بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
الرابع من أصول الدين:
الإمامة وهي الاعتقاد والتدين بإمامة الأئمة الاثني عشر صلوات الله عليهم أجمعين.
والأمام عند الإمامية رضوان الله عليهم: - هو الوارث لعلم النبي ورياسته بعده المتخلق بأخلاقه، والمتحلي بأوصافه الجميلة، والخالي من جميع الأخلاق الرذيلة، السالك في الأمة سلوكه والثابت له كلما ثبت له عدا ربقة النبوة من السياسة والرياسة ووجوب الإطاعة، والعالم بالأحكام جملة حتى أرش الخدش علما حضوريا، لا يعزب عنه شئ منها، وإن كان إراديا في غير الأحكام مما كان ويكون حسب ما تقرر ذلك في كيفية علم الإمام (ع) ويلزم إن يكون معينا ومنصوبا من قبل النبي (ص) ولا يكفي نصب الأمة له، وهذه المسألة من أعظم مسائل أصول الدين، وهي معركة الآراء بين العامة والخاصة، فكم زلت بها الأقدام، وحادت فيها عن الحق أقوام بلا تروي ولا بصيرة حتى هلكوا وأهلكوا، والعقل والنقل لا يعذران الغافل والمتغافل، ولا من أخذته حمية الآباء فاقتدى آثارهم وسلك
صفحه ۱
سبيلهم، بل لو أدعي عدم وجود جاهل قاصر في هذا العصر عن هذا الأمر لم يكن بعيدا، فمن خلع برود العناد، ونظر بعين الإنصاف، وجانب جادت الاعتساف هداه الله إلى سواء الطريق، فإن النبوة والإمامة من واد واحد فمن أنكر أو حاد عن إحداهما أنكر الأخر وحاد عنه، وإن اعترف به لسانه أو عقد عليه قلبه، فإن ذلك لا يجدي في الخلاص من العذاب الدائم والخلود الأبدي في سقر وهو الكفر الباطني، وفي الأثر الصحيح (من لم يعرف إمام زمانه مات ميتة الجاهلية) وفيه بالمعنى لو إن عبدا صلى وصام، وجاء بالفرض والسنة مدة عمره ثم لم يعرف ولاية ولي الله فيواليه، ولا يتبرى من معاديه لا ينفعه ذلك كله، فإن النبي والإمام معا سفيرا حق منصوبان من جانب الله تعالى، والإقرار بأحدهما لا يكفي، وإنكار أحدهما كفر، نعم مشهور أصحابنا على عدم نجاسة منكر الإمامة، وهو لا ينفي الكفر، فإن ارتفاع حكم من أحكام الكفر لمصلحة لا يوجب ارتفاعه بعد إجماعهم على عد أصول الدين خمسة، واتفاقهم بأن المنكر لأحدها كافر وأما العامة فلا يرون إن الإمامة من أصول الدين، وظاهرهم إنهم يرون إنها من الفروع، حيث إنهم حصروا الأصول بالتوحيد والنبوة والمعاد وبنوا على إن الاعتقاد بالإمامة من واجبات الشريعة على حد وجوب الصلاة والصوم وباقي الفروع الضرورية، وظاهر إن مقالاتهم إن تعيين الإمام واجب عيني على الأمة لتوقف بعض الشرعيات على ذلك، كإجراء الحدود وسياسة الإسلام وغير ذلك مما لا بد له من وال يقوم به، وذلك مما لا مدخليه له في حقيقة الإسلام،
صفحه ۲
بل له مدخليه في توقف النظام، فإذا أجمع الأمة على نصب واحد مشخص أو نصب نفسه، وتعقبه رضاء العموم وجب عليهم حينئذ إطاعته والانقياد له ما دام قائما بتلك الوظائف الشرعية، وصريح مقالة بعضهم أن لو زاغ أو مال به الهوى فترك سياسة المسلمين خلع وإن لم تخلعه الأمة، وما دام باقيا عليها حرم البغي عليه ووجب جهاد من خرج عن طاعته وقتله، وإن قتله من باب إجراء الحد كإجرائه بالنسبة إلى المفسد والمحارب، وحيث قام الحرب بين الفريقين على ساق، وكل منهما جاء بالدلائل والبراهين على صحة ما ذهب إليه، ودونت في ذلك الكتب للفريقين لا بأس علينا بأن نكشف النقاب عن ذلك في هذه الرسالة، وانظر إلى ما قيل، وجانب الاعتساف فإنا قد أنصفناهم غاية الإنصاف، وربما أثرنا فيها إلى الرائق من أدلة الطرفين بأوضح إشارة، وأضفنا إلى ذلك ما سنح في ذهن هذا العبد الطالب للتوفيق من مبديه رجاء إن يكون ثالث العمل الذي لا ينقطع، وإن يسهل الأمر على طالب الحق فلا يراجع كتب الفريقين، فإن فيما نذكر كفاية للبصير النيقد، وأوضحنا عباراتها لينتفع بها العالم والمتعلم، وقبل الشروع في المقصود لا بد من ذكر مقدمات تورث سهولة المطلب للطالب: - المقدمة الأولى إنا قد أشرنا قبل إجمالا بأن النزاع دائر بين النفي والإثبات في النبوة بين المسلم والكافر، فمنكر النبوة في قبال مدعيها ناف، ومدعيها مثبت، وعلى المثبت الدليل، ومثله النزاع في الإمامة فإن مدعيها على الوجه الذي تقوله الشيعة مثبت في قبال النافي لها فيحتاج المثبت إلى الحجة لا النافي، فلا وقع حينئذ لما يتخيل من إن العامة كالخاصة
