فإذا غاب العقل ظهرت الخرافة، وإذا سادت الخرافة ضاع العقل. وتظهر الخرافة في إرجاع ظواهر الطبيعة إلى علل أولى، أو إلى قوى وهمية، أو إلى أفعال خيالية، أو إلى موجودات غيبية مثل الجن والشياطين والأرواح الخبيثة أو الطيبة. وإن خرجت هذه الظواهر الطبيعية عن المألوف بدت وكأنها معجزات وخوارق يمكن معرفتها، والتنبؤ بوقوعها عن طريق الكهانة والعرافة والسحر، لا عن طريق العلل المباشرة التي تفسر وجود الظواهر كما يدركها العقل.
وتنشأ الخرافة من سيادة الأهواء والانفعالات على العقل، وعلى رأسها الخوف والرجاء؛ إذ يتذبذب الشعور الديني بين الخوف والرجاء، أو بين الرهبة والرغبة. فالحوادث الحسنة فأل طيب، والحوادث السيئة تبعث على التطير والتشاؤم، ويرتبط بالخوف العجز عندما يود الشعور الديني التأثير على الطبيعة باستدعاء الأرواح، لا بالفعل المباشر، أو بطلب العون الإلهي، أو بالنذور، أو بالصلاة لدرء الكوارث، أو لاستجلاب الرزق، لدفع البركان، أو لإهطال المطر. كل أولئك مظاهر للعجز أمام الطبيعة، فلا ذرف الدمع خشية ورهبة يجدي، ولا الدعاء أملا ورجاء يفيد، ومن ثم قد يصبح أعجز الناس هو أكثرهم حكمة. فإذا كان الخوف سبب الخرافة، فإن الخوف نفسه سينشأ عن نقص في الشجاعة، وقد يكون التأليه نتيجة لهذا النقص، وهو ما لحظه برجسون أيضا على كل تفكير مثالي من أنه ضعف في الإرادة
Aeilléite ، كما قد يقوم الإيمان على الكراهية والتعصب، فبعض المؤمنين هم أكثر الناس قدرة على الكراهية، وأشدهم تعصبا حتى ليعرف قوة الإيمان بقوة غضبهم وحقدهم على البشر. وربما يقوم على الذلة والغرور، فإن كان المؤمن في حاجة إلى شيء ذل نفسه، وإن كان غنيا عن العالمين ركبه الغرور، أي أن سبينوزا يبدو وكأنه من أنصار المدرسة النفسية في تاريخ الأديان التي تدرس مظاهر التدين على أنها ظواهر نفسية أو مرضية؛ إذ إن معظمها يقوم على مواقف عزاء أو تعويض نفسي عندما يتم اللجوء إلى الله في حالة الكرب، أو عن مواقف نفاق وتغطية، كما يتستر على الغني بالتفاوت في الرزق، وبالقضاء والقدر، وكما يتستر بالدين على الإشباع الجنسي، كما يفعل الشيخ المتصابي، أو من أجل الحصول على مصلحة شخصية، كما هو واضح في الشحاذة.
والخرافة والوهم والعجز هي من أسباب الوقوع في التقديس، تقديس موجود متعال خارج الطبيعة، يتدخل فيها كما يشاء، كما يفعل الحاكم المطلق، أو الملك الذي يخضع للأهواء والانفعالات. فاعتبار المقدس خارج العالم عجز عن إدراكه داخل العالم، وخوف منه، وإبعاد له، خاصة إذا أصبح هذا المقدس مرادفا للسر، أو هو وقوع في الوثنية المجردة، أو الوثنية الحسية.
وأشد غرابة من ذلك أن يتميز المؤمنون في إيمانهم بعقائدهم وشعائرهم وملابسهم وألقابهم، فيظن الجمهور أن الدين هو المناصب في المعابد التي يتعيش فيها رجال الدين، أو يتعيشون عليها، حتى أصبح الكهنوت غواية الجميع، اشتاقته أشد القلوب قسوة، وحتى أصبح الشره والطمع طريق الدعوة إلى الدين وإلى الله. تحولت الكنائس إلى مسارح، وتحول رجال الدين إلى خطباء محترفين، لا يرومون تعليم الشعب بل التكسب منه، والتعيش عليه، وجل غايتهم أن يعجب الناس بهم وبما يبتدعونه في الدين. وطبيعي أن يبدأ التنافس والحسد فيما بينهم على ما اغتنموه، فلا عجب إذن إن لم يبق من الدين إلا مظهره الخارجي - أي عبادة الأوثان
Adoration
لا عبادة الله
Adulation - ومن الإيمان إلا التصديق بالأحكام السابقة، خاصة أحكام من ينزلون بالبشر إلى مستوى الحيوانات، لأنهم يمنعونهم حرية الحكم، وحرية التمييز بين الخطأ والصواب.
أما الدين كما يتصوره الصوفية، فهو مجموعة من الخرافات والخزعبلات والأوهام، حتى أصبح الدين احتقارا للعقل، وبعدا عن الذهن الذي قيل عنه إنه فاسد بالطبع، مع أنهم لو كانوا قد اهتدوا إليه بالنور الفطري لما أصابهم الغرور، ولما وقعوا في الكذب، ولعبدوا الله حبا فيه، لا كراهية للناس، ولما اضطهدوا مخالفيهم في الرأي، ولعطفوا عليهم، ولحرصوا على سلامة الآخرين كما يحرصون على سلامتهم، ولما أعجبوا بأسرار الكتاب التي لا تتعدى بعض التأملات الأفلاطونية الأرسطية، أو التوفيق بينها وبين الكتاب؛ حتى لا يتهمهم الناس باتباع فلسفة الوثنيين، وحتى لا يقعوا في أخطاء اليونان، جعلوا الأنبياء يهذون. فضلا عن ذلك، فإنهم لم يشكوا مطلقا في المصدر الإلهي للكتاب المقدس، وكلما شعروا فيه بالأسرار أطاعوه طاعة عمياء، مع أن إثبات المصدر الإلهي للكتاب لا بد أن يكون نتيجة للبحث العلمي لمحتواه.
الدين إذن على ما يقول فويرباخ موقف مغترب، أي إنه موقف غير طبيعي، والموقف العقلي العلمي هو الموقف الطبيعي. التدين والنور الفطري نقيضان؛ إذ يعتبر المتدين النور الفطري مصدرا للاتدين وللإلحاد وللبدع، مع أن التدين نفسه قائم على مجموعة من الخزعبلات التي يظنها المتدينون تعاليم إلهية. فإلحاد الفلاسفة الذين يعتمدون على النور الفطري هو الإيمان الصحيح، وإيمان المتدينين القائم على الأوهام والخرافات وثنية حسية؛ أي إلحاد صحيح. ومن ثم كان اللاتدين شرط العلم وكان رفض التأليه شرط إدراك الطبيعة، فالإنسان موجود في عالم واحد وهو العالم الطبيعي وليس في عالمين؛ لأن الفكر تحليل للطبيعة.
صفحه نامشخص