الرسالة المدنية في تحقيق المجاز والحقيقة في صفات الله تعالى
التأليف: أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
بسم الله الرحمن الرحيم
وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه:
السلام على النبي ورحمة الله وبركاته، السلام على جيرانه سكان المدينة طيبة [طيبة: تعرف بالمدينة في الحقيقة والمجاز بالصفات] من الأحياء والأموات، من المهاجرين والأنصار وسائر المؤمنين ورحمة الله وبركاته.
إلى الشيخ الإمام العارف الناسك، المقتدى الزاهد العابد: شمس الدين كتب الله في قلبه الإيمان وأيده بروح منه، وآتاه رحمة من عنده وعلمه من لدنه علمًا، وجعله من أوليائه المتقين، وحزبه المفلحين، وخاصته المصطفين، ورزقه اتباع نبيه باطنًا وظاهرًا، واللحاق به في الدنيا والآخرة، إنه ولي ذلك والقادر عليه من أحمد بن تيمية: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد:
فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شىء قدير، ونسأله أن يصلي على صفوته من خلقه وخيرته من بريته النبي الأمي محمد وعلى آله وسلم تسليمًا.
كتابي إليك أحسن الله إليك في الدنيا والآخرة إحسانًا ينيلك به عالي الدرجات في خير وعافية، عن نعمة من الله ورحمة وعافية شاملة لنا ولسائر إخواننا والحمد لله رب العالمين كثيرًا كما هو أهله، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله.
وقد وصل ما أرسلته من الكتب الثلاثة، ونحن نسأل الله تعالى ونرجو منه أن يكون ما قضاه وقدره من مرض ونحوه من مصائب الدنيا مبلغًا لدرجات قصر العمل عنها، وسبق في أم الكتاب أنها ستنال، وأن تكون الخيرة فيما اختاره الله لعباده المؤمنين.
وقد علمنا من حيث العموم أن الله تعالى لا يقضي للمؤمن من قضاء إلا كان خيرًا له، وأن النية وإن كانت متشوقة إلى أمر حجز عنه المرض، فإن الخيرة إن شاء الله تعالى فيما أراده الله، والله تعالى يخير لكم في جميع الأمور خيرة تحصل لكم رضوان الله في خير وعافية، وما تشتكي من مصيبة في القلب والدين، نسأل الله أن يتولاكم بحسن رعايته، توليًا لا يكلكم فيه إلى أحد من المخلوقين، ويصلح لكم شأنكم كله صلاحًا يكون بدؤه منه وإتمامه عليه، ويحقق لكم مقام ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥]، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.
مع أنا نرجو أن تكون رؤية التقصير، وشهادة التأخير من نعمة الله على عبده المؤمن، التي يستوجب بها التقدم ويتم له بها النعمة، ويكفي بها مؤنة شيطانه المزين له سوء عمله، ومؤنة نفسه التي تحب أن تحمد بما لم تفعل، وتفرح بما أتت. وقد قال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾ إلى قوله: ﴿أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ [المؤمنون: ٥٧ ٦٠] .
وروي عن النبي ﷺ أنه قال: " هو الرجل يصوم ويصلي ويتصدق، ويخاف ألا يقبل منه "، وفي الأثر أظنه عن عمر بن الخطاب أو عن ابن مسعود: من قال: إنه مؤمن فهو كافر، ومن قال: إنه في الجنة فهو في النار. وقال: والذي لا إله
1 / 2
غيره، ما أمن أحد على إيمان يسلبه عند الموت إلا يسلبه.
وقال أبو العالية: أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله ﷺ كلهم يخاف النفاق على نفسه. وقال الصديق ﵁: إن الله ذكر أهل الجنة، فذكرهم بأحسن أعمالهم وغفر لهم سيئها، فيقول الرجل: أين أنا من هؤلاء؟ ! يعني: وهو منهم، وذكر أهل النار بأقبح أعمالهم وأحبط حسنها، فيقول القائل: لست من هؤلاء، يعني: وهو منهم. هذا الكلام أو قريبًا منه.
فليبرد القلب من وهج حرارة هذه الشهادة، إنها سَبِيل مَهْيع [أي: طريق بَيِّن. انظر: القاموس، مادة: هيع] لعباد الله، الذين أطبق شهداء الله في أرضه أنهم كانوا من الله بالمكانة العالية، مع أن الازدياد من مثل هذه الشهادة هو النافع في الأمر الغالب ما لم يفض إلى تسخط للمقدور، أو يأس من روح الله، أو فتور عن الرجاء، والله تعالى يتولاكم بولاية منه، ولا يكلكم إلى أحد غيره.
وأما ما ذكرت من طلب الأسباب الأربعة، التي لابد فيها من صرف الكلام من حقيقته إلى مجازه، فأنا أذكر ملخص الكلام الذي جرى بيني وبين بعض الناس في ذلك، وهو ما حكيته لك وطلبته، وكان إن شاء الله له ولغيره به منفعة على ما في الحكاية من زيادة ونقص وتغيير.