صفحه ۳
يعترفان بالإمامة إجمالا غير إن كل منهما يدعي إمامة شخص بخصوصه، فالعامة تقول بإمامة الخلفاء والخاصة ترى إمامة علي (ع) وأولاده الأحد عشر عليهم السلام، لأن دعوى خلافة الخلفاء لا تمكن إلا بعد الفراغ من بطلان دعوى الإمامية في إثبات الإمامة على وجه السابق من إن ذلك بتعيين الله والرسول، وعليه فبين الدعويين ترتب طبيعي إذ مستند دعواهم الإجماع المحكي في ألسنتهم حيث لا نص قاطع في الإمامة، ومستند دعوى الإمامية ورود النص الواجب اتباعه بما اعتقدوه من الإمامة، فيلزم أولا إبطال حجتهم ثم إيراد الدليل على خلافة الخلفاء، وليس لقائل إن يقول بعدم الفرق بين خلافة الأمير (ع) وبين خلافة غيره بحيال إن كل منهما قابل لإقامة الدليل عليه، فدعوى كل منهما يحتاج إلى البرهان، فإذا ثبت أحدهما بدليله بطل الثاني، وقد أورد علماء العامة من الأدلة العقلية والنقلية على خلافة الخلفاء ما يغني عن التفكر في أدلة الإمامية وحينئذ لا يلتفت إلى أدلتهم في إثبات خلافة الأمير (ع) لما هو مقرر من إن قيام الدليل العلمي على أحد الضدين يورث العلم الإجمالي بفساد أدلة الضد الأخر، ولا حاجة إلى التعرض إلى نقض أدلة الضد الأخر والجواب عنها تفصيلا، وتعرض علمائهم للجواب عنها تفصيلا إنما كان لرفع الشبهة عن جهالهم إذ ذلك كلام شعري لا محصل له فإن لم ندع إن خلافة الخلفاء لا تحتاج إلى الدليل أو إنها ليست بضد لخلافة الأمير (ع)،
صفحه ۴
أو إن الدليل على حقيقتها لا يكون دليلا على فساد خلافة الأمير (ع) وإنما قلنا بأن دعوى الإمامية بإمامة حضرة أسد الله الغالب (ع) بحسب المرتبة لها تقدم على دعوى المخالفين بحقية خلافة الخلفاء غيره، فإذا لم تبطل هذه الدعوى لا يمكن إثبات دعواهم على حقية خلافة خلفائهم نظير ذلك مثلا لو قبض الحاكم الشرعي مال من لا وارث له بحسب الظاهر، وأراد صرفه فيما يترجح في نظره من المصارف، ثم حصل من يدعي إنه يرث صاحب المال المقبوض، فإن الحاكم ليس له قطع المدعي بإقامة الدليل على صرفه فيما ترجح في نظره من المصارف، بل اللازم عليه أن يسمع تلك الدعوى من مدعيها فإن اتضحت لديه بطريق شرعي من بينة وغيرها رفع يده عن المال، وإلا فعليه بيان دليل صحت المصرف وغب (1) 1 بيانه صرف المال في مصرفه، وهذا أمر لا يسع الخصم إنكاره ولو ادعى الخصم بأن خلافة الخلفاء عند مثبتها كخلافة الأمير (ع) في كونها بالنص لا بالإجماع، فحينئذ لا مسرح لترتب المذكور، بل تحصل المعارضة، ويفزع إلى الترجيح لرددناه بأن ذلك لو قيل به فهو مخالف للإجماع من العامة في ثبوتها بالإجماع عندهم دون النص، ومخالف لما تواتر عن عمر ورواه المعتبرون من أهل السنة والجماعة في قضية الشورى من قول عمر لابن عباس أن أترك الاستخلاف فلقد ترك من هو خير مني يعني رسول الله (ص)، وأن استخلف فقد استخلف من هو خير مني يعني به أبا بكر في
صفحه ۵
حقه، ثم ما معنى الشورى بعد النص وما معنى الأمر بقتل المستخلف بالنص من النبي (ص) فما ذلك إلا اختلاق فلا يلتفت حينئذ إلى لقلقة الرازي وبعض من تبعه وتلفيقا تهم في إثبات خلافة بن أبي قحافة ببعض الإبهامات والنصوص التي بعد إمعان النظر فيها هي كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، وعساك تقف في طي كلماتنا الآتية على ما يوضح ذلك أي إيضاح فانتظر.
