رسالة في كيفية المناظرة مع الشيعة والرد عليهم لأحمد بن زيني دحلان
1 / 1
- بسم الله الرحمن الرحيم -
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
أما بعد، فهذه كلمات كنت سمعتها من شيخنا رحمه الله تعالى كان يذكرها ويكررها كثيرا في مجالس متفرقة ويقرر كثيرا منها في درسه نصحا للمسلمين وشفقة من أن يدخل عليهم بعض أهل الزيغ والبدع شيئا من الشبهات المخلة بعقيدة أهل السنة والجماعة لا سيما أنه كان يرى كثيرا من أهل البدع يأتون إلى مكة بقصد الحج ويختلط بهم كثير من أهل السنة فيلقون إليهم بعض الشبهات التي يستندون إليها في زيغهم وضلالهم، فكان الشيخ ﵀ يحذر الناس كثيرا من مخالطة أهل البدع ويقرر لكثير من طلبة العلم كثيرا من الدلائل التي يستدل بها أهل السنة ويعلمهم كيفية البحث والمناظرة مع أهل البدع بالطرق العقلية والنقلية. ففي مدة إقامته بمكة ما كان أحد من المبتدعة يستطيع أن يظهر نفسه ولا أن يتكلم ظاهرا بشيء مما يضمره في نفسه خوفا من الشيخ ﵀
1 / 30
تعالى. وكذلك الذين يخالفون المذاهب الأربعة ويدعون الاجتهاد كانوا يخافون منه غاية الخوف. وكذلك طائفة الوهابية. فكان رحمه الله تعالى حجة على جميع المخالفين.
(لا بد من أصل يرجع إليه عند الاختلاف)
فكان رحمه الله تعالى يقول في كيفية مناظرة المخالفين لأهل السنة وإلزامهم الحجج العقلية والنقلية: لا يخفى على كل متناظرين في فن من الفنون أنه لا بد لهما من أصل يرجعان إليه عند الاختلاف يكون متفقا عليه عندهما. فإذا كانت المناظرة مثل بين حنفي وشافعي في مسئلة فقهية فإنهما يرجعان إلى الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس، فمن أقام دليله منهما بواحد من هذه وعجز الآخر كانت الغلبة له أعني من أقام الدليل. وأما إذا لم يكن لهما أصل يرجعان إليه عند الاختلاف يكون متفقا عليه عندهما بأن كان كل منهما يرجع إلى أصل لا يقول به الآخر فلا تمكن المناظرة بينهما. فإذا كانت المناظرة بين سني وغيره من المبتدعة من أي طائفة كانت فلا بد أن يتفقا قبل المناظرة على أصل يرجعان إليه عند الاختلاف. فإن كان المبتدع لا يقول بالعمل بكتب أهل السنة ولا بقول الأئمة الأربعة وغيرهم من المحدثين وغيرهم من أهل السنة فلا بد من أن السني يجتهد باللطف وحسن السياسة حتى يلزمه أولا بالإلزامات العقلية التي تلجئه إلى الإقرار والاعتراف بأصل يكون مرجعا عند الاختلاف كالقرآن العزيز. كأن يقول: هل تؤمن بأن ما بين دفتي المصحف كلام الله المترل على سيدنا محمد ﷺ المتعبد بتلواته المتحدى بأقصر سورة منه؟ فإن أنكر ذلك أو شك فيه كفر؛ فلا يحتاج إلى المناظرة معه بل تجرى عليه أحكام الكافرين. وكذا إن أعتقد أن في القرآن تغييرا وتبديلا لأنه مكذب لقول الله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (١)
(آيات أنزلها الله ثناء على الصحابة)
وإذا أقر واعترف وقال:
_________
(١) الحجر: ٩
1 / 31
أؤمن بأن ما بين دفتي المصحف كلام الله تعالى المترل على سيدنا محمد ﷺ المتعبد بتلواته المتحدى بأقصر سورة منه؛ يتلو عليه أو يكتب له في ورقة بعض الآيات التي أنزلها الله تعالى ثناءً على الصحابة ﵃ كقوله تعالى في سورة الأنفال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (١) وقوله تعالى في سورة التوبة: ﴿لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (٢) وكقوله تعالى في سورة التوبة أيضا: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (٣) وكقوله تعالى في سورة الفتح: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ (٤) وكقوله تعالى في سورة الفتح أيضا: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ (٥) وكقوله تعالى في سورة الحديد: ﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ (٦) مع قوله تعالى في سورة الأنبياء: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾ (٧) ويتلو عليه أيضا قوله تعالى في سورة الحشر: ﴿لِلْفُقَرَاءِ
_________
(١) الأنفال ٦٤
(٢) التوبة ٨٨ - ٨٩
(٣) التوبة ١٠٠
(٤) الفتح ١٨
(٥) الفتح ٢٩
(٦) الحديد ١٠
(٧) الأنبياء ١٠١
1 / 32
الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ (١)