قال لي بعض الناس: إذا أردنا أن نسلك طريق سبيل السلامة والسكوت، وهي الطريقة التي تصلح عليها السلامة، قلنا كما قال الشافعي ﵁: آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله ﷺ، وإذا سلكنا سبيل البحث والتحقيق، فإن الحق مذهب من يتأول آيات الصفات وأحاديث الصفات من المتكلمين.
فقلت له: أما ما قاله الشافعي، فإنه حق يجب علي كل مسلم أن يعتقده، ومن اعتقده ولم يأت بقول يناقضه، فإنه سالك سبيل السلامة في الدنيا والآخرة، وأما إذا بحث الإنسان وفحص، وجد ما يقوله المتكلمون من التأويل الذي يخالفون به أهل الحديث كله باطلًا، وتيقن أن الحق مع أهل الحديث ظاهرًا وباطنًا.
فاستعظم ذلك وقال: أتحب لأهل الحديث أن يتناظروا في هذا؟ فتواعدنا يومًا، فكان فيما تفاوضنا: أن أمهات المسائل التي خالف فيها متأخرو المتكلمين ممن ينتحل مذهب الأشعري لأهل الحديث
1 / 3
ثلاث مسائل:
وصف الله بالعلو على العرش.
ومسألة القرآن.
ومسألة تأويل الصفات.
فقلت له: نبدأ بالكلام على مسألة تأويل الصفات، فإنها الأم والباقي من المسائل فرع عليها، وقلت له: مذهب أهل الحديث وهم السلف من القرون الثلاثة ومن سلك سبيلهم من الخلف: أن هذه الأحاديث تمر كما جاءت. ويؤمن بها وتصدق، وتصان عن تأويل يفضي إلى تعطيل، وتكييف يفضي إلى تمثيل.
وقد أطلق غير واحد ممن حكى إجماع السلف منهم الخطابي مذهب السلف: أنها تجري على ظاهرها، مع نفي الكيفية والتشبيه عنها، وذلك أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، يحتذى حذوه ويتبع فيه مثاله، فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود، لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية، فنقول: إن له يدًا وسمعًا، ولا نقول: إن معنى اليد: القدرة، ومعنى السمع: العلم.
فقلت له: وبعض الناس يقول: مذهب السلف: أن الظاهر غير مراد، ويقول: أجمعنا على أن الظاهر غير مراد، وهذه العبارة خطأ، إما لفظًا ومعنى، أو لفظًا لا معنى؛ لأن الظاهر قد صار مشتركًا بين شيئين:
أحدهما: أن يقال: إن اليد جارحة مثل جوارح العباد، وظاهر الغضب غليان القلب لطلب الانتقام، وظاهر كونه في السماء أن يكون مثل الماء في الظرف، فلا شك أن من قال: إن هذه المعاني وشبهها من صفات المخلوقين ونعوت المحدثين غير مراد من الآيات والأحاديث. فقد صدق وأحسن؛ إذ لا يختلف أهل السنة أن الله تعالى ليس كمثله شىء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، بل أكثر أهل السنة من أصحابنا وغيرهم يكفرون المشبهة والمجسمة.
لكن هذا القائل أخطأ، حيث ظن أن هذا المعنى هو الظاهر من هذه الآيات والأحاديث، وحيث حكى عن السلف ما لم يقولوه، فإن ظاهر الكلام هو ما يسبق إلى العقل السليم منه لمن يفهم بتلك اللغة، ثم قد يكون ظهوره بمجرد الوضع وقد يكون بسياق الكلام، وليست هذه المعاني المحدثة المستحيلة على الله تعالى هي السابقة إلى عقل المؤمنين، بل اليد عندهم كالعلم والقدرة والذات، فكما كان علمنا وقدرتنا وحياتنا وكلامنا ونحوها من الصفات أعراضًا تدل على
1 / 4
حدوثنا يمتنع أن يوصف الله سبحانه بمثلها، فكذلك أيدينا ووجوهنا ونحوها أجسامًا كذلك محدثة، يمتنع أن يوصف الله تعالى بمثلها.
ثم لم يقل أحد من أهل السنة: إذا قلنا: إن لله علمًا وقدرة وسمعًا وبصرًا، أن ظاهره غير مراد، ثم يفسر بصفاتنا، فكذلك لا يجوز أن يقال: إن ظاهر اليد والوجه غير مراد، إذ لا فرق بين ما هو من صفاتنا جسم أو عرض للجسم.
ومن قال: إن ظاهر شىء من أسمائه وصفاته غير مراد فقد أخطأ؛ لأنه ما من اسم يسمى الله تعالى به إلا والظاهر الذي يستحقه المخلوق غير مراد به، فكان قول هذا القائل يقتضي أن يكون جميع أسمائه وصفاته قد أريد بها ما يخالف ظاهرها، ولا يخفى ما في هذا الكلام من الفساد.
والمعنى الثاني: أن هذه الصفات إنما هي صفات الله ﷾ كما يليق بجلاله، نسبتها إلى ذاته المقدسة كنسبة صفات كل شىء إلى ذاته، فيعلم أن العلم صفة ذاتية للموصوف ولها خصائص، وكذلك الوجه. ولا يقال: إنه مستغن عن هذه الصفات؛ لأن هذه الصفات واجبة لذاته، والإله المعبود سبحانه هو المستحق لجميع هذه الصفات.