المقدمة الثانية: - إن خوارق العادات المعبر عنها بالكشف والكرامات لو حصل لشخص يدعي النبوة أو إمامة من جانب الحق سبحانه، فهي مما يعول عليها ويثبت بذلك المنصب المدعى من نبوة أو إمامة، وهي التي يطلق عليها بالمعجزة، وبها ثبتت نبوة أكثر الأنبياء، وأما حصولها عند غير من يدعي ذلك، فهي من التمويهات التي لا طائل تحتها، ولا بد من ظهور بطلانها، فإن محض جريان خارق العادة على يد شخص، لا يثبت مطلبا أبدا، لا بحسب الشرع، ولا بحسب العادة، بل لا يقضى أكثرها بجلالة من حصلت منه لإمكان أن تكون من تأثيرات بعض الأسباب والطلسمات، وعسى إن بعضها يورث البعد من الله تعالى، فإن من المشاهد إن بعض خوارق العادة كثيرا ما ظهرت من بعض الكفرة المرتاضين والملحدين من المفسدين.
والحاصل إن خوارق العادة لو ظهرت ممن يدعي منصبا يتعلق بالخالق، ويستدل بها على حقيقة منصبه، يثبت بها ذلك المنصب الإلهي، وتسمى بالمعجزة، وأما مجرد ظهورها ممن لا يدعي منصبا إلاهيا أو يدعيه ولا يستند بما ظهر منه على إثبات تلك الدعوى، فظهورها كعدمه بالنسبة إلى ذلك الشخص لا تدل على شأن
صفحه ۶
من الشؤون، ولا منصب من المناصب وذلك أمر بديهي لا يحتاج إلى تجشم الاستدلال.
المقدمة الثالثة: - إنك بعد ما عرفت إن وجوب نصب الإمام عند المخالفين هو على الأمة لا على الله تعالى ورسوله، وإن مسألة الإمامة من فروع الدين لا من أصوله، على خلاف ما تدعيه الفرقة المحقة، ومر عليك في المقدمة الأولى إن النزاع في مسألة الإمامة راجع إلى النفي والإثبات، وينبغي إن تحيط خبرا بأن كل دليل تركن إليه الإمامية في تنوير دعواهم، وإثبات مدعاهم من آية أو نص ينافي طبعا ما تعلق به أهل الخلاف من ذلك بتعيين المخلوقين من الأمة، فحينئذ ثبوت أدلة الفرقة المحقة قاض بفساد خلافة الخلفاء، وبطلان تصرفهم في الأمور الراجعة إلى منصب الإمامة، ولا يحتاج بعد إلى نصب دليل على فساد خلافة الخلفاء، ولا إلى التفكر في أدلتهم نقضا وإبراما، بل أدلة الشيعة حاكمة على تلك الأدلة ومزيلة لها، إذ الأدلة التي تعلقوا بها على إثبات خلافة الخلفاء لا تخلو عن وجهين: لأنها إما أن تقتضي بعدم تعيين إمام بالنص من النبي، وإما أن تكون ساكتة عن تعيين الإمام.
والوجه الأول على ضربين: - - (الأول) إن ما دل منها على عدم التعيين يعارض الدليل الدال عليه ويقاومه، ومعنى المعارضة هو إن اجتماع الدليلين يستحيل واقعا، ويلزم أن يكون أحدهما حقا والأخر باطلا عقلا.
(الثاني) ما يتوقف دلالته على عدم تعيين الإمام على عدم دليل يقضى بتعينه، فمتى دل دليل على التعيين يسقط دلالته على حقية خلافة الخلفاء ولا تتم.
صفحه ۷
الوجه الثاني مع القسم الثاني لا تنافي بينهما وبين ما قضى من الأدلة بالتعيين لأن جمعهما أمر ممكن، نعم ما كان من أدلتهم على الوجه الأول يعارض وينافي الأدلة الدالة على تعيين الإمامة بالنص، ولا يمكن الجمع بينهما البتة، ضرورة إن فرض صدق كل واحد منهما يدل دلالة عقلية إجمالية على فساد الثاني، وأدلة المخالفين إذا تصفحتها ألفيتها تشتمل على جميع الضروب السابقة، لكن ما كان منها من قبيل الوجه الأول قليل وضعيف جدا، وما كان بزعمهم قوي فهو غير نافع وغير مجد لما عرفت من إمكان الجمع بين الدليلين، وسيأتي القول في تفصيل ذلك إن شاء الله.
المقدمة الرابعة: - إن جميع الأمور تنقسم إلى ممكن ومحال والمحال ينقسم إلى محال عادي وعقلي والمحال العادي هو ما حصل العلم بعدم وجوده بملاحظة العادة، والمحال العقلي هو ما استحال وجوده بملاحظة العقل، ولازم المحال العقلي إنه لا يثبت خلافه بدليل عقليا كان الدليل أو عاديا، لأن العادي لا يعارض العقل، والعقليان لا يتعارضان، ولا بد أن يرمى أحدهما بالاشتباه فيكشف المعارض عن إن المعارض - بالفتح - غير محال عقلي، بل ممكن عقلي، وكذا المحال العادي لا يمكن إثباته بالعادة، وإلا يلزم إنه غير محال عادي، نعم يمكن إثبات خلافه بدليل عقلي إذ لا منافاة بين امتناع الشيء بحسب العادة وبين وقوعه بقدرة الله تعالى.
