مقدمة ... الرِّسَالَةُ التَّبُوْكِيّةُ للإمام الحافظ شمس الدين ابن قيم الجوزية ٦٩١ ٧٥١ هـ قال الشيخ الإمام العالم العلامة محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية ﵁ وأرضاه في كتابه الذي سيره من تبوك ثامن المحرم سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة بعد كلام له سبق: أحمد الله بمحامده التي هو لها أهل والصلاة والسلام على خاتم رسله وأنبيائه: محمد ﷺ وبعد: فان الله ﷾ يقول في كتابه: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ . وقد اشتملت هده الآية على جميع مصالح العباد في معاشهم ومعادهم فيما بينهم بعضهم بعضا وفيما بينهم وبين ربهم فان كل عبد لاينفك عن هاتين الحالتين وهذين الواجبين: واجب بينه وبين الله وواجب بينه وبين الخلق

1 / 6

فأما ما بينه وبين الخلق: من المعاشرة والمعاونة والصحبة فالواجب عليه فيها أن يكون اجتماعه بهم وصحبته لهم تعاونا على مرضاة الله وطاعته التي هي غاية سعادة العبد وفلاحه ولا سعادة له إلا بها وهي البر والتقوى اللذان هما جماع الدين كله وإذا افرد كل واحد من الاسمين دخل في مسمى الآخر إما تضمنا وإما لزوما ودخوله فيه تضمنا اظهر لان البر جزء مسمى التقوى وكذلك التقوى فانه جزء مسمى البر وكون أحدهما لايدخل في الآخر عند الاقتران لا يدل على أنه لا يدخل فيه عند انفراد الآخر. ونظير هذا لفظ الإيمان والإسلام والإيمان والعمل الصالح والفقير والمسكين والفسوق والعصيان والمنكر والفاحشة ونظائره كثيرة. وهذه قاعدة جليلة من أحاط بها زالت عنه إشكالات كثيرة أشكلت على كثير من الناس. البر والتقوى: ولنذكر من هذا مثالا واحدا يستدل به على غيره وهو البر والتقوى. فان حقيقة البر هو الكمال المطلوب من الشيء والمنافع التي فيه والخير كما يدل عليه اشتقاق هذه اللفظة وتصاريفها في الكلام ومنه البر بالضم لمنافعه وخيره بالإضافة إلى سائر الحبوب

1 / 7

ولهذا كثيرا ما يُقرن بين هذين الأصلين في مثل قول النبي ﷺ: " من صام رمضان إيمانا واحتسابا " و" ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا " ونظائره. فقوله: " على نور من الله " إشارة إلى الأصل الأول وهو الإيمان الذي هو مصدر العمل والسبب الباعث عليه. وقوله: " ترجو ثواب الله " إشارة أن الأصل الثاني وهو الاحتساب وهو الغاية التي لأجلها يوقع العمل ولها يقصد به. ولا ريب أن هذا اسم لجميع أصول الإيمان وفروعه، وأن البر داخل في هذا المسمى. وأما عند اقتران أحدهما بالآخر كقوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ فالفرق بينهما فرق بين السبب المقصود لغيره والغاية المقصودة لنفسها، فان البر مطلوب لذاته، إذ هو كمال العبد وصلاحه الذي لا صلاح له بدونه كما تقدم. وأما التقوى فهي الطريق الموصل إلى البر والوسيلة إليه ولفظها يدل على هذا فإنها فعلى، من وقى تقي، وكان أصلها وقوى، فقلبوا الواو تاء، كما قالوا تراث من الوراثة، وتجاه من الوجه، وتخمة من الوخمة، ونظائرها. فلفظها دال على أنها من الوقاية فان المتقي قد جعل بينه وبين النار وقاية والوقاية من باب دفع الضر فالتقوى والبر كالعافية والصحة.

1 / 8

وهذا باب شريف ينتفع به انتفاعًا عظيمًا في فهم ألفاظ القرآن ودلالته، ومعرفة حدود ما أنزل الله على رسوله فانه هو العلم النافع وقد ذم الله تعالى في كتابه من ليس له علم بحدود ما أنزل الله على رسوله. فإن عدم العلم بذلك مستلزم مفسدتين عظيمتين: إحداهما أن يدخل في مسمى اللفظ ما ليس منه فيحكم له بحكم المراد من اللفظ فيساوي بين ما فرق الله بينهما. والثانية أن يخرج من مسمى اللفظ بعض أفراده الداخلة تحته فيسلب عنه حكمه فيفرق بين ما جمع الله بينهما. والذكي الفطن يتفطن لأفراد هذه القاعدة وأمثالها فيرى أن كثيرًا من الاختلاف أو أكثره إنما ينشأ من هذا الوضع وتفصيل هذا لا يفي به كتاب ضخم. ومن هذا لفظ: الخمر فإنه اسم شامل لكل مسكر فلا يجوز إخراج بعض المسكرات منه وينفى عنها حكمه. وكذلك لفظ: الميسر وإخراج بعض أنواع القمار منه. وكذلك لفظ: النكاح وإدخال ما ليس بنكاح في مسماه

1 / 9

وكذلك لفظ: الربا وإخراج بعض أنواعه منه وإدخال ما ليس بربا فيه. وكذلك لفظ: الظلم والعدل والمعروف والمنكر ونظائره اكثر من أن تحصى ... والمقصود من اجتماع الناس وتعاشرهم التعاون على البر والتقوى، فيعين كل واحد صاحبه على ذلك علمًا وعملًا. فان العبد وحده لا يستقل بعلم ذلك ولا بالقدرة عليه فاقتضت حكمة الرب سبحانه أن جعل النوع الإنساني قائمًا بعضه ببعضه، معينًا بعضه لبعضه. معنى الإثم والعدوان ثم قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ . والإثم والعدوان في جانب النهي نظير: البر والتقوى في جانب الأمر. والفرق بين الإثم والعدوان كالفرق ما بين محرم الجنس ومحرم القدر. فالإثم ما كان حرامًا لجنسه، والعدوان ما حرم لزيادة في قدر وتعدي ما أباح الله منه فالزنا والخمر والسرقة ونحوها: إثم. ونكاح الخامسة واستيفاء المجني عليه اكثر من حقه ونحوه وعدوان.

1 / 10