وليس غرضنا الآن الكلام مع نفاة الصفات مطلقًا، وإنما الكلام مع من يثبت بعض الصفات.
وكذلك فعله، نعلم أن الخلق هو إبداع الكائنات من العدم، وإن كنا لا نكيف ذلك الفعل ولا يشبه أفعالنا، إذ نحن لا نفعل إلا لحاجة إلى الفعل، والله غني حميد.
وكذلك الذات، تعلم من حيث الجملة، وإن كانت لا تماثل الذوات المخلوقة ولا يعلم ما هو إلا هو، ولا يدرك لها كيفية، فهذا هو الذي يظهر من إطلاق هذه الصفات، وهو الذي يجب أن تحمل عليه.
فالمؤمن يعلم أحكام هذه الصفات وآثارها وهو الذي أريد منه، فيعلم أن الله على كل شىء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شىء علمًا، وأن الأرض جميعًا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه، وأن المؤمنين ينظرون إلى وجه خالقهم في الجنة، ويتلذذون بذلك لذة ينغمر في جانبها جميع اللذات، ونحو ذلك.
كما يعلم أن له ربًا وخالقًا ومعبودًا، ولا يعلم كنه شىء من ذلك، بل غاية علم الخلق هكذا، يعلمون الشيء من بعض الجهات ولا يحيطون بكنهه، وعلمهم بنفوسهم من هذا الضرب.
قلت له: أفيجوز أن يقال: إن الظاهر غير مراد بهذا التفسير؟ فقال: هذا لا يمكن.
1 / 5
هذا فقلت له: من قال: إن الظاهر غير مراد، بمعنى: أن صفات المخلوقين غير مرادة، قلنا له: أصبت في المعنى، لكن أخطأت في اللفظ، وأوهمت البدعة، وجعلت للجهمية طريقًا إلى غرضهم، وكان يمكنك أن تقول: تمر كما جاءت على ظاهرها مع العلم بأن صفات الله تعالى ليست كصفات المخلوقين، وأنه منزه مقدس عن كل ما يلزم منه حدوثه أو نقصه.
ومن قال: الظاهر غير مراد بالتفسير الثاني وهو مراد الجهمية ومن تبعهم من المعتزلة وبعض الأشعرية وغيرهم فقد أخطأ.
ثم أقرب هؤلاء الجهمية الأشعرية يقولون: إن له صفات سبعًا: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والكلام، والسمع، والبصر. وينفون ما عداها، وفيهم من يضم إلى ذلك اليد فقط، ومنهم من يتوقف في نفي ما سواها، وغلاتهم يقطعون بنفي ما سواها.
وأما المعتزلة، فإنهم ينفون الصفات مطلقًا ويثبتون أحكامها، وهي ترجع عند أكثرهم إلى أنه عليم قدير، وأما كونه مريدًا متكلمًا فعندهم أنها صفات حادثة، أو إضافية أو عدمية. وهم أقرب الناس إلى الصابئين الفلاسفة من الروم، ومن سلك سبيلهم من العرب والفرس، حيث زعموا أن الصفات كلَّها ترجع إلى سلب أو إضافة، أو مركب من سلب وإضافة، فهؤلاء كلهم ضلال مكذبون للرسل.
ومن رزقه الله معرفة ما جاءت به الرسل وبصرًا نافذًا وعرف حقيقة مأخذ هؤلاء، علم قطعًا أنهم يلحدون في أسمائه وآياته، وأنهم كذبوا بالرسل وبالكتاب وبما أرسل به رسله؛ ولهذا كانوا يقولون: إن البدع مشتقة من الكفر وآيلة إليه، ويقولون: إن المعتزلة مخانيث الفلاسفة، والأشعرية مخانيث المعتزلة.
وكان يحيى بن عمار يقول: المعتزلة الجهمية الذكور، والأشعرية الجهمية الإناث، ومرادهم الأشعرية الذين ينفون الصفات الخبرية، وأما من قال منهم بكتاب [الإبانة] الذي صنفه الأشعري في آخر عمره، ولم يظهر مقالة تناقض ذلك، فهذا يعد من أهل السنة، لكن مجرد الانتساب إلى الأشعرى بدعة، لا سيما وأنه بذلك يوهم حسًنا بكل من انتسب هذه النسبة، وينفتح بذلك أبواب شر، والكلام مع هؤلاء الذين ينفون ظاهرها بهذا التفسير.
1 / 6
قلت له: إذا وصف الله نفسه بصفة، أو وصفه بها رسوله، أو وصفه بها المؤمنون الذين اتفق المسلمون على هدايتهم ودرايتهم فصرفها عن ظاهرها اللائق بجلال الله سبحانه وحقيقتها المفهومة منها إلى باطن يخالف الظاهر، ومجاز ينافى الحقيقة، لابد فيه من أربعة أشياء:
أحدها: أن ذلك اللفظ مستعمل بالمعنى المجازي؛ لأن الكتاب والسنة وكلام السلف جاء باللسان العربي، ولا يجوز أن يراد بشىء منه خلاف لسان العرب، أو خلاف الألسنة كلها، فلابد أن يكون ذلك المعنى المجازي ما يراد به اللفظ، وإلا فيمكن كل مبطل أن يفسر أي لفظ بأي معنى سنح له، وإن لم يكن له أصل في اللغة.
