طالَ أصبحِْ ... ببسَمٍ وما الإصباحُ فيك بأرْوَحِ
قلت: وأخطأت أيضًا في قولك:
) وأنْكَ بالأمسِ كنتَ محتلمًا ... شيخَ معدٍ وأنتَ أمْردها (
فإنك أجريت المضمر في قولك) أنْك (مجراه مع الظاهر، وفيه قبح شديد. وإنما يحسن) أنْك (بمعنى أنكّ مع الظاهر، كقول الشاعر:
ويومًا تُوافينا بوجْهٍ مقُسمٍ ... كأنْ ظبيةٍ تعطو إلى وارقِ السلَمْ
وقول الآخر:
وصدرٍ مشرقِ النحرِ ... كأنْ ثدْييهِ حُقانِ
فقال: قد قال الآخر:
فلْ أنكْ في يومِ الرخاء سألتني ... فراقكِ لم أنجلْ وأنت صديقُ
فقلت له: هذا جائز على الضرورة، ووجه جوازه ضعيف جدًا. وليس يحمل القياس الشذوذ والضرورات. وعلى أنك نظرت إلى قول أبي تمام:
وأنكَ إذا ألبستهُ العزّ منعمًا ... وسرْبلْتهُ تلك الجلالةَ مفضلاِ
ثم قلت: وأخطأت أيضًا في قولك:
) هزَمتْ مكارِمُه المكارِم كلَها ... حتى كأن المكُرمات قبائلُ (
) وقتلنَ دفرًا والدهيمَ فما ترىَ ... أمُ الدّهيم وأمُ دفرٍ هابلُ (
قال: وما وجه الخطأ؟ قلت ما أردت بقولك) وقتلنَ دفرًا والدّهيم (؟ فقال: هما من أسماء الداهية، وقد تسمى الدنيا دفرًْا. فقلت: هذا خطأ في الدّفر لم يقله أحد، ولا رواه، راوٍ، ولا ادّعاه على العرب مدعٍ. فأماّ الدفر فالنّن؛ والخبر عن عمر، رحمة الله عليه و) ادفراه (والعرب تكني الدنيا أم دفرٍ من أجل المزابل التي فيها ويقال: دفرته دفرًا إذا دفعت في صدره. وقالوا للأمة يا دفار لنتنها. ويقال: دفرًا دفرًا لما يجيْ به فلان، إذا قبحت الأمر أو نتنته. وقال صاحب كتاب العين: الدَفر وقوع الدود في الطعام واللحم، والدنيا دفرة أي منتنته. ونحو هذا ذكر ابن دريد في الجمهرة. هذا قول أهل العلم ومستودع كتب اللغة ولا يعلم أحد أنه ادعى أن الداهية تسمى دفرًا، ولا أن الدنيا تسمى دفرًا. وأما الدهيم فمن أسماء الداهية؛ والأصل في ذلك أن ناقة كانت لبعض الملوك تسمىّ الدهيم، فقتل قومًا وبعث برؤوسهم عليها في غرارة، فلماّ جاءت قالوا: عليها بيض نعام. فقال الرسول: انظروا عما يفرخ البيض. فلما نظر إلى رؤوس أولاده قال:
وعنَد الدُهمِ لوْ أحلَ عقالهاُ ... فتصعدَ لم تعدمْ من الجنّ حاديا
يريد أن الجنّ تعين على فعل المكروه. ثم كثر تشاؤمهم بهذا الاسم حتى جعلوا الداهية دهيمًا. فقال: إذا كانت الدنيا تكنى أم دفْرٍ، سميت أيضًا بدفر من أجل أن كناهم لهذه الأشياء. فقلت: الأمر على خلاف ما تخيلته، ولو كان الأمر كذلك لسميت الدنيا شملة، لأنهم قد كنوها أم شملة. أنشدنا محمد بن الحسن بن مقسم، قال: أنشدنا أحمد بن يحيى، ابن الأعرابي:
من أمّ شَملةَ ترَميْنا بوائقُهاُ ... غرّارةٍ رئيَتْ منها التّهاويلُ
ولكانت الخمر تسمى خلًا، من أجل أنهم كنوها أم الخل كما قال الشاعر:
رَمَيتَُ بأمَ الخلّ حبهَ قلبهِ ... فلمْ يستفق منها ثلاث لياَلي
1 / 18
ولم يدع ذلك أحد من العلماء ممن يستضاء بنوره، ويورد نمير مائه. ولكانت هذه الدنيا تسمى حبينًا، لتكنيتهم إياها بأم حبين. ولكانت الحمى تسمى ملدمًا إياها ملدم. فقولك:) أم الدهيم وأم دفر هابل (لا انتظام لمعناه ومحصول المعنى في بيتك أن أم النتن وأم الداهية ثاكل. وهذا من المعاني الممقوتة التي تصم ناطقها، وتهين قدره، وتسم بميسم النقص شعره، لأنه قد جمع فساد المعنى والطاء في اللغة. وفي هذه القصيدة تقول:
) لوْ طابَ مْولدُ كل حيٍ مثلهُ ... وَلدَ النّساءُ وما لهنّ قَوابلُ (
ما أراك أردت إلا أنهن يتسعن حتى لا تحس المرأة عند مخاضها بخروج الجنين عنها. وإلاّ فما وجه سقوط حاجتها إلى القابلة عند ولادتها، أما سمعت قول الأول:
حَملتْ بهِ أم ُتباركُه ... فكأنها بالحَملِ لم تدرِ
حملتْ بهِ غَرّاءُ مذُكرةٌ ... زَهراءُ بنتُ عقائلٍ زهْرِ
فأتيت بما لا يأتي به ذو مرة سوية، ولا قريحة ذكية. وما أحسن ما قال الكروس بن زيد الطائي:
لئنْ فَرحتْ ب مَعقلُ عند شدُتي ... لقد فرحتْ بي عند أيدي القَوابلِ
أهَلّ به لمّ استهلّ بصوْتهِ ... حسانُ الوُجوه ليَنات الأناملِ
فلماّ تردّى بالحمائل وانتحىَ ... يصولُ بأطرافِ الرّماحِ الذّوابلِ
تَبَيَنتِ الأعداد أنّ سناَنهُ ... يطيلُ حَينُ حنينَ الأمهات الثواكلِ
فأحنقه هذا القول وغير من لونه، واستروح إلى قول حدث مأفون العقل كان بحضرته: سبحان الله ما أعجب أول هذه القصيدة:
) لك يا منازَلُ في القلوبِ منازِلُ ... أقفرْتِ وهنُ منْكِ أواهلُ (
فلم يستكمل البيت حتى قلت له: أعجب منه، أيقظ الله رقدتك، ما استرق هذا منه وهو قول أبي تمام:
وَقَفْتُ وأحشائي منَزِلُ للأسىَ ... بهِ وهوَ قَفزٌ قد تعَفتْ منَازلهْ
وأبو تمام احتذى في هذا القول ذئب الخزاعي:
ألا منْ لطَرفٍ لا يزالُ مسهَداَ ... ويا منْ لقلبٍ لا يزالُ مصيداَ
رَماهُ الهوىَ حتى إذا شَكّ قلبهٌ ... تَرَددَ في أحشائِهِ وتَبدداَ
بنى ليَ قلبي منزِلً في فُؤادهِ ... وأعطتك من إنسانها العينُ معقدَاَ
وإلى هذا أشار قيس بن معاذ بقوله:
سَرتْ في سوادِ القلبِ حتى إذا انتهىَ ... بها السير وارتادتْ حمِى القلبِ حلتِ
فللْعَينِ تهمْالُ إذا القلبٌ ملّها ... والقلبِ وسواسُ إذا العينُ ملّتِ
ووالله ما في القلبِ شيء من الهوىَ ... لأخرى سواها أكثرتْ أمْ أقلتِ
