وهكذا أهدر جرانت مزيدا من الوقت أيضا في عقد صداقات مع المسئولين في مارسيليا، لكن هذه المرة لم يستنفد جهده في الأساليب غير الرسمية التي يمليها عليه ضميره. بل قدم أوراق اعتماده وطلب استعارة الأوراق. تناول عصير فاكهة مركزا، ووقع على إيصال. ولحق بطائرة عصر يوم الجمعة المتجهة إلى لندن.
كان لا يزال أمامه يومان آخران. أو يوم واحد، ويوم أحد على وجه الدقة.
كانت فرنسا لا تزال تتخذ شكل جوهرة حين طار فوقها في طريق عودته، لكن بدا أن بريطانيا كانت قد اختفت تماما. إذ لم يكن يوجد شيء سوى محيط من الضباب بعد خط ساحل غرب أوروبا المألوف. بدت الخريطة في غاية الغرابة وغير مكتملة من دون الشكل المألوف لتلك الجزيرة المتفردة. وبافتراض أن تلك الجزيرة لم تكن موجودة من قبل قط، كيف كان سيختلف تاريخ العالم؟ كانت تلك فكرة مذهلة. يفترض أن أمريكا بأكملها كانت ستصبح إسبانية. والهند كانت ستصبح فرنسية، كانت الهند ستصبح هي الهند من دون تمييز عنصري، وسيحدث تزاوج بين أعراقها المختلفة حتى إنها كانت ستفقد هويتها. وكانت جنوب أفريقيا ستصبح هولندية، وستحكمها كنيسة متعصبة. ماذا عن أستراليا؟ من الذي كان سيكتشف أستراليا ويستعمرها؟ رأى جرانت أن هذا لم يكن مهما؛ فأي عرق كان سيصبح، في غضون جيل واحد، طويلا ونحيلا وصلبا، وحاد الصوت، ويتشدق في الكلام، ومتشككا، ولا يقهر. مثلما بدأ الأمريكيون جميعهم في نهاية المطاف يبدون مثل الهنود الحمر، حتى وإن كانوا قد دخلوا البلاد بصفتهم يتحدرون من عرق ساكسوني يتسم بضخامة الجثة.
ثم هبطت الطائرة إلى خضم السحب، وظهرت بريطانيا مجددا. كانت مكانا عاديا وموحلا ومملا للغاية بحيث كان من المتعذر تصديق أن قد يكون قد غير تاريخ عالم بأسره. كان رذاذ مستمر يغمر الأرض وما عليها. كانت لندن عبارة عن انعكاسات رمادية على لوحة مائية تتخللها بقع زيتية قرمزية، حيث كانت الحافلات تقطر عبر الضباب.
كانت جميع الأنوار في قسم البصمات مضاءة مع أن ضوء النهار كان لا يزال موجودا، وكان كاترايت جالسا مثلما رآه جرانت آخر مرة - كما كان يراه دائما - وبجواره نصف كوب من الشاي عند مرفقه، ومنفضة السجائر ممتلئة بأعقاب السجائر.
قال كاترايت: «هل ثمة شيء يمكنني فعله من أجلك في هذه الظهيرة الربيعية الجميلة؟» «أجل. يوجد أمر واحد أرغب بشدة في أن أعرفه . هل سبق لك أن شربت نصف الكوب الآخر؟»
أخذ كاترايت يفكر في هذا. ثم قال: «بعدما فكرت في الأمر، لا أعرف إن كنت قد فعلت من قبل. عادة ما تأتي بيريل وتأخذ كوبي وتعيد ملأه بمشروب جديد. ألديك تعليق مرتجل آخر؟ أم إن هذه مجرد زيارة اجتماعية؟» «أجل، يوجد شيء آخر. لكنك «ستعمل» لأجلي يوم الإثنين؛ لذا لا تدع سخاءك يخرج عن السيطرة.» ثم وضع أوراق شارل مارتن على الطاولة. وقال: «متى يمكنك الانتهاء من هذه لأجلي؟» «ما هذا؟ أوراق هوية فرنسية. ما الذي تحاول الوصول إليه؟ أم إنك تريد أن تحتفظ بهذا لنفسك؟» «إنما أضع رهانا أخيرا على جواد يدعى «الفطنة». إن آتى الأمر ثماره فسأخبرك. سآتي لأخذ البصمات صباح الغد.»