وأما الأدلة الشرعية فقسمان قطعية وظنية: - والأول هو الذي لا يتطرقه احتمال الخلاف، والثاني ما يحتمل فيه ذلك. والقسم الأول لا يقبل المعارضة حتى بالدليل العقلي، ولو
صفحه ۸
ورد مثل ذلك معارضا فهو صورة دليل لا دليل عقلي حقيقي، هذا إذا لم يظهر طريق فساده، ولو ظهر كفى الله المؤمنين القتال.
والثاني وهو الظني وحكمه إنه يبطله الدليل العقلي والعادي ويجعله هباء منثورا لا يعارضانه.
المقدمة الخامسة: - إن الإمامة كالنبوة تثبت بكل ما تثبت به النبوة، وتزيد عليها بأن تثبت بالنص دونها لأنه غير معقول، قتثبت بالمعجزة، وقد تثبت بقرائن الأحوال المفيدة للقطع بها، وتثبت بالنص من النبي (ص).
إذا عهدت هذه المقدمات فلنشرع بالمقصود من إثبات صحة مذهب الإمامية بالأدلة القطعية. وفي المقصود مقاصد: - أولها في إقامة البرهان الساطع على إمامة النور اللامع أسد الله الغالب (ع) وخلافته بلا فصل.
ثانيها إقامة الحجة الواضحة على فساد خلافة الخلفاء، وضلالة من تابعهم، وأوجب إطاعتهم، وإن كان في إثبات خلافة الأمير ما يغني عن إثبات فساد خلافة الخلفاء كما تقدم في المقدمة الثالثة، لكن حيث جرت عادة السلف رضوان الله تعالى عنهم أجمعين على ذلك، لزمنا أن نحتذي مثالهم وإن كان لم يسبقن أحد إلى تدوين مثل هذه المقدمات غير إن الفضل للمتقدم، مضافا إلى إن وضع هذه الرسالة للخواص والعوام، فلا بد من أن نورد فيها ما ينتفع به الفريقان إن شاء الله بتوفيق صاحب الشريعة.
وثالثها في إثبات إمامة باقي الأئمة الإثنا عشر في مقابل الفرق التي تزعم خلاف ذلك، وتقتصر على البعض منهم: - المقصد الأول: -
صفحه ۹
إعلم إن علماء الإمامية خلفا عن سلف كم أقاموا الحجج والبراهين على ذلك شكر الله سعيهم حتى إن العلامة الحلي دون كتابا سماه بالألفين أورد فيه ألف دليل عقلي وألف دليل نقلي على هذا الأمر، ولكن بناء الحقير على عدم التعرض لتلك الأدلة بالتفصيل، وإنما نذكر الحجج التي تسلم مقدماتها الخصوم ولا يحتاج فهمها إلى مراجعة غير هذه الرسالة من كتب الأخبار، لأن أكثر ما نذكره لا ينكره المخالف فإن المهم في تأليف هذه الرسالة انتفاع الضعفاء وذي القوة العادي عن الأسباب، وأما من له قوة الترجيح والاستنباط وأخذ الأشياء من مواضعها فحاله حال المؤلف، وفقنا الله لمراضيه وجعل مستقبل عمرنا أحسن من ماضيه، ثم إنا قد آثرنا سابقا في إثبات النبوة، إن الدليل على ضربين إقناعي وإلزامي، والأول في حق المنصف المائل عن جادة الاعتساف. الثاني في حق العنود الجحود المجادل في البديهيات، والمقدمات الواضحة التي تنتج المقصود حتى لو تحاكما عند ثالث تراضيا عليه صدق المستدل وكذب المنكر، كما لو تواتر خبر مائة بأن وراء الجدار يانع شجر مثمر أو لا ثمرة فيه، وحصل من يرد أنباء تلك المائة، ويدعي إن أخبارهم لا تفيد علما بالمخبر به في حقي، فإن مثله إما خارج عن طريقة العقلاء، وإما يطلقون عليه المعاند الجاحد، والشرط في حصول العلم للخصم صفاء ذهنه من الشبه وسلامة فطرته من الخبائث والقذارات المعنوية، كمن دخل في الإسلام رغبة وأراد أن يميز الفرقة المحقة عن غيرها من الفرق التي تنتهي إلى السبعين أو أكثر، وأما من كان مسبوقا بشبهة تشوش ذهنه منها، أو لم تطهر نطفته، أو أخذته حمية الآباء فاقتفى آثارهم،
صفحه ۱۰
فمثله لا تنفعه الأدلة، وهدايته موقوفة على عناية ربانية، ومن هنا ترى مشايخ أهل الخلاف ممن تبحر في العلوم مال به الهوى، وأخذته الحمية حمية الجاهلية أو الجهالة فلم يحصل لهم العلم من الأدلة الإمامية إلا نفر قليل ممن أذعن بالحق وأعترف بصدق بعد تشيخه، وأسماءهم في كتب الرجال مسطورة، ونسب إلى إمام الحرمين بعدما شاخ هذين البيتين تخف الجبال وهي ثقال حملوا يوم السقيفة أوزارا وهيهات عثرة لا تقال ثم جاءوا من بعدها يستقيلون أشار بهن إلى قول الأول بعد السقيفة (أقيلوني فلست بخيركم وعلي فيكم)، ولم يسمع انعكاس القضية، بأن كان الشيعي بسبب نظره في أدلة المخالفين معوجا وزائغا عن مستقيم الصراط، ولو اتفق ذلك لشخص نعوذ بالله لم يدرج في سلسلة العلماء، بل هو من الهمج الرعاع الذين ينعقون مع كل ناعق، وأراء مثل هؤلاء لا عبرة بها أبدا، ولنرجع إلى الأدلة فنقول: - الأدلة التي أقاموها على المقصود قسمان عقلية ونقلية، والعقلية منها قرر بتقارير: - الدليل الأول: الدليل العقلي أولها: توقف حكم العقل بخلافة الأمير (ع) على إحراز مقدمات لو سلمها الخصم فلا بد له عقلا من الإقرار بذلك.