الثاني: أن يكون معه دليل يوجب صرف اللفظ عن حقيقته إلى مجازه، وإلا فإذا كان يستعمل في معنى بطريق الحقيقة، وفي معنى بطريق المجاز، لم يجز حمله على المجازىّ بغير دليل يوجب الصرف بإجماع العقلاء، ثم إن ادعى وجوب صرفه عن الحقيقة، فلابد له من دليل قاطع عقلي أو سمعي يوجب الصرف. وإن ادعى ظهور صرفه عن الحقيقة فلابد من دليل مرجح للحمل على المجاز.
الثالث: أنه لابد من أن يسلم ذلك الدليل الصارف عن معارض، وإلا فإذا قام دليل قرآني أو إيماني يبين أن الحقيقة مرادة امتنع تركها، ثم إن كان هذا الدليل نصًا قاطعًا لم يلتفت إلى نقيضه، وإن كان ظاهرًا فلابد من الترجيح.
الرابع: أن الرسول ﷺ إذا تكلم بكلام وأراد به خلاف ظاهره وضد حقيقته، فلابد أن يبين للأمة أنه لم يرد حقيقته، وأنه أراد مجازه، سواء عينه أو لم يعينه، لا سيما في الخطاب العلمي الذي أريد منهم فيه الاعتقاد والعلم، دون عمل الجوارح، فإنه ﷾ جعل القرآن نورًا وهدى، وبيانًا للناس، وشفاء لما في الصدور، وأرسل الرسل ليبين للناس ما نزل إليهم، وليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، ولئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.
ثم هذا الرسول الأمي العربي بعث بأفصح اللغات وأبين الألسنة والعبارات،
1 / 7
ثم الأمة الذين أخذوا عنه كانوا أعمق الناس علمًا، وأنصحهم للأمة، وأبينهم للسنة، فلا يجوز أن يتكلم هو وهؤلاء بكلام يريدون به خلاف ظاهره إلا وقد نصب دليلًا يمنع من حمله على ظاهره، إما أن يكون عقليًا ظاهرًا، مثل قوله: ﴿وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ [النمل: ٢٣]، فإن كل أحد يعلم بعقله أن المراد: أوتيت من جنس ما يؤتاه مثلها، وكذلك: ﴿خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ١٠٢] يعلم المستمع: أن الخالق لا يدخل في هذا العموم، أو سمعيًا ظاهرًا، مثل الدلالات في الكتاب والسنة التي تصرف بعض الظواهر.
ولا يجوز أن يحيلهم على دليل خفي، لا يستنبطه إلا أفراد الناس، سواء كان سمعيًا أو عقليًا؛ لأنه إذا تكلم بالكلام الذي يفهم منه معنى وأعاده مرات كثيرة، وخاطب به الخلق كلهم وفيهم الذكي والبليد، والفقيه وغير الفقيه، وقد أوجب عليهم أن يتدبروا ذلك الخطاب ويعقلوه، ويتفكروا فيه ويعتقدوا موجبه، ثم أوجب ألا يعتقدوا بهذا الخطاب شيئًا من ظاهره؛ لأن هناك دليلًا خفيًا يستنبطه أفراد الناس يدل على أنه لم يرد ظاهره، كان هذا تدليسًا وتلبيسًا، وكان نقيض البيان وضد الهدى، وهو بالألغاز والأحاجي أشبه منه بالهدى والبيان.
فكيف إذا كانت دلالة ذلك الخطاب على ظاهره، أقوى بدرجات كثيرة من دلالة ذلك الدليل الخفي على أن الظاهر غير مراد؟ ! أم كيف إذا كان ذلك الخفي شبهة ليس لها حقيقة!؟
فسلم لي ذلك الرجل هذه المقامات.
قلت: ونحن نتكلم على صفة من الصفات، ونجعل الكلام فيها أنموذجًا يحتذى عليه، ونعبر بصفة اليد، وقد قال تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء﴾ [المائدة: ٦٤]، وقال تعالى لإبليس: ﴿مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص: ٧٥]، وقال تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ [الزمر: ٦٧]، وقال تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾ [الملك: ١]، وقال: ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران: ٦٢]، وقال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ﴾ [يس: ٧١] .
1 / 8
وقد تواتر في السنة مجىء اليد في حديث النبي ﷺ.