نظر إلى الساعة ورأى أنه إن كان تاد «يواعد» دافني، أو أي امرأة أخرى، الليلة، فلا بد أنه في هذه اللحظة يتأنق في غرفة فندقه. ترك جرانت كاترايت، ومضى إلى هاتف يتسنى له أن يتحدث إلى من يهاتفه دون أن يسمعه أحد آخر.
قال تاد بنبرة فرحة حين سمع صوت جرانت: «مرحى! من أين تتكلم؟ هل عدت؟» «أجل، عدت. أنا في لندن. اسمع يا تاد، تقول إنك لم تعرف من قبل أحدا يدعى شارل مارتن. لكن هل من الممكن أنك كنت تعرفه باسم آخر؟ هل كنت تعرف من قبل ميكانيكيا ماهرا وبارعا جدا مع السيارات، كان فرنسيا، ويشبه بيل قليلا؟»
أخذ تاد يفكر في هذا. «لا أظن أني عرفت من قبل ميكانيكيا فرنسيا. لقد عرفت ميكانيكيا سويديا وآخر يونانيا، ولكن لم يكن أي منهم يشبه بيل على الإطلاق. لماذا؟» «لأن مارتن عمل في الشرق الأوسط. ومن المحتمل أن يكون بيل قد حصل على تلك الأوراق منه قبل أن يأتي إلى بريطانيا أصلا. ربما يكون مارتن قد باعه إياها. لقد كان مارتن - أو ما زال؛ فثمة احتمال أن يكون على قيد الحياة - إنسانا كسولا، وربما كان يعاني الفاقة على فترات متقطعة. هناك، حيث لا يعبأ أحد كثيرا بشأن الأوراق الثبوتية، ربما يكون قد حاول بيعها مقابل المال.» «أجل، ربما يكون قد فعل. فأوراق هوية شخص آخر عادة ما تكون أقيم من أوراقك هناك. أقصد أن يسير بها المرء هنا وهناك. ولكن لماذا قد يبتاعها «بيل»؟ لم ينتهج بيل طرقا مشبوهة قط.» «ربما لأنه كان يشبه مارتن قليلا. لا أعرف. على أي حال، ألم يصادف أن قابلت أحدا يشبه مارتن في الشرق الأوسط؟» «ولا في أي مكان، حسبما أتذكر. علام حصلت؟ من آل مارتن. أهو شيء ذو قيمة؟» «يؤسفني أن أقول إنه ليس كذلك. لقد أروني صورا له؛ الأمر الذي أوضح لي كثيرا كم كان مارتن يشبه بيل إن لم يكن على قيد الحياة. وهو شيء كنا نعرفه بالفعل. وبالطبع إنه سافر إلى الشرق من أجل العمل. هل وردت أي ردود على الإعلان؟» «خمسة.» «خمسة؟» «كلها من أشخاص يدعون بيل كينريك.» «أوه. يسألون ما الفائدة التي سيجنونها من الأمر؟» «أصبت.» «لم يردك أي شيء من أي شخص كان يعرفه؟» «مطلقا. ويبدو أنه لا توجد نتائج من ناحية شارل مارتن أيضا. لقد غرقنا، أليس كذلك؟» «في الواقع، حتى آذاننا، إن جاز القول. لدينا شيء نافع واحد.» «حقا؟ ما هو؟» «الوقت. لا يزال لدينا ثمان وأربعون ساعة.» «أنت متفائل يا سيد جرانت.»
صفحه نامشخص