المقدمة الأولى: - إن النبي خاتم الأنبياء، وشريعته خاتمة الشرائع، وبقائها إلى يوم القيامة لازم، لأن المفروض إنها خاتمة فلو لم تبق يلزم عدم الختم، والختم من الضروريات مع تصريح الكتاب به، فالبقاء مثله، وقوله تعالى
صفحه ۱۱
(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، أقوى دليل على البقاء إلى يوم الانقضاء.
المقدمة الثانية: - إن البقاء إلى يوم النفخ يحتاج إلى حافظ، ومع عدمه يضمحل شيئا فشيئا، إذ هو في معرض الزوال والاندراس، وتوفر الدواعي إلى اندراسه من وجود الكافر والمنافق وغيرهما، وليس ذلك إلا كالبناء الذي ليس له حافظ فإنه يسقط وإن بني محكما، ومع الحارس والمداومة على إصلاحه يبقى ويدوم، ثم لا فرق بين الدوام والحدوث، فكما إن الحدوث محتاج إلى بعث الرسول من جهة احتجاب النفوس البشرية وعدم لياقتها وقابليتها إلى استفادة الأحكام الإلهية بلا واسطة من مصدرها، فكذلك البقاء حذو النعل بالنعل يحتاج إلى مبين ومرجع وحافظ للأحكام، وهو الذي يطلق عليه الأمام، ولا بد إن يكون معينا ومشخصا لتعرفه الأمة فترجع إليه.
المقدمة الثالثة: - في إن العلم بذلك الحافظ المبين مختص بالله وبرسوله وليس للأمة في ذلك مسرح ولا نصيب لعدم إحاطة عقولهم بمعرفته، فيرجع تعيينه إلى الله وإلى رسوله، ويجب على الله ورسوله تعيينه كي لا تضيع الأمة الطريق فتقع في الضلالة، فإن كان موجودا بين الناس أشارا إليه وعيناه، وإن لم يكن موجودا لزم على الله تعالى إيجاده، وعليهما إرشاد الناس إليه لكي يبين الأحكام ويحفظ النظام، ويقوم بأمور الدنيا والدين.
المقدمة الرابعة: - إنه يلزم أن يكون ذلك الشخص المعين خال عن المفسدة، وصلاحيته للاستخلاف معلوم بين الأمة.
صفحه ۱۲
المقدمة الخامسة: - إنه بعد أن اتضح لزوم تعيين الإمام على الله ورسوله (ص)، وإن في ذلك صلاح أمر الدنيا والدين، وإن ترك المصلحة على الله ورسوله قبيح، فلا جرم إن تستقل حكومة العقل بأن حضرت الرسالة لم تفارق روحه الدنيا إلا بعد أن عين للناس إماما يرجعون إليه في الأحكام، وإلا يلزم أحد محذورين محالين، أما عدم أمر الخالق جل جلاله بتعيين الإمام، أو إن الرسول (ص) خالف الأمر الوارد من الله بالتعيين، وكلاهما باطلان بالضرورة، فإن عدم أمر الله تعالى بذلك مع الاحتياج إليه قبيح، وهو المنزه عن كل قبيح، على إنه يلزم منه تكليف ما لا يطاق، لأنه مع عدم الأمر بتعيين الإمام، إما أن يريد من الأمة امتثال أحكامه أو لا يريد ذلك، فإن أراد لزم التكليف بالممتنع كما لو أراد الامتثال ولم يرسل رسولا يبين أحكامه، وإن لم يرد ذلك كشف عدم إرادته عن عدم إرادة بقاء الشريعة إلى يوم القيامة، وهو ينافي المقدم المفروض من بقاء الشريعة إلى قيام الساعة، وإن كان الله تعالى أمر رسوله بتعيين من شخصه وعينه للإمامة، والرسول (ص) ما أطاع ولم يبلغ ما أمره به، لزم نسبة العصيان إلى النبي (ص) واللازم باطل باتفاق الإمامية وأهل السنة، إذ لا شك ولا إشكال في وجوب عصمة النبي حال النبوة فيثبت بهذه المقدمة إن الله جل وعلا والرسول (ص) قد عينا للإمامة من يصلح لها.