وهذا أبو عثمان الناجم يقول على تأخر زمانه:
إذا ساءني منهُ شُحوطُ ديَارهِ ... وضاقتْ عليّ في هواهُ مذَاهبي
عطفتُ على شخصٍ له غيرِ نازحٍ ... مَنازِلهُ بينَ الحَشا والترائبِ
قلت: وأخطأت في قولك:
) مَلكُ زَهَتْ بمكانهِ أيامهُ ... حتى افتَخرْنَ به على الأيام (
وكان من الصواب أن تقول: زهيتْ بمكانه. أتراك مع فضلك وتوسعك في أدبك لم تطالع كتاب) الفصيح (وما تضمنه من قوله:) وقد زهيتَ علينا يا رجل، وأنت مزهو، وكذلك يقال: زهي الرجل وزهيت المرأة كما يقال نخى الرجل ونخيت المرأة من النخوة، فهما منخوان. وقالت عائشة، ﵂: الحلي مستعار للعرائس وفلانة تزهى أن تلبسه. ولا يقال زها إلا في النبت إذا اصفر وظهر زهوه أي صفرته. ونهى رسول الله، ﷺ آله، عن بيع التمر حتى يزهو. وبعض أصحابنا يقول حتى يزهي من أزهى. وذكر أن) يزهو (خطأ والزهو البسر إذا لون. يقال: أزهى البسر، والإزهاء، زعموا، في البسر أن يصفر ويحمر. والأصمعي يقول حتى يزهى البسر، بفتح الهاء، ويأبى ما سواه البسر الأصفر، والزهو الكذب وأنشد:
عند ابن عمرانَ زهوُ غُير ذي رُطبٍ ... وعندهُ رطبٌ في النخلُ ممنوعُ
يقول عند كذب لا بسر. وقال الآخر:
ولا تقَولَن زَهُر ما تٌحدًثٍناُ ... لم يتركُ الشًيبٌ لُي زهرًا ولا العورُا
والزهو أيضًا: المنظر الحسن؛ والزهو الفخر، قال الشاعر:
متى ما أشأ غيرً زهوٍ الملوكٍ ... أجعلُك رَهْطًا على حيُضِ
1 / 19
والزهو أيضًا أن تشرب الإبل ثم تمد في طلب المرعى ولا ترعى حول الماء. يقال: زهت الإبل تزهوًا. والريح تزهي النبات إذا هزته. والسراب يزهي الرفقة كأنما يرفعها، والأمواج تزهي السفينة. قلت: وأخطأت أيضًا في قولك:
) وضاقتِ الأْرْضُ حتى صارَ هارِبهمُ ... إذا رَأى غيرَ شيء ظَنُه رجٌلا (
أفتعرف مرئيًا يتناوله النظر لا يقع عليه أسم شيء. وأحسبك نظرت فيه إلى قول جرير:
ما زِلْتَ تَحسَب كُلُ شيء بعَدهًم ... خَيْلًا تكرَ عليكمُ ورِجالا
فأحلت المعني عن جهته، وعبرت منه بغير عبارته. وقول جرير من التخيل المليح. وزعم الأخطل أنه أخذه من قول الله تعالى:) يحسبون كل صيحة عليهم (، وخليق أم يكون أخذه من قول العوام بن شوذب الشيباني:
ولوْ أنهًا عُصفورَةٌ لحسَبتَها ... مُسَوًمَةً تدًعو عُبيًدًا وأزْنَماَ
ومن التخيل المليح قول الآخر في تخيل السكران:
وما زِلت أسقي الرًاح حتى حسَبتُني ... أميرًا على منً شِيتُ أنْ أتأمرَا
وحتى حسبتٌ اللًيلَ والصبُح مقٌْبلًا ... حصانَينٍ مختالًينٍ جَوْنًا وأشْقَرَاَ
ومما يستحسن في هذا المعني قول ثابت قطنة:
تنَشيتُ حتى خلتُ أنَ مطَيُتي ... لها سَبْعٌ آذانِ نَبَتنْ لها بعَدي
وحتى حسًبتٌ البرٌ بحرًا وخلتٌني ... أنوطٌ النجُومَ الزُهر في طرفَي بُرْدي
وأشدني أبي قال: أنشدني أبو عمر بن سعد القطربلي الكاتب قال: أنشدني ثعلب لطحيم الأسدي، وينسب هذا إلى ابن الأعرابي:
ومستطيلِ على الصًهباء باكرها ... في فتية باصطباحِ حذاُقِ
فكُلَ خَلْقٍ رآهُ ظَنهٌ قدًحًا ... وكلُ شخصٍ رآهُ خالهَ السُاقي
حتى حساها فلم يلثْ وما برِحتْ ... أن غادرَتهْ صرَيعًا ما له راقي
ثم قلت: وأخطأت في قولك مخاطبًا كافورًا الإخشيدي:
) يفَضَحٌ الشمَس كلًما ذرًتِ الشُمسْ ... بشَمْسٍ مُنيَرةٍ سَوْداء (
فكيف توصف الشمس وصبغا البياض والضياء بالسواد؟ وما وجه استعارة المس للأسود إن كنت ذهبت في ذلك إلى الاستعارة فقال إنما ذهبت إلى قول النابغة:
فإنك شمس والملوكُ كواكبَ ... إذا طَلَعتْ لم يبَد منهن كوْكَبٌ
فقلت له: إنما ذهبت في هذا إلى أنه في مجده وسؤدده وبإضافة الملوك إليه كالشمس التي تستر النجوم عند ظلوعها. وأنت لم ترد إلا أن هذا الممدوح في أوضافه يفضح الشمس طالعة، وهو مع ذلك شمس سوداء، والشمس لا تكون سوداء إلا في حال كسوفها. ولم تذهب في هذا إلا إلى سواد جلدته، وقد أنبته في ظاهر الكلام بقولك) سوداء (تأنيبًا، عاد) معه (المدح هجاء، ولا فرق عندي بين قولك هذا في مدحه، وقولك في الكلمة الأخرى في ذمه.
) إن امرأ مَرْأة حُبلي تُدَبُرهُ ... لمسُتَضامُ سخَينُ العينِ مفَئودَ (
قلت: وأخطأت في قوله مفتتحًا قصيدة امتدحت هذا الرجل بها؛ فإنك قلت:
) كفى بك داءً أن ترَى الموْتَ شافيا ... وحسَْبُ المنَايا أن يَكنً أمانيا (
فإنك افتتحت مدحه بما تفتتح به المرائي واحتسبته كان طعمة المنايا عن قليل من مواجهته بها. ومن سبيل الشاعر أن يتحرى لقصيدته أحسن الابتداء كما يتحرى لها أحسن الانتهاء عند بلوغ حاجته، وأن يجعل افتتاح كلامه أحسن ما يستطيعه لفظًا ومعنى. وأن يبتدئ قصيدته بما شاكل المعنى الذي قصد له. فإن أبا نؤاس لو كان معاتبًا بقوله:
أربَعَْ البِلى إنَ الخُشوعَ لبَادي ... عَلَيكَ وإنًي لم أجنُك ودِادي
أو مستبطئًا، لم يستهجن ابتدؤه هذا، ولم البرمكي منه عند إنشاده إياه هذا الشاعر، فإنه يتطير منه، فلما انتهى إلى قوله:
سَلامُ على الدنَيا إذا ما فُقدتم ... بني برَْمَكٍ منِ رائحينَ وغادي
استحكمت طيرته، فلم تتصرم أيام حتى أوقع الرشيد بالبرامكة. وكذلك البحري لو كان هاجيًا بقوله:
لك الوَيْلُ من لَيل تطَاولَ آخرُهْ ... ووَشْكِ ذَوي حَي تُزَم أباعِرٌهْ
1 / 20