ثم بعد تلاوة هذه الآيات أو كتابتها في صحيفة يقول له السني: هذه الآيات من القرآن العزيز أنزلها الله تعالى مثنيا بها على أصحاب النبي ﷺ وشاهدا لهم بأنهم صادقون ومخبرا بأن لهم الجنة، وقد أقررت بأنها آيات الله فيلزمك ترك الطعن عليهم والقدح فيهم لأنك إن فعلت ذلك كنت مكذبا بما تضمنته هذه الآيات وتكذيب آيات الله كفر فما تقوله في ذلك؟ فإن قال إن هذه الآيات لا تشملهم؛ قلنا يدفع ذلك قوله تعالى: ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ وعلى فرض إرخاء العنان وتسليم أنها لا تشملهم، يُسئل عمن نزلت فيهم فإن النبي ﷺ بعثه الله فدعا الناس إلى الله تعالى ومكث فيهم ثلاثا وعشرين سنة يترل عليه القرآن ويتلوه عليهم ويعلمهم الأحكام والشرائع فآمن به خلق كثير. ولما توفاه الله تعالى كان عددهم نحو مائة ألف وأربعة وعشرين ألفا وأنزل فيهم هذه الآيات، فيها مدحهم والثناء عليهم، وشهد لهم بأنهم صادقون وأن لهم الجنة. وكذلك جاء عن النبي ﷺ أحاديث كثيرة تشهد لهم بمثل ذلك بعض تلك الأحاديث عامة وبعضها خاصة بناس مذكورين فيها أسماؤهم. فهل هذه الآيات عامة لهم جميعا أو خاصة ببعضهم؟ فإن قلت إنها خاصة ببعضهم فمن ذلك البعض هل هو معلوم أو مجهول وهل هو كثير أو قليل وهل منهم الخلفاء الأربعة وبقية العشرة والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار كأهل بدر وأحد وبيعة الرضوان أم لا؟ فإن قال إنها عامة للجميع وجب عليه أن يعتقد نزاهتهم عما يعتقده فيهم ويؤول كلما وقع بينهم من الاختلاف ويحمله على الاجتهاد وطلب الحق وأن
_________
(١) الحشر ٨
1 / 33
المصيب منهم له أجران والمخطئ له أجر واحد، كما جاء ذلك عن النبي ﷺ وأن يعتقد أنهم لا يجتمعون على ضلال كما ثبت ذلك أيضا عن النبي ﷺ. فإن لم يفعل ذلك كله كان مكذبا بالآيات والأحاديث التي جاءت في الثناء عليهم والشهادة لهم بالصدق والإخبار بأن لهم الجنة.
وإن قال إن تلك الآيات والأحاديث في بعض منهم والسابقون فسقة أو مرتدون. يسئل عن هذا البعض الذين نزلت فيهم تلك الآيات هل هم معروفون معينون بأسمائهم وألقابهم أم لا، وهل هم كثيرون أم قليلون، وهل منهم الخلفاء الأربعة وبقية العشرة وأهل بدر وأحد وبيعة الرضوان أم لا. فإن قال إنهم كثيرون وإن هؤلاء المذكورين داخلون فيهم لزمه أيضا أن يعتقد نزاهتهم إلى آخر ما تقدم وإلا كان مكذبا بالآيات والأحاديث التي جاءت في الثناء عليهم. وإن قال إنهم قليلون خمسة أو ستة كما اشتهر عند الرافضة؛ يسئل فيقال له ما فعل الباقون؟ فإن قال إنهم ارتدوا أو فسقوا بعد النبي ﷺ؛ فقل له إن الله تعالى قال في حق هذه الأمة: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ (١) فكيف يقول عاقل بأنهم خير أمة أخرجت للناس وقد مكث فيهم نبيهم ثلاثا وعشرين سنة يتلو عليهم القرآن ويعلمهم الأحكام. ثم يرتدون بعد وفاته وهم نحو مائة ألف وأربعة وعشرين ألفا ولم يبق منهم على الإسلام إلا خمسة أو ستة؛ فإن ذلك يقتضي أنهم أخبث أمة أخرجت للناس لا أنهم خير أمة أخرجت للناس. وقد أثنى الله عليهم في كتابه وكذا نبيه ﷺ في أحاديث كثيرة عموما وخصوصا وسمى كثيرا منهم بأسمائهم وحذر الأمة من سبهم وتنقيصهم وبغضهم، فيكون ذلك كله كذبا منه ﷺ وحاشاه من ذلك فإنه معصوم من
_________
(١) آل عمران: ١١٠
1 / 34
الكذب وسائر المحرمات والمكروهات. فالحكم بارتدادهم أو فسقهم إلا نحو خمسة أو ستة منهم تكذيب لقول الله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ وتكذيب لثناء النبي ﷺ عليهم مع قوله ﷺ: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم».
فإن صمم على اعتقاده ولم ينقد لهذا الإلزام فلا تجرى معه مناظرة بل لا ينبغي أن يخاطب لأنه غير عاقل بل غير مسلم. ويجب على كل حاكم عادل أن ينتقم منه بما يقدر عليه من الاهانة ولو بالقتل، فإن الذي يعتقد ارتداد أصحاب النبي ﷺ إلا نحو خمسة أو ستة يستحق القتل لأن ذلك يستلزم إبطاله للشريعة فإنها إنما نقلها إلينا عن النبي ﷺ أصحابه، وكذلك القرآن إنما وصل إلينا من طريقهم. ويلزمه تكذيب الآيات والأحاديث التي جاءت في الثناء عليهم، وإذا لم يستحق مثل هذا القتل فمن الذي يستحقه.