فالمفهوم من هذا الكلام: أن لله تعالى يدين مختصتان به، ذاتيتان له، كما يليق بجلاله، وأنه سبحانه خلق آدم بيده دون الملائكة وإبليس، وأنه سبحانه يقبض الأرض ويطوى السموات بيده اليمنى، وأن ﴿يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ [المائدة: ٦٤] ومعنى بسطهما: بذل الجود وسعة العطاء؛ لأن الإعطاء والجود في الغالب يكون ببسط اليد ومدها، وتركه يكون ضمًا لليد إلى العنق، صار من الحقائق العرفية إذا قيل: هو مبسوط اليد فهم منه يد حقيقة، وكان ظاهره الجود والبخل، كما قال تعالى: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾ [الإسراء: ٢٩]، ويقولون: فلان جَعْد البنان وسَبْط البنان.
قلت له: فالقائل إن زعم أنه ليس له يد من جنس أيدي المخلوقين، وأن يده ليست جارحة، فهذا حق.
وإن زعم أنه ليس له يد زائدة على الصفات السبع، فهو مبطل، فيحتاج إلى تلك المقامات الأربعة.
أما الأول، فيقول: إن اليد تكون بمعنى النعمة والعطية، تسمية للشىء باسم سببه، كما يسمى المطر والنبات سماء، ومنه قولهم: لفلان عنده أياد، وقول أبي طالب لما فقد النبي ﷺ:
يا رب رد راكبي محمدًا رده ... علي واصطنع عندي يدا
وقول عروة بن مسعود لأبي بكر يوم الحديبية: لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك.
وقد تكون اليد بمعنى القدرة، تسمية للشىء باسم مسببه؛ لأن القدرة هي تحرك اليد، يقولون: فلان له يد في كذا وكذا، ومنه قول زياد لمعاوية: إني قد أمسكت العراق بإحدى يدي، ويدي الأخرى فارغة، يريد نصف قدرتي ضبط أمر العراق. ومنه قوله: ﴿بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ [البقرة: ٢٣٧]، والنكاح كلام يقال، وإنما معناه أنه مقتدر عليه.
وقد يجعلون إضافة الفعل إليها إضافة الفعل إلى الشخص نفسه؛ لأن غالب الأفعال لما كانت باليد جعل ذكر اليد إشارة إلى أنه فعل بنفسه، قال الله تعالى: ﴿لَّقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء﴾ إلى قوله: ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ
1 / 9
أَيْدِيكُمْ﴾ [آل عمران: ١٨١، ١٨٢] أي: بما قدمتم، فإن بعض ما قدموه كلام تكلموا به. وكذلك قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾ إلى قوله: ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ [الأنفال: ٥٠، ٥١]، والعرب تقول: يَدَاك أوْكَتَا، وفُوكَ نَفَخ؛ توبيخًا لكل من جر على نفسه جريرة؛ لأن أول ما قيل هذا لمن فعل بيديه وفمه.
قلت له: ونحن لا ننكر لغة العرب التي نزل بها القرآن في هذا كله، والمتأولون للصفات الذين حرفوا الكلم عن مواضعه، وألحدوا في أسمائه وآياته تأولوا قوله: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ [المائدة: ٦٤]، وقوله: ﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص: ٧٥] على هذا كله، فقالوا: إن المراد نعمته، أي: نعمة الدنيا ونعمة الآخرة، وقالوا: بقدرته، وقالوا: اللفظ كناية عن نفس الجود من غير أن يكون هناك يد حقيقة، بل هذه اللفظة قد صارت حقيقة في العطاء والجود، وقوله: ﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ أي: خلقته أنا، وإن لم يكن هناك يد حقيقية. قلت له: فهذه تأويلاتهم؟ قال: نعم. قلت له: فننظر فيما قدمنا:
المقام الأول: أن لفظ اليدين بصيغة التثنية لم يستعمل في النعمة ولا في القدرة؛ لأن من لغة القوم استعمال الواحد في الجمع، كقوله: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ [العصر: ٢]، ولفظ الجمع في الواحد كقوله: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ﴾ [آل عمران: ١٧٣]، ولفظ الجمع في الاثنين كقوله: ﴿صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ [التحريم: ٤] . أما استعمال لفظ الواحد في الاثنين، أو الاثنين في الواحد فلا أصل له؛ لأن هذه الألفاظ عدد وهي نصوص في معناها لا يتجوز بها، ولا يجوز أن يقال: عندي رجل، ويعني رجلين، ولا عندي رجلان، ويعني به الجنس؛ لأن اسم الواحد يدل على الجنس والجنس فيه شياع، وكذلك اسم الجمع فيه معنى الجنس، والجنس يحصل بحصول الواحد.
فقوله: ﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ لا يجوز أن يراد به القدرة؛ لأن القدرة صفة واحدة، ولا يجوز أن يعبر بالاثنين عن الواحد.
ولا يجوز أن يراد به النعمة؛ لأن نعم الله لا تحصى، فلا يجوز أن يعبر عن النعم التي لا تحصى بصيغة التثنية.
ولا يجوز أن يكون لما خلقت أنا؛ لأنهم إذا أرادوا ذلك أضافوا الفعل إلى اليد،
1 / 10
فتكون إضافته إلى اليد إضافة له إلى الفعل كقوله: ﴿بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ﴾ [الحج: ١٠] و﴿قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ [آل عمران: ١٨٢،الأنفال: ٥١]، ومنه قوله: ﴿مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا﴾ [يس: ٧١] .