المقدمة السادسة: - هو إن القبيح لا يصدر من الله ورسوله أبدا، وإن ذلك ممتنع
صفحه ۱۳
في حقهما.
المقدمة السابعة: - إن الذي أمرا بالرجوع إليه وعيناه إماما للرعية هو أمير المؤمنين (ع)، إذ لم يدع التعيين غيره أحد من الناس لما مر عليك بأن كل من ادعى إمامة غيره ينكر أصل وجوب تعيين الله ورسوله للإمام، وينكر وقوعه منهما، وعلى تقدير ثبوته فالإجماع قائم من كل الأمة إن المعين هو الأمير (ع).
وهذا الدليل المركب من هذه المقدمات على الإجمال مذكور في كتب العلماء، ولكن سبق إلى بعض الأذهان القاصرة إنه لا ينتج المقصود، وأظن ذلك من إجمال تعبيرهم لهذا الدليل، وإلا فبعد تحريره على الوجه المذكور لا جرم إنه يفيد العلم الضروري بالمقصود، ومع ذلك فقد وقع في أذهان بعض المشككين من بعض علماء أهل السنة بعض الشبهات في الدليل المزبور، ورد أكثر مقدماته، بل كأنهم لم يعترفوا إلا بالمقدمة الأولى، وهي بقاء الشريعة إلى يوم القيامة، وناقشوا في باقي المقدمات.
مناقشة المقدمة الثانية: - فقد ذكروا إن الشريعة محتفظة بنفسها لا تحتاج إلى حافظ ومأمونة من الزوال بحسب العادة، وليست هي إلا مثل الكتاب العزيز، فإن الشرع عبارة عن الأحكام الثابتة بالكتاب والسنة، والكتاب لا يحتاج إلى حافظ بل الوجود ببركاته مأمون غير الزمان وآفة الدوران، ولو عرض عليه أحيانا ما يوجب تلفه أو زواله من سوانح الدهر فحفظه نظير محافظة النفوس والأموال والأمور الخطيرة التي
صفحه ۱۴
لا تحتاج إلى وجود شخص معين، على إنه يجب كفاية حفظه على جميع المكلفين نظير حفظ بيضة الإسلام عند خوف غلبة الكفار.
وأما السنة فهي أيضا محفوظة من جهة وجود الصحابة الكرام، فإنهم صحبوا النبي (ص) برهة من الدهر حتى أخذوا أحكام الله تعالى بأسرها منه وتلقوها عنه وبلغوها غيرهم، وأخذتها الناس يدا بيد، أو إحتفظوها كالقرآن ودونها، فهي والقرآن مأمونان من الزوال إلى أبد الآباد، فلا يلزم تعيين حافظ غير الصحابة من جانب الله تعالى، إذ هو تحصيل حاصل نظير بعث نبي بعد نبي في تبليغ شريعة واحدة في عصر واحد، فحينئذ دعوى احتياج الشريعة إلى إمام حافظ مثل النبي ممنوعة أشد المنع، هذا أقصى ما يقرر في الإشكال على المقدمة المزبورة من جانب الخصم، ومع ذلك هو صورة بلا معنى أو هيولا بلا صورة، كسراب بقيعة، فإن قياس السنة بكتاب الله تعالى قياس مع الفارق، نظرا إلى أن الكتاب المجيد صدر من مصدر الجلال الإلهي، والحفاظ والكتاب عند نزوله دونوه وحفظوه وضبطوه أشد الضبط، واجتهدوا في حراسته على حد المحافظة لساير كتب العلوم، حتى إنهم طالما يتنازعون في الهمزة والضمة والكسرة منه، إلى أن دونت الكتب في ذلك، ولذلك كان الكتاب المجيد متواترا وباقيا إلى يوم القيامة نظير الكتب الدينية وغير الدينية الباقية في الناس على الدوام لاشتمالها على المصالح الدينية والدنيوية، أو لميل طباع النوع الإنساني إلى بقاءها كما هو المشاهد في كتب القصص والحكايات والأشعار، وليس الكتاب العزيز بأقل منها.
