أما هو فقد كان بالنسبة لي مجرد وجه اختارته عيناي من بين الآلاف لتلمحه، وما تكاد تلمحه حتى تتوقف عنده كقطار سريع يبطئ ليعود يمضي، فإذا بإبطائه يتحول إلى وقوف. لم تتوقف عيناي لأن الوجه كان شاحبا. لم يكن أصفر، ولا كانت هناك نقاط عرق، ولا كان الشحوب بإرادته. الشعور الذي دهمني وأجبرني على التوقف أن نظرتي الأولى له أشعرتني أن هناك شيئا هو الذي أذهب لونه، وبيض قمحية وجهه. شيء وسط الزحام الشديد لا يمكن إدراكه أو ضبطه، ولكن كان باستطاعتي أن أقسم أنه هناك، وأنه المسيطر على كل تلك الآلاف وإن كانت ملامحهم لا تنجح في الكشف عنه، ولا يهديك إليه إلا نظرة لذلك الوجه. أجل هناك كعقاب خفي داكن رابض فوق سماء «الأرينا».
عقاب له ثلاثون ألف مخلب. في كل وجه ينشب مخلبا وطواطيا لا يمكن انتزاعه، ويفعل هذا دون أن يعي به أو ينتبه إليه أحد، أو يترك أثرا واحدا يشير إلى وجوده لولا ذلك الإحساس المبهم الذي تحسه وتشم رائحته تتسر. إحساس جامع شامل له دوي الجنازات القادمة من بعيد، والانقباض الذي يشمل البيت إذا نعقت في غنائه بومة.
وربما الذي استوقفني في الوجه أنه الوحيد المتميز الشحوب، وكأنه من نوع خاص ناتج عن إحساس خاص لا يشاركه فيه سواه، وكأنه وحده هو الذي يدري، ووحده الذي يتوقع. وحده الذي حين تراه ينتقل إليك علمه، وتبدأ أنت الآخر تدرك وجود شيء في الجو والمكان، شيء آخر غير الناس والازدحام وشمس ما بعد الظهر وضجة «الفيستا» والاحتفال، شيء حاضر خفي داكن رابض ينتظر اللحظة المناسبة ليعلن حتما عن وجوده وينقض، وفي الحال، ودونا عن الثلاثين ألف إنسان، وبمثل شرارة التماس لا بد أيضا أن يدق قلبك دقة الخوف؛ إذ تدرك على الفور إدراكا غريبا مبهما وكأنما يهبط عليك كالإلهام أن ثمة شيئا غير عادي سيقع اليوم لصاحب ذلك الوجه، وأنه أبدا لن يغادر «الأرينا» بنفس الحال التي جاء بها.
هذه الدقة المفاجئة وما صاحبها من انزعاج صغير عابر، حددت لحظة خطيرة غريبة في حياتي، لحظة التقائي بإنسان جديد لم يكن منذ ومضة يعنيني أمره، فإذا بالدقة تبدأ معها علاقة، وتتعدى العلاقة بسرعة مراحل التعارف الأولى إلى مرحلة الصداقة، بل تتعداها إلى ما هو أكثر، إلى مرحلة القلق العظيم على الصديق والتتبع المشفق لخط مصيره.
وهكذا ألقيت النظرة الثانية على صديقي الجديد وكأن بين النظرتين عاما، وكأنني أعود أتفحص ملامح عزيز طالت غيبته محاولا أن أدرك ما حدث له ولشكله من تغيير. كان الوجه دقيقا نحيلا يصنع برأسه الأنيق الذي بدأ شعره من أمام يخف ويتراجع، ويستعد لتسليم الرأس - أو الجزء الأمامي منه على الأقل - لصلع قريب. كان يصنع مع وجهه النحيف مثلثا رشيقا صغيرا، كل ما فيه حتى أذناه رشيق صغير. ولكل وجه في الدنيا قصة يحكيها أو معنى أو صيحة يطلقها ويعلن بها عن جماله مثلا أو ذكائه، أو عما يكمن في أعماق صاحبه من دهاء. ذلك الوجه كان من الوجوه التي لا تتحدث عن نفسها، من الوجوه التي نحس بها دائما مشغولة بحدث خارج عنها أو بقضية. ولحظة رؤيتي الثانية له لم يكن وجهه يتحدث عن شيء بالذات أو مشغولا بشيء. كان صامتا، صمتا لو صبرت عليه لاستحال إلى حزن، حزنا لا بد شفافا كحزن الملائكة، أو ابتئاس الأطفال.
وكان يبدو في الثالثة والعشرين، ولكن مجرد النظر في وجهه ومراقبة صمته وهو يأخذ لون الأحزان البريئة يرغمك أيضا، ولا تدرك كيف، على أن تحس تجاهه - ومهما كانت سنك. ولو كنت أصغر منه - بأبوة لا تفسير لها ولا تبرير.
الفصل الثاني
كنت قد حضرت - كأي مقدم على عمل لأول مرة - مبكرا، وقضيت بعض الوقت أطوف ب «الأرينا» وممراتها ودهاليزها، وأراقب السوق السوداء لبيع التذاكر، وآلاف السياح والأوتوبيسات الفاخرة التي لا يكف عن التحديق فيها