أما إذا أضاف الفعل إلى الفاعل، وعدى الفعل إلى اليد بحرف الباء، كقوله: ﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ فإنه نص في أنه فعل الفعل بيديه؛ ولهذا لا يجوز لمن تكلم أو مشى أن يقال: فعلت هذا بيديك ويقال: هذا فعلته يداك؛ لأن مجرد قوله: فعلت، كاف في الإضافة إلى الفاعل، فلو لم يرد أنه فعله باليد حقيقة كان ذلك زيادة محضة من غير فائدة، ولست تجد في كلام العرب ولا العجم إن شاء الله تعالى أن فصيحًا يقول: فعلت هذا بيدي، أو فلان فعل هذا بيديه، إلا ويكون فعله بيديه حقيقة، ولا يجوز أن يكون لا يد له، أو أن يكون له يد والفعل وقع بغيرها.
وبهذا الفرق المحقق تتبين مواضع المجاز ومواضع الحقيقة، ويتبين أن الآيات لا تقبل المجاز البتة من جهة نفس اللغة.
قال لي: فقد أوقعوا الاثنين موقع الواحد في قوله: ﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ﴾ [ق: ٢٤]، وإنما هو خطاب للواحد.
قلت له: هذا ممنوع، بل قوله: ﴿أَلْقِيَا﴾ قد قيل: تثنية الفاعل لتثنية الفعل، والمعنى: ألق ألق. وقد قيل: إنه خطاب للسائق والشهيد. ومن قال: إنه خطاب للواحد، قال: إن الإنسان يكون معه اثنان: أحدهما عن يمينه، والآخر عن شماله، فيقول: خليلي! خليلي! ثم إنه يوقع هذا الخطاب وإن لم يكونا موجودين، كأنه يخاطب موجودين، فقوله: ﴿أَلْقِيَا﴾ عند هذا القائل إنما هو خطاب لاثنين يقدر وجودهما، فلا حجة فيه البتة.
قلت له: المقام الثاني: أن يقال: هب أنه يجوز أن يعني باليد حقيقة اليد، وأن يعني بها القدرة أو النعمة، أو يجعل ذكرها كناية عن الفعل، لكن ما الموجب لصرفها عن الحقيقة؟
فإن قلت: لأن اليد هي الجارحة وذلك ممتنع على الله سبحانه.
قلت لك: هذا ونحوه يوجب امتناع وصفه بأن له يدًا من جنس أيدي المخلوقين، وهذا لا ريب فيه، لكن لم لا يجوز أن يكون له يد تناسب ذاته تستحق من صفات الكمال ما تستحق الذات؟ قال: ليس في العقل والسمع ما يحيل هذا. قلت: فإذا كان هذا ممكنًا وهو حقيقة اللفظ فلم يصرف عنه اللفظ إلى مجازه؟ وكل
1 / 11
ما يذكره الخصم من دليل يدل على امتناع وصفه بما يسمى به وصحت الدلالة سلم له أن المعنى الذي يستحقه المخلوق منتف عنه، وإنما حقيقة اللفظ وظاهره يد يستحقها الخالق كالعلم والقدرة، بل كالذات والوجود.
المقام الثالث: قلت له: بلغك أن في كتاب الله أو في سنة رسول الله ﷺ أو عن أحد من أئمة المسلمين أنهم قالوا: المراد باليد خلاف ظاهره، أو الظاهر غير مراد، أو هل في كتاب الله آية تدل على انتفاء وصفه باليد دلالة ظاهرة، بل أو دلالة خفية؟ فإن أقصى ما يذكره المتكلف قوله: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: ١]، وقوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١]، وقوله: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مريم: ٦٥]، وهؤلاء الآيات إنما يدللن على انتفاء التجسيم والتشبيه. أما انتفاء يد تليق بجلاله، فليس في الكلام ما يدل عليه بوجه من الوجوه.
وكذلك هل في العقل ما يدل دلالة ظاهرة على أن الباري لا يد له البتة؟ لا يدًا تليق بجلاله، ولا يدا تناسب المحدثات، وهل فيه ما يدل على ذلك أصلا، ولو بوجه خفي؟ فإذا لم يكن في السمع ولا في العقل ما ينفي حقيقة اليد البتة، وإن فرض ما ينافيها فإنما هو من الوجوه الخفية عند من يدعيه وإلا ففي الحقيقة إنما هو شبهة فاسدة.
فهل يجوز أن يملأ الكتاب والسنة من ذكر اليد، وأن الله تعالي خلق بيده، وأن يداه مبسوطتان، وأن الملك بيده، وفي الحديث ما لا يحصى، ثم إن رسول الله ﷺ وأولى الأمر لا يبينون للناس أن هذا الكلام لا يراد به حقيقته ولا ظاهره، حتى ينشأ جَهْم ابن صفوان بعد انقراض عصر الصحابة، فيبين للناس ما نزل إليهم على نبيهم، ويتبعه عليه بشر بن غياث ومن سلك سبيلهم من كل مغموص عليه بالنفاق.