وأما إذا اعترف بأن الآيات والأحاديث التي جاءت في الثناء عليهم حق وأنها فيهم جميعا أو في الأكثر منهم وأن منهم الخلفاء الأربعة وبقية العشرة وأهل بدر وأحد وبيعة الرضوان، فيجب عليه حينئذ أن يعتقد نزاهتهم عن كل ما يقدح فيهم.
(السنة الصحيحة ما صححه أئمة الحديث الثقات المشهورون)
ثم يصير البحث والمناظرة معه في بيان التفاضل بينهم واستحقاق الخلافة. ولا بد أيضا قبل المناظرة أن يمهد بين المتناظرين أصل آخر يكون المرجع إليه عند الاختلاف كالكتاب والسنة الصحيحة والإجماع والقياس. والمراد بالسنة الصحيحة ما صححه أئمة الحديث الثقات المشهورون بين الأمة في مشارق الارض ومغاربها المشهود لهم بالعلم والمعرفة والإتقان الذين أفنوا أعمارهم في تحصيل الحديث وتدوينه ورحلوا في تحصيله إلى مشارق الارض ومغاربها وعرفوا الصحيح من الضعيف
1 / 35
والموضوع وعرفوا الرواة وميزوا الثقة الذي تقبل الرواية عنه من غيره. وكل ذلك موضح مبسوط في كتب التواريخ والسير وطبقات العلماء بل ألفوا كتبا خاصة في أسماء الرجال طبقة بعد طبقة وذكروا فيها صفاتهم وتواريخ ولاداتهم ووفاتهم وتفاوت درجاتهم في العلم ومن يقبل منهم ومن لا يقبل، كل ذلك لله الحمد موضح مبين بغاية التوضيح والبيان.
فإذا صارت المناظرة والاستدلال من أحد المتناظرين لا يقبل شيء من الروايات ولا من الرواة إلا من حكم الأئمة العارفون بقوله ولا تقبل رواية المجهول ولا من حكموا عليه بالضعف وعدم القبول ولا يقبل في الجرح والتعديل إلا قول الأئمة العارفين. وأما غيرهم ممن لا معرفة له بالحديث أو لم يذكره أحد من أئمة الحديث ولم يترجموا له في رجال الحديث ولم يبينوا أوصافه فإنه لا يقبل قوله ولا روايته ولا تصحيحه ولا تضعيفه ولا جرحه ولا تعديله. فإذا حصل الاشتباه في أحد تراجع كتب الأئمة فإن وجد مذكورا فيها بالعدالة والمعرفة والضبط قبلت روايته بعد تصحيح إسنادها إليه وإن وصف بعدم ذلك لم تقبل روايته، وكذا لو لم يذكروه أصلا فإنه لا تقبل روايته ولا تصحيحه ولا تضعيفه ولا جرحه ولا تعديله. فإذا اتفق المتناظران على هذا الأصل أيضا أمكنت المناظرة بينهما حينئذ بإيراد ما يورده كل منهما وإقامة الدليل عليه من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس وإسناد ذلك إلى الثقات من الأئمة وإلى كتبهم المشهورة. فإن لم يتفقا على هذا الأصل لا تمكن المناظرة بينهما.
وإذا حصلت المناظرة بينهما فليكن السني حريصا على إقامة البرهان والحجة على خصمه أولا بالآيات القرآنية التي تلزم خصمه الاعتراف بتراهة الصحابة عما يقدح فيهم وفي عدالتهم. ثم بالأحاديث النبوية الدالة على ذلك أيضا. ولا يذكر له شيئا من
1 / 36
الأحاديث إلا بعد إلزامه بما تضمنته الآيات القرآنية، فإن البحث مع المبتدعة في الأحاديث قبل إلزامهم بما تضمنته الآيات لا ينتج بفائدة. وكذلك البحث معهم قبل تقرير المرجع عند الاختلاف على الوجه المذكور آنفا لا ينتج بفائد، ة لأن أدلتهم التي يستدلون بها على مطالبهم كلها تمويهات لا محصول لها عند التحقيق. ولهم أكاذيب واختلاقات ينسبونها إلى سيدنا علي ﵁ والى أهل البيت لا يثبت شيء منها عند التحقيق.
وأما أهل السنة فعندهم أدلة كثيرة على معتقدهم منسوبة إلى الأئمة الثقات وكثير منها منسوبة بالأسانيد الصحيحة إلى سيدنا علي ﵁ وعلماء أهل البيت لا يمكنهم الطعن في شيء منها.