وأما السنة النبوية المشتملة على بيان النبي (ص) للأحكام فمن المعلوم إن بيان الأحكام بأسرها دفعة واحدة لم يقع منه، بل غير ممكن
صفحه ۱۵
عادة، وإنما الصادر منه (ص) البيان في مواقع الابتلاء، وفي مقامات الاحتياج للمحتاج عند سؤاله أو ابتلائه بحكم لا يعلمه، ولم ينقل عنه ولا عرف منه إنه عند بيان الحكم لسائل يحضر (ص) جميع الصحابة لسماع ذلك الحكم، أو جمعا منهم يفيد قولهم القطع إذا نقلوا الحكم وضبطوه، أو إن الصحابة تصدوا لهذا الأمر بحيث لم يصدر حكم من النبي (ص) إلا وضبطوه وحرروه على نسق اهتمامهم بضبط المنزل من القرآن وتدوينه، حنى إنه عين لكتابة الوحي أربعة عشر كاتبا، والقرآن كان ينزل منجما، وكان كلما هبط الأمين بشيء منه، كتبه أولئك ودونوه وضبطوه ونشروه بين الصحابة، ولا كذلك السنة قطعا، نعم نحن لا ننكر بأن جمعا من الصحابة تصدوا لحفظ الحديث واجتهدوا في ضبطه لكن كونهم اتفقوا على تلك المحفوظات واتفاقهم عليها صار سببا لبقائها بحيث صارت كالكتاب أمر غير معلوم، بل المعلوم عدمه وإن كان ذلك يدعى أو ذلك قد يقال به في بعض المتواترات من الأحاديث، فنحن ما ادعينا السلب الكلي، بل إنما أنكرنا الإيجاب الكلي الذي لا ينافيه الاعتراف ببعض الأفراد، وحينئذ فينحصر الحفظ في جملة السنة النبوية بما تواتر وحصل الاتفاق عليه من الصحابة، فلا يقال للصحابة إنهم حافظين إلا في هذا المقدار، ويختص الحفظ بمن أدرك شرف الحضور، وأقتبس من ذلك النور، وإما من شحطت دياره عن المدينة فلا يأتيها إلا إلماما، وكذلك التابعين وتابعيهم إلى زماننا هذا فلا يجري هذا المعنى في حقهم، نعم تلقوه منهم يدا بيد وأخذوه عنهم بلا اختلاف يلزم قبوله، ولكن ذلك أقل قليل لا يف بمثقال ذرة من الأحكام
صفحه ۱۶
ولا يتم به المقصود من بقاء الشريعة، أنى وكل واحد من الصحابة محتاج إلى الآخر، كاحتياج الآخر إليه في محفوظاته، والبعيد من الأمة لا شك باحتياجهم إلى الأحكام أشد الاحتياج وقول أحاد الصحابة في حقهم لا يفيد ظنا فضلا عن العلم لظهور وجود الطعن في حقهم الذي صار به كالشبهة المحصورة فيهم، وعلى ما حررناه فالشريعة معطلة بين الصحابة حيث لم يكن عند كل واحد منهم جميع الأحكام، وعند غيرهم ممن بعد عنهم أو جاء بعدهم أشد تعطيلا. ولو سلمنا احتفاظ الشريعة من جهة وجود الصحابة في العصر الأول، فلا نسلمه قطعا في الأعصار اللاحقة، وبقاء الشريعة إلى أبد الآباد لا يمكن إن يكون مستندا إلى محفوظات الصحابة في العصر الأول، ولا يسع الخصم ادعاء ما هو ضروري البطلان وأوهن من بيت العنكبوت. لا يقال إن بقاء الشريعة مطلوب في جميع الأعصار على نسق طلبه في عصر النبي (ص)، ومعلوم إن ما كان في عصره (ص) هو بيان كليات المسائل، وهي التي تتحملها نوابه ورسله إلى النواحي، وأما الجزئيات فكانوا يجتهدون فيها، كما إن النبي (ص) بنفسه كان أيضا يجتهد في الجزئيات، وقد ورد عنه وتكرر منه في كثير من القضايا والمحاكمات إنه كان يشاور أصحابه، ودعوى إنه كان لا يعمل إلا بالوحي لا بالاجتهاد ولا المشورة حتى في الجزئيات كما تدعيه الإمامية لا يعترف بها الخصم، وهي عنده في غاية الضعف، فتلخص من هذا النظر إن حفظ الشريعة بما اتفق عليه الصحابة من الأحكام بانضمام اجتهادهم في الجزئيات، وانضمام اجتهاد الولاة والنواب فيها عن تلك الكليات المأخوذة من الصحابة في جميع الأطراف
صفحه ۱۷
والجوانب البعيدة والقريبة وهذا المقدار من الحفظ غير قابل للإنكار في العصر الأول، بل في جميع الأعصار منظما ذلك إلى الأحكام القرآنية، وكون المطلوب من الحفظ أكثر من ذلك غير معلوم فلا يتم الدليل المزبور، ولا يلزم به المنكر بل ولا المشكك، لأنا نقول إن الدليل على بقاء الشريعة لا يخلوا من أمرين: - أحدهما الإجماع والضرورة. والثاني الكتاب والسنة.
فأما الإجماع والضرورة فإنما يدلان على البقاء فقط، وأما كيفيته فما كانا ليدلان عليها فهما إنما يقضيان ببقاء الشريعة في الجملة من دوام الاعتقاد بالمعارف وضروريات الفروع.