وكيف يجوز أن يعلمنا نبينا ﷺ كل شىء حتى الخراءة، ويقول: " ما تركت من شىء يقربكم إلى الجنة إلا وقد حدثتكم به، ولا من شىء يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم به "، " تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك "، ثم يترك الكتاب المنزل عليه، وسنته الغراء مملوءة مما يزعم الخصم أن ظاهره تشبيه وتجسيم، وأن اعتقاد ظاهره ضلال، وهو لا يبين ذلك ولا يوضحه؟ !
وكيف يجوز للسلف أن يقولوا:
1 / 12
أمروها كما جاءت مع أن معناها المجازي هو المراد وهو شىء لا يفهمه العرب، حتى يكون أبناء الفرس والروم أعلم بلغة العرب من أبناء المهاجرين والأنصار!
المقام الرابع: قلت له: أنا أذكر لك من الأدلة الجلية القاطعة والظاهرة، ما يبين لك أن لله يدين حقيقة.
فمن ذلك تفضيله لآدم يستوجب سجود الملائكة، وامتناعهم عن التكبر عليه، فلو كان المراد أنه خلقه بقدرته أو بنعمته، أو مجرد إضافة خلقه إليه؛ لشاركه في ذلك إبليس وجميع المخلوقات.
قال لي: فقد يضاف الشىء إلى الله على سبيل التشريف، كقوله: ﴿نَاقَةَ اللَّهِ﴾ [الشمس: ١٣]، وبيت الله.
قلت له: لا تكون الإضافة تشريفًا حتى يكون في المضاف معنى أفرده به عن غيره، فلو لم يكن في الناقة والبيت من الآيات البينات ما تمتاز به على جميع النوق والبيوت لما استحقا هذه الإضافة، والأمر هنا كذلك، فإضافة خلق آدم إليه أنه خلقه بيديه، يوجب أن يكون خلقه بيديه أنه قد فعله بيديه، وخلق هؤلاء بقوله: كن فيكون، كما جاءت به الآثار.
ومن ذلك أنهم إذا قالوا: بيده الملك، أو عملته يداك، فهما شيئان: أحدهما: إثبات اليد. والثاني: إضافة الملك والعمل إليها، والثاني يقع فيه التجوز كثيرًا، أما الأول فإنهم لا يطلقون هذا الكلام إلا لجنس له يد حقيقة، ولا يقولون: يد الهوى ولا يد الماء، فهب أن قوله: ﴿بيده الملك﴾، قد علم منه أن المراد بقدرته، لكن لا يتجوز بذلك إلا لمن له يد حقيقة.
والفرق بين قوله تعالى: ﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص: ٧٥] وقوله: ﴿مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا﴾ [يس: ٧١] من وجهين:
أحدهما: أنه هنا أضاف الفعل إليه، وبين أنه خلقه بيديه، وهناك أضاف الفعل إلى الأيدي.
الثاني: أن من لغة العرب أنهم يضعون اسم الجمع موضع التثنية إذا أمن اللبس، كقوله تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا﴾ [المائدة: ٣٨] أي: يديهما، وقوله: ﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ [التحريم: ٤] أي: قلباكما، فكذلك قوله: ﴿مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا﴾ .
وأما السنة فكثيرة جدًا، مثل قوله ﷺ: " المقسطون عند
1 / 13
الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وَلُوا " رواه مسلم، وقوله ﷺ: " يمين الله ملأى لا يَغِيضُهَا نفقة، سَحَّاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض؟ فإنه لم يَغِض ما في يمينه، والقِسْط بيده الأخرى، يرفع ويخفض إلى يوم القيامة " رواه مسلم في صحيحه؛ والبخاري فيما أظن [قوله: لا يغِيضُها أي: لا ينقصها] .
وفي الصحيح أيضًا عن أبي سعيد الخدري ﵁ عن رسول الله ﷺ قال: " تكون الأرض يوم القيامة خُبْزَةً واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفأ أحدكم بيده خُبْزَتَه في السفر " [قوله: " خُبْزَة واحدة يتكفّؤها الجبار بيده ": الخُبزة: الطُّلمة، وهي عجين يوضع في الرماد الحار حتى ينضج. ويتكفؤها الجبار بيده، أي: يميلها من يد إلى يد حتى تجتمع وتستوى، والمعنى: أن الله تعالى يجعل الأرض كالرغيف العظيم، ويكون ذلك طعامًا نزلًا لأهل الجنة. انظر: القاموس، مادة خبز وتعليق الشيخ عبد الباقي] .
وفي الصحيح أيضًا عن ابن عمر، يحكى رسول الله ﷺ قال: " يأخذ الرب ﷿ سمواته وأرضه بيديه وجعل يقبض يديه ويبسطهما ويقول: أنا الرحمن " حتى نظرت إلى المنبر يتحرك أسفل منه، حتى إني أقول: أساقط هو برسول الله؟ وفي رواية: أنه قرأ هذه الآية على المنبر: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ [الزمر: ٦٧]، قال: " يقول: أنا الله، أنا الجبار " وذكره. وفي الصحيح أيضًا عن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: " يقبض الله الأرض، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ "، وما يوافق هذا من حديث الحبر.