وأما شبهات المبتدعة واستناداتهم التي يستندون إليها فلا يقبلها منهم إلا جاهل غير مطلع على كتب الأئمة الذين يكون المرجع إليهم عند الاختلاف. وأما العالم بالمعرفة والاطلاع فإنه يزيف لهم كل دليل يستندون إليه مخالفا لمذهب أهل السنة ويقيم لهم على ذلك الحجج الواضحة والبراهين الفاضحة. فالعاقل لا يتعب نفسه معهم في المناظرة قبل تمهيد الأمر على الوجه الذي ذكرناه. ولا بد أن يقرر لخصمه أنه إذا حصل اختلاف في معاني بعض الآيات والأحاديث يكون المرجع في تفسير ذلك وبيانه تفاسير الأئمة المشهورين بالعلم والمعرفة والإتقان وشروح الأحاديث المنسوبة أيضا للأئمة المشهورين بالعلم والمعرفة والإتقان ولا يفسر شيئا من الآيات والأحاديث بالرأي قبل معرفة كلام الأئمة المذكورين. فإن الأخذ بظواهر الآيات والأحاديث قبل عرضها على كلام الأئمة أصل من أصول الكفر كما صرح بذلك كثير من الأئمة منهم الإمام السنوسي في شرحه على أم البراهين. فلا يجوز تفسير شيء من الآيات والأحاديث بالرأي ولا حملها على معان لم ينص عليها
1 / 37
الأئمة المعتبرون. فلا بد في ذلك كله من النقل عن الأئمة المجتهدين في الدين العارفين بمعاني الكتاب المبين وبأحاديث النبي الأمين ﷺ وعلى آله وصحبه أجمعين. فليس لنا أن نقول هذه الآية تدل على كذا وهذا الحديث يدل على كذا إلا بالنقل عن الأئمة المعتمدين لأنا لسنا من أهل الاجتهاد ولا الاستنباط. وقد ذكر العلماء أن مرتبة الاجتهاد قد انقطعت بعد عصر الأئمة الأربعة فلم يوجد بعدهم من فيه أهلية للاجتهاد المطلق. قالوا وأدعاها الإمام محمد بن جرير الطبري وكان إماما جليلا في القرن الرابع فلم يسلموا له بلوغه مرتبة الاجتهاد المطلق وكان متضلعا من العلوم عارفا بالمنطوق والمفهوم. فإذا كان مثل هذا الإمام لم يسلم له الاجتهاد المطلق فما بالك بغيره. إنما عزت رتبة الاجتهاد بعد عصر الأئمة ببعد العهد وضعف العلم بالنسبة إلى زمنهم. لأن المجتهد المطلق له شروط كثيرة منها أن يكون ممتلئا بالعلوم عارفا بالمنطوق والمفهوم وبالناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه والمجمل والمبين وغير ذلك من الأقسام. ولا بد أيضا من أن يكون عارفا بالحديث وأنواعه من صحيح وحسن وضعيف ومنسوخ وغير ذلك وعارفا بالرجال المقبول منهم وغير المقبول ومطلعا على أقوال الصحابة والتابعين وبقية الأئمة المجتهدين وعلى ما قرروه في الآيات والأحاديث وعارفا بمأخذهم وكيفية استنباطاتهم والقواعد التي بنوا عليها أقوالهم في كل مسئلة وغير ذلك مما ذكر العلماء في شروط الاجتهاد. وكل ذلك في هذه الأعصار أصعب من خرط القتاد لطول المدة بيننا وبينهم مع ضعف العلم وغلبة الجهل فلا يجوز لأهل هذه الاعصار الاجتهاد والاستنباط في شيء من الآيات والأحاديث، بل يجب عليهم الأخذ بأقوال أئمة الدين واتباعهم في كل ما يقولون من الأحكام الفقهية وتفسير
1 / 38
الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.
ولو لم نقل ذلك لزم الزيغ والضلال والإلحاد في الدين لأن كثيرا من الآيات والأحاديث يعارضها مثلها من الآيات والأحاديث ولا اطلاع لغير المجتهدين على ذلك إلا بالنقل عنهم وبعضها منسوخ وبعضها مخصص وبعضها مجمل وبعضها متشابه إلى غير ذلك من الأقسام وكل ذلك لا يعرفه إلا الأئمة المجتهدون ولا نعرفه نحن إلا بالنقل عنهم. فلذلك كان الأخذ بالظواهر قبل معرفة كلام الأئمة أصل من أصول الكفر. وبعض الآيات والأحاديث تكون عند الأئمة محمولة على معان ظهرت لهم بأدلة وقرائن خفيت علينا فلا يجوز لنا مخالفة أقوالهم فيها.
ولنذكر شيئا من الأمثلة التي تعارضت فيها الأحاديث وأجاب الأئمة عن تعارضها وحملوا كلا منها على معنى صحيح. فمن ذلك قوله ﷺ: "علي سيد العرب" (١) إن أخذ بظاهره وحمل على عمومه فربما يستدل به المخالف على أفضلية علي على أبي بكر ﵄ أو على استحقاقه الخلافة قبله، مع أن ذلك معارض بالادلة الكثيرة التي هي أصح وأقوى في الدلالة على أفضلية أبي بكر واستحقاقه التقدم في الخلافة. فإنه قد صحت أحاديث كثيرة على أن أبا بكر ﵁ أفضل الخلائق بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأنه أحق بالخلافة وكل ذلك مبسوط في كتب أئمة أهل السنة. فحينئذ لا يجوز حمل قوله ﷺ: "علي سيد العرب" على عمومه لكل شيء حتى يعارض ذلك، فحمله الأئمة على أن هذه السيادة في شيء مخصوص كالنسب مثلا والاتصال بالنبي ﷺ فجمعوا بين النصوص بهذا الحمل ليندفع التعارض.