وأما الكتاب والسنة فالمستفاد منهما بقاء الأحكام الواقعية الإلهية إلى يوم الدين على نهج واحد، وفي قوله تعالى (وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ (والحديث المتواتر (حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه كذلك) وأمثاله من السنة، صراحة بينه ودليل قاطع على ما ذكرنا من بقاء الأحكام الواقعية إلى يوم القيامة على ما نزلت، ومن البديهيات التي لا تقبل الإنكار إن من الممتنع المستحيل أن تبقى الشريعة من دون تغيير وتبديل وزيادة ونقصان على نهج زمان نزول الوحي وعصر حضرت الرسالة إلى أبد الآباد بلا حافظ رباني، وعالم حقاني يتلقى الأحكام من مصادرها ومواردها، ويعرف محكمها ومتشابهها، وبالجملة إن الله تعالى إذا جرى في علمه إرادة بقاء الشريعة بما هي عليه من غير تغيير وتبديل يلزمه عقلا أن يعين لذلك عالم معصوم من الزلل في جميع الأعصار حتى تتم الحجة في إرادة وإلا يلزم
صفحه ۱۸
الحكم بعدم إرادته لذلك، ولا يعقل القول بأن إرادة ذلك مع عدم النصب يجتمعان، إذ ذلك أمر لا يمكن اجتماعه في المخلوق فضلا عن الخالق.
ولو ادعى الخصم بأن التغيير والتبديل من لوازم الاجتهاد، والاجتهاد واقع في عصر النبي (ص)، ومعمول به بالبداهة واعتقاد أهل السنة على جواز اجتهاد الرسول في الجزئيات، فكيف بسفرائه وأمنائه في الأصقاع والبلدان؟ ومنه يظهر إن التأبيد المذكور في الخبر لحرامه وحلاله يجتمع مع التغيير والتبديل الاجتهادي، ولا منافاة بينهما، فالمراد بالتأبيد بقاء الكتاب المجيد والأخبار المتواترة والفروع الضرورية. وأما غيرها من الجزئيات يرجع فيها من له قابلية الاجتهاد إليه في جميع الأعصار من العلماء وحفظة الأحاديث.
والحاصل إن أحكام الله تطلب وتراد من الأمة في الأزمنة المتأخرة على نحو ما كانت تطلب في عهد النبي (ص)، فكما إنها في زمانه مستغنية عن حافظ معصوم كذلك في باقي الأعصار، وإرادة أكثر من ذلك لا دليل عليه بل في ملاحظة حال السلف وحال أهل عصر النبي أقوى دليل على ذلك. لأجبناه: - أولا: إنا ننكر اجتهاد النبي (ص) في جزئيات الأحكام وننكر معلومية ذلك في الأمة، وجريان العمل عليه، فإن القول بذلك خلاف قوله تعالى (وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى (وغير ذلك مما يفيد مفاد الآية.
وأما رسله وسفراؤه في الأصقاع فمن الممكن المحتمل إنهم
صفحه ۱۹
لا يعملون إلا بما سمعوه أو علموه من حضرت الرسالة، والحوادث الواقعة لا يفتون بها ولا يحكمون إلا بعد مراجعة النبي (ص)، وما هم إلا كنواب المجتهد في هذا الزمان بتبليغ الأحكام إلى المقلدين، فإن ما يحدث من الوقائع وما لم يسمعوه من المجتهد ولم يروه في زبره ورسائله لا يفتون الناس به بالاجتهاد أبدا بل يتوقفون من الإفتاء حتى يراجعوه، وإبداء هذا الاحتمال يكفي في نهوض الدليل العقلي على إثبات مدعانا بتقرير إن الكتاب والسنة صرحا ببقاء الأحكام الإلهية إلى منتهى الأبد، والتغير والتبديل الاجتهادي ينافي الأمر بالبقاء المذكور وإن كان في الجزئيات من الحوادث، والتحفظ عنها حادثة موقوفة على حافظ معين فإذا لم يثبت العمل بالاجتهاد في الجزئيات في زمن الحضور مطلقا، بل هي محتاجة إلى السماع ثبت وجوب وجود الحافظ ليرجع إليه فيها، والقول بثبوت ذلك يلزمه التصرف والتأويل لما قضى بتأبيد الأحكام مطلقا، والتأويل خلاف الظاهر بل يحتاج إلى الدليل، فالحكم العقلي بحاله على وجوب تعيين الحافظ بلا شبهة.
وثانيا: إنا لو سلمنا إمكان الاجتهاد في الجزئيات في حق الرسول (ص) وسفرائه وتنزلنا مع الخصم فحكمنا بوقوعه فغاية الأمر إن وقوع ذلك كان في عصر النبي وهو موجود بين أظهرهم، وأما بعد فقده فلا، إلا بوجود حافظ لأن المماثلة بين العصرين تقتضي وجود المعصوم في كل عصر وإلا يلتزم أن لا تساوي بين بقاء الشريعة وحدوثها وهو باطل.
وبعبارة أخرى إن تغيير الأحكام بسبب الاجتهاد مع عدم وجود الإمام يزيد على التغيير مع وجوده كثيرا، ومقتضى دوام الشريعة وبقائها
صفحه ۲۰