وفي حديث صحيح: " إن الله لما خلق آدم قال له ويداه مقبوضتان: اختر أيهما شئت، قال: اخترت يمين ربي، وكلتا يدي ربي يمين مباركة، ثم بسطها فإذا فيها آدم وذريته "، وفي الصحيح: " إن الله كتب بيده على نفسه لما خلق الخلق: إن رحمتي تغلب غضبي ".
وفي الصحيح: أنه لما تحاج آدم وموسى قال آدم: يا موسى، اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده، وقد قال له موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه. وفي حديث آخر: أنه قال سبحانه: " وعزتي وجلالي، لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له: كن، فكان "،وفي حديث آخر في السنن: " لما خلق الله آدم ومسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذريته، فقال: خلقت هؤلاء
1 / 14
للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره بيده الأخرى فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون ".
فذكرت له هذه الأحاديث وغيرها، ثم قلت له: هل تقبل هذه الأحاديث تأويلًا، أم هي نصوص قاطعة؟ وهذه أحاديث تلقتها الأمة بالقبول والتصديق ونقلتها من بحر غزير. فأظهر الرجل التوبة وتبين له الحق.
فهذا الذي أشرت إليه أحسن الله إليك أن أكتبه.
وهذا باب واسع، ﴿وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ﴾ [النور: ٤٠]، و﴿مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا﴾ [الكهف: ١٧] .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وعلى المحمدين، وأبي زكريا، وأبي البقاء عبد المجيد، وأهل البيت ومن تعرفونه من أهل المدينة وسائر أهل البلدة الطيبة.
وإن كنتم تعرفون للمدينة كتابًا يتضمن أخبارها، كما صنف أخبار مكة. فلعل تعرفونا به.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وسئل ﵀ عن قوله ﷺ فيما يروي عن ربه ﷿: "ما ترددن عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته" ما معنى تردد الله؟.
فأجاب: هذا حديث شريف رواه البخاري من حديث أبي هريرة ﵁ وهو أشرف حديث روي في صفة الأولياء. وقد رد هذا الكلام طائفة وقالوا أن الله لا يوصف بالتردد، وإنما يتردد من لا يعلم عواقب الأمور والله عالم بالعواقب وربما قال بعضهم أن الله يعامله معاملة المتردد.
والتحقيق إن كلام رسول الله حق، وليس أحد أعلم بالله من رسوله ولا أنصح لأمته منه ولا أفصح ولا أحسن بيانا منه، فإذا كان كذلك كان المتحذلق والمنكر عليه من أضل الناس وأجهلهم وأسوأهم أدبا بل يجب تأديبه وتعذيره ويجب أن يصان كلام رسول الله ﵌ عن الظنون الباطلة
1 / 15
والاعتقادات الفاسدة. والمتردد منا- وإن كان تردده في الأمر لأجل كونه ما يعلم عاقبة الأمور- لا يكون ما وصف الله به نفسه بمنزلة ما يوصف به الواحد منا فإن الواحد منا قد يتردد تارة لعدم العلم بالعواقب وتارة لما في الفعلين من المصالح والمفاسد. فيزيد الفعل لما فيه من المصلحة ويكرهه لما فيه من المفسدة لا لجهله به كالشيء الواحد الذي يجب من وجه ويكره من وجه كما قيل:
الشيب كره وأكره أن أفارقه ... فاعجب لشيء على البغضاء محبوب
وهذا مثل إرادة المريض للدواء الكريه بل جميع ما يريده العبد من الأعمال الصالحة التي تكرهها النفس هو من هذا الباب. وفي الصحيح: "حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات" وقال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ (البقرة:٢١٦) ومن هذا الباب يظهر معنى التردد المذكور في الحديث فإنه قال: "ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه". فإن العبد الذي هذا حاله صار محبوبا للحق محبا له يتقرب إليه أولا بالفرائض وهو يحبها ثم اجتهد في النوافل التي يحبها ويحب فاعلها، فأتى بكل ما يقدر عليه من محبوب الحق فأحبه الحق لفعل محبوبه من الجانبين بقصد إتفاق الإرادة وبحيث يحب ما يحبه محبوبه ويكره ما يكره محبوبه والرب يكره أن يسيء عبده ومحبوبه، فلزم من هذا أن يكره الموت ليزداد من محاب محبوبه. والله ﷾ قد قضى بالموت فكل ما قضى به فهو يريده ولا بد منه. فالرب مريد لموته، لما سبق به قضاءه. وهومع ذلك كاره لمساءة عبده، وهي المساءة التي تحصل له بالموت. فصار الموت مرادا للحق من وجه مكروها له من وجه. وهذا حقيقة التردد. وهو أن يكون الشيء الواحد مرادا من وجه وإن كان لا بد من ترجيح أحد الجانبين كما ترجح إرادة الموت لكن مع وجود كراهة الرب لمساءة عبده وليس بإرادته لموت المؤمن الذي يحبه ويكره مساءته كإرادته لموت الكافر الذي يبغضه ويريده. انتهى كلامه رحمه الله تعالى
1 / 16