ومن ذلك أيضا قوله ﷺ: «سدوا كل خوخة في المسجد إلا خوخة أبي بكر» ﵁ قال الأئمة من أهل السنة: إن
_________
(١) قال الذهبي في ميزان الاعتدال: باطل.
1 / 39
في ذلك إشارة إلى أنه الخليفة بعده فأمر ﷺ بابقاء خوخة داره غير مسدودة حتى يسهل عليه الدخول للمسجد ليصلي بالناس لأن الخليفة هو الذي يصلي بالناس وكل أمير كان يؤمره ﷺ على جماعة كان يأمره بالصلاة بهم. قالوا ولا يعارض هذا الحديث قوله ﷺ: "سدوا كل باب في المسجد إلا باب علي" ﵁، لأن الحديث الأول أصح إسنادا وشرط التعارض التساوي ولأنه قاله ﷺ في مرضه الذي توفى فيه حين قال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» وأما حديث علي ﵁ فقد قاله النبي ﷺ قبل ذلك ولأن بيت علي ﵁ كان ملاصقا لحجرة النبي ﷺ وليس له طريق إلى المسجد إلا بفتح باب من بيته إلى المسجد. وأما أبو بكر ﵁ فإنه كان له طريق إلى المسجد من غير احتياج إلى فتح الخوخة وإنما أمر بفتح الخوخة ليسهل تردده إلى المسجد ليصلي بالناس فلا تحصل له مشقة بسلوك طريق آخر.
وهناك أمثلة كثيرة يطول الكلام بذكرها ولو كان الأخذ بظواهر القرآن جائز من غير عرضه على كلام الأئمة لأشكل كثير من الآيات. من ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ (١) مع قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (٢) فبينهما بحسب الظاهر تعارض يندفع بما قرره الأئمة في ذلك. قالوا إن معنى قوله تعالى ﴿وإنك لتهدي﴾ أنك تدل الخلق على الله وتدعوهم إلى الايمان به. ومعنى قوله تعالى: ﴿إنك لا تهدي من أحببت﴾ أنك لا تخلق الهداية في قلوبهم لأن الخالق لذلك هو الله تعالى. وأمثال ذلك في القرآن كثير.
فليس لنا أن نعدل عن كلام الأئمة ونأخذ ذلك بالرأي. فمن فعل ذلك كان من الضالين الهالكين. فيجب على كل من لم يبلغ درجة الاجتهاد
_________
(١) القصص: ٥٦
(٢) الشورى: ٥٢
1 / 40
أن يقلد واحدا من الأئمة الأربعة الذين أجمعت الأمة على صحة مذاهبهم وهم الإمام أبو حنيفة النعمان والإمام مالك بن أنس والإمام الشافعي محمد بن إدريس والإمام أحمد بن حنبل ﵃. فهم وأتباعهم هم أهل السنة والجماعة. وكانت المذاهب في زمن التابعين وأتباعهم كثيرة -مثل مذهب الأوزاعي وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وإسحاق بن راهويه وغيرهم- ولكن غير الأربعة اندرست مذاهبهم ولم تعرف الآن قواعد مذاهبهم التي أسسوا عليها كل مسئلة فلذلك امتنع تقليد أحد منهم الآن، بخلاف المذاهب الأربعة فإنها تدونت مذاهبهم وأسست قواعدها وورد عليها أنظار العلماء قرونا كثيرة وانعقد الإجماع على صحتها، ولا تجتمع الأمة على ضلال لقوله ﷺ: "لا تجتمع أمتي على ضلال" واستند الإمام الشافعي لكون الإجماع حجة من قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ (١) والمراد من الإجماع الذي يكون حجة وهو إجماع أهل السنة والجماعة. ولا عبرة بغيرهم من المبتدعة والفرق الضالة. فإن أهل السنة والجماعة هي الفرقة الجارية على ما كان عليه النبي ﷺ وأصحابه. فقد أخبر النبي ﷺ بأن الأمة «ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة». وهي التي تكون على ما كان عليه النبي ﷺ وأصحابه.
وإذا نظرت تجد أهل السنة هم الذين قاموا بنصرة الشريعة ودونوها وألفوا الكتب في أيضاحها وبيانها وتحقيقها من كتب التفسير والحديث والفقه والنحو وغير ذلك من العلوم المنقولة والمعقولة أما غيرهم فليس لهم شيء من ذلك وإن وجد لهم شيء من التأليف فعلى سبيل الندرة وملؤا كتبهم بأكاذيب وقبائح تقتضي إبطال
_________
(١) النساء: ١١٥
1 / 41
الشريعة ورفضها والطعن على ناقليها من الصحابة وغيرهم. وقد قال ﷺ: "عليكم بالسواد الأعظم فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية" والسواد الأعظم هم الجماعة الكثيرة وهم أهل السنة والجماعة. فإياك أن تفارقهم فتكون من الهالكين.
(الاجتهاد والتقليد)
ثم إن العلماء قسموا المجتهدين إلى مجتهد مطلق ومجتهد مذهب ومجتهد فتوى. فالمجتهد المطلق من كانت له ملكة وأهلية لاستنباط كل مسئلة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح كالأئمة الأربعة ﵃. ومجتهد المذهب من كانت له ملكة وأهلية للاستنباط من قواعد إمامه فإذا عرضت عليه مسئلة لم ينص عليها إمامه يستنبطها من قواعد مذهبه وربما أنه يقتدر أن يستنبط بعض المسائل من الكتاب والسنة والإجماع والقياس لكن لا يقدر على ذلك في كل مسئلة وذلك كأصحاب الأئمة كأبي يوسف ومحمد صاحبي الإمام أبي حنيفة والمزني والربيع صاحبي الإمام الشافعي. وهكذا أصحاب بقية الأئمة ولو كانوا يقتدرون على استنباط كل مسئلة من الكتاب والسنة أو الإجماع أو القياس لكانوا يجتهدون اجتهادا مطلقا ولا يقلدون أئمتهم، فهذا هو الفرق بينهم وبين المجتهد المطلق. وأما مجتهد الفتوى فهم أصحاب الترجيح للأقوال من أرباب المذاهب وهم من كملوا في العلم والمعرفة ولم يصلوا لرتبة مجتهد المذهب ومجتهدي الفتوى كثيرون كالرافعي والنووي وابن حجر والرملي في مذهب الشافعي. وأما من لم يصل إلى رتبتهم فلا يجوز له الترجيح بل لا يجوز له إلا مجرد النقل عنهم. وكان شيخنا ﵀ يتعجب ممن يدعون الاجتهاد والأخذ من الكتاب والسنة في هذا العصر ويقول إنما حملهم على ذلك الجهل المركب لأنهم ليس فيهم شيء من شروط مجتهدي الفتوى فضلا عن شروط مجتهدي المذهب فضلا عن شروط المجتهد المطلق،
1 / 42
وإنما لبس عليهم الشيطان ففارقوا السواد الأعظم وصاروا يتخبطون وربما خرقوا إجماع الأئمة الأربعة في بعض المسائل وإذا أشكل عليهم شيء من الآيات والأحاديث يرجعون إلى كتب التفسير وشروح الحديث ويأخذون بما يقولون ويقلدونهم في ذلك مع أن مؤلفي التفسير وشروح الحديث الذين أخذوا بأقوالهم وقلدوهم كلهم مقلدون فهم ما رضوا بتقليد الأئمة الأربعة وقلدوا بعض أتباعهم وكل ذلك دليل على جهلهم ولو قرؤا كتب العلم لعرفوا قدر أنفسهم فلا حول ولا قوة إلا بالله. فيجب على ولاة الأمر وفقهم الله لكل خير أن يمنعوهم من ذلك التخبط ويأمروهم بالدخول في السواد الأعظم بتقليد أحد الأئمة الأربعة ﵃.
وإذا كان بعض أهل السنة من المقلدين لأحد الأئمة الأربعة وقع في قلبه شيء من شبه المبتدعة الطاعنين في الصحابة ﵃ وأردت مناظرته فالزمه أولا بأن الأئمة الأربعة الذين منهم إمامه كلهم يعتقدون نزاهة الصحابة وترتيبهم في الفضل على حسب ترتيبهم في الخلافة فيجب عليه أن يتبع إمامه الذي قلده. فإن لم ينفع فيه ذلك تقيم عليه الحجة التي أقمتها على المبتدعة من الآيات والأحاديث.
(صحبة أبي بكر)
وينبغي أن يتنبه المناظر من أهل السنة لغيره من أهل البدعة لأشياء هي أهم من غيرها فيستحضرها حال المناظرة ليلزم الخصم بها. منها أن إنكار صحبة أبي بكر كفر لأنها مذكورة في القرآن في قوله تعالى: ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ (١) فأجمعت الأمة أن المراد بالصاحب في الآية أبو بكر ﵁.
(براءة عائشة)
وكذا إنكار براءة عائشة ﵂ كفر، لأن الله أنزل عشر آيات في سورة النور في براءتها فمن أنكر براءتها فهو كافر. ولا يجوز التعرض لها بشيء يقتضي النقص بل يجب محبتها والترضي عنها لأن النبي - صلى
_________
(١) التوبة: ٤٠
1 / 43
الله عليه وسلم - أثنى عليها وقال: "خذوا شطر دينكم عنها" وأخبر أن الله زوجه إياها وأنها زوجته في الدنيا والآخرة. كل ذلك ثبت بالأحاديث الصحيحة التي لا يمكن الطعن فيها. فالتعرض لها تكذيب بأحاديث النبي ﷺ.
ومن تأمل الآيات التي نزلت في براءتها وعرف معناها علم أنها صديقة بنت صديق وأن لها قدرا عظيما عند الله تعالى. قال الله تعالى في بعض الآيات التي نزلت في براءتها: ﴿وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ (١) وقال تعالى تهديدا للقاذفين: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ﴾ (٢)
قال كثير من المفسرين منهم الزمخشري: من تصفح القرآن وتتبعه لم يجد فيه آية فيها تهديد مثل هذا التهديد ولا تخويف مثل هذا التخويف وذلك دليل على رفعة قدر عائشة ﵂ عند الله تعالى وتعظيم شأنها وتعظيمها تعظيم للنبي ﷺ.
(تفضيل الخلفاء الأربعة)
واعلم أن أدلة تفضيل الخلفاء الأربعة ﵃ على حسب ترتيبهم في الخلافة الذي هو مذهب أهل السنة كثيرة وهي صحيحة متواترة وثابتة عن علي ﵁ وأكابر علماء أهل البيت. ونقل ذلك عن علي ﵁ الجم الغفير من أصحابه وقالوا إنه كان يخطب في زمن خلافته على منبر الكوفة ويقول: إن أفضل الخلق بعد النبي ﷺ أبو بكر وعمر. وكل ذلك مبسوط في كتب الأئمة وإنكاره محض عناد ومكابرة. فإذا أراد المناظر المخالف بيان ذلك يوضح السني له ذلك مما هو مذكور في كتب الأئمة.
وأما أحقية تقديم أبي بكر ﵁ في الخلافة فكذلك لأهل السنة
_________
(١) النور: ٢٦
(٢) النور: ٢٣ - ٢٥
1 / 44
في ذلك أدلة كثيرة من الكتاب والسنة بعضها صريح وبعضها بالإشارة. وقد ثبت عن علي ﵁ الاعتراف بحقية خلافة أبي بكر وعمر وعثمان ﵃ ونقل ذلك عن الجم الغفير من أصحابه حتى صار ذلك متواترا فإنكاره محض عناد ومكابرة. فإذا أراد المخالف بيان ذلك يوضح له السني ذلك مما هو مذكور في كتب الأئمة.
(التقية)
ولا بد للسني أن يقيم الحجة والبرهان على المخالف في إبطال التقية التي ينسبونها لعلي ﵁ وهو بريء منها. لأن نسبة التقية إليه يستلزم نسبة الذل والجبن له -حاشاه الله من ذلك- بل يستلزم نسبة ذلك لجميع بني هاشم حاشاهم من ذلك. فإن عليا ﵁ كان في قوة ومنعة بهم لو أراد الخلافة زمن الخلفاء الثلاثة قبله أو كان عنده نص أو رأى أنه أحق منهم بها لنازعهم فيها ولوجد من يقوم معه وينصره في ذلك، ولكنه عرف الحق في ذلك وانقاد له كما جاء التصريح عنه بذلك في أحاديث كثيرة بأسانيد صحيحة ولم يترك ذلك تقية كما يقولون، ولو كان عنده نص لأظهره ولم يكتمه. ولما انقضت خلافتهم وجاء الحق ونازعه من ليس مثله حاربه وقاتله ولم يترك ذلك تقية. فنسبة التقية إليه فيها تحقير واذلال له، أعاذه الله من ذلك.
ولو صحت نسبة التقية له لم يوثق بشيء من كلامه فإن كل شيء يقوله أو يفعله يحتمل حينئذ أن يكون تقية حاشاه الله من ذلك.
ثم إن الرافضة قبحهم الله تجرؤا على النبي ﷺ ونسبوا التقية أيضا إليه. فإنهم لما أقيمت عليهم الحجج الواضحة في حقية خلافة أبي بكر ﵁ التي منها حديث: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» وكان معلوما علما ضروريا عند الصحابة ﵃ أن الأمير هو الذي يصلي بالناس ففهموا من ذلك أنه الخليفة بعده وكان ذلك الحديث مستفاضا متواترا
1 / 45
لا يمكن إنكاره ومروي عن كثير من الصحابة منهم علي ﵁ من طرق كثيرة صحيحة؛ قالوا إنما قال النبي ﷺ ذلك تقية. قاتلهم الله أني يؤفكون. مع أن لأهل السنة أدلة كثيرة على تقديم أبي بكر ﵁ في الخلافة ولو فرض أنه لم يوجد دليل إلا حديث الأمر له بالصلاة بالناس لكان كافيا، كيف وقد انضم إلى ذلك إجماع الصحابة على صحة خلافته ولا تجتمع الأمة على ضلال كما جاء ذلك عن النبي ﷺ وصح عن علي ﵁ التصريح بأنهم دخلوا في بيعة أبي بكر ﵁ لم يتخلف منهم أحد. فالقول بعدم صحة خلافته يستلزم تخطئة جميع الصحابة ﵃ واجتماع الأمة على ضلال وحاشاهم من ذلك. ويستلزم أيضا تكذيب النبي ﷺ في أحاديث كثيرة وفي أن أمته لا تجتمع على ضلال. ويستلزم أيضا تكذيب القرآن في شهادته لهم بالصدق في قوله: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ (١) وفي اخباره باستحقاقهم الجنة إلى غير ذلك من المحذورات التي لزمت هؤلاء الضالين. ويستلزم أيضا إبطال الشريعة لأنها إنما وصلت إلى الأمة بطريق الصحابة ﵃. بل يلزمهم أيضا التشكك في صحة القرآن لأنه إنما وصل إلينا من طريقهم ﵃.
والحاصل أن مذاهب المبتدعة كلها خيالات وضلال. قال ابن الأثير في تاريخه الكامل عند ذكره دولة العبيديين: إن المبتدعة إنما قصدوا بالطعن في الصحابة الطعن في الشريعة لأنها إنما وصلت إلينا من طريقهم. انتهى.
وأما مذهب أهل السنة والجماعة فهو المذهب الحق الذي كان عليه النبي ﷺ وأصحابه بلا إفراط فيها ولا تفريط ولا قدح في أحد الصحابة ولا تكذيب لشيء من القرآن والسنة، فهو بالنسبة لمذهب المبتدعة خرج
_________
(١) الحشر ٨ ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾
1 / 46
﴿مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ﴾.
ومن كان من أهل العلم والمعرفة ونظر في أدلة أهل السنة وأدلة غيرهم عرف حقيقة ذلك إن نور الله قلبه وأزال انطماس بصيرته. ومن نظر في كتب الحديث وتأمل في سيرته ﷺ من حين بعثه الله تعالى إلى أن توفاه علم مترلة الشيخين عنده وأنهما كانا عنده في أعظم المنازل لأنه كان يقربهما ويدنيهما ويستشيرهما وكانا يقضيان ويفتيان بحضرته ويراجعانه في بعض الأمور وربما أنه أراد أن يفعل بعض الأشياء أو يأمر بها فيريان أو أحدهما خلاف ذلك فيراجعان النبي ﷺ وقد يكرران عليه المراجعة فيرجع إلى قولهما أو قول أحدهما ولو كان ذلك غير حق لما رجع إليه ووافق عليه وإلا كان فاعلا خطأ أو مقرا عليه وهو معصوم من ذلك.
والرافضة قبحهم الله إذا أقيمت عليهم الحجة يمثل ذلك يقولون إنما كان يوافقهما أو يوافق أحدهما تقية قاتلهم الله أنى يؤفكون. فإن القول بالتقية يستلزم أن لا يوثق بشيء من أقواله أو أفعاله ﷺ إذ أن ذاك كله على قولهم يحتمل التقية فيلزمهم إبطال الشريعة والأحكام. ولا يقال إن مراجعة الشيخين أو أحدهما للنبي ﷺ في بعض الأشياء سوء أدب أو مخالفة لأمره لأنهما علما رضاه بذلك وسروره به ورغبته فيه، وما ذلك إلا لعظم مترلتهما عنده. ونزل كثير من آيات القرآن موافقا لرأي عمر ﵁ وعاتب الله نبيه ﷺ في مخالفته رأي عمر في قصة أسرى بدر كما هو مبسوط في كتب الأئمة.
ولما بعث الله نبيه ﷺ كان أعظم قائم بنصرته أبو بكر ﵁ فكان يعينه على تبليغ رسالة ربه ويدعو الناس إلى الدخول في دينه ويدفع عنه من يتعرض له.
1 / 47
وناله من قريش أذى كثير كما هو مبين في كتب السير. وكذلك عمر ﵁ كان من أعظم القائمين بنصرته بعد إسلامه في السنة السادسة من البعثة، فكان من أعظم الناس شدة على كفار قريش، وإن كان قبل إسلامه شديدا على المسلمين لكنه بعد أن أسلم كان من أشد الناس على الكفار حتى أنزل الله عند إسلامه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي يكفيك من حصل إسلامهم فلا تبال بتأخر غيرهم وكون نزولها عند إسلامه دليل على مزيد فضله حتى كأنه هو المقصود من الآية وحده. وكان ابن مسعود ﵁ يقول: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر. وكان علي ﵁ عند النبي ﷺ صغيرا في أول بعثة النبي ﷺ، وإن كان ﵁ بعد أن كبر كانت منه النصرة المأثورة والمواقف المشهورة، لكنهما كانا مميزان عنه بالنصرة الحاصلة في بدء الإسلام حين اشتدت وطأة قريش على المسلمين. وكذا بقية العشرة السابقين للإسلام. ولو كان ملك من ملوك الدنيا أعانه بعض الناس على تأسيس ملكه ونصرته على أعدائه حتى ظهر أمره وتم مراده لكان يحبه ويفضله على كثير من أقاربه. فما بالك بهؤلاء السابقين بالإسلام الذين قاموا بنصرة النبي ﷺ حتى أظهر الله دينه على الدين كله.
والرافضة قبحهم الله نظروا إلى القرابة وغفلوا عن هذه الاشياء وأهملوا قول علي ﵁: لا يجتمع حبي وبغض أبي بكر وعمر في قلب مؤمن. وأهملوا الآيات والأحاديث التي جاءت في فضل الشيخين وغيرهم من الصحابة فأداهم الأمر إلى إبطال الشريعة التي وصلت إلينا من طريقهم.
(حقوق القرابة وحقوق الصحبة والمؤازرة والنصرة)
وأما أهل السنة والجماعة فإنهم لم يضيعوا حق القرابة ويعترفون بفضلها ولا يضيعون حقوق الصحبة والمؤازرة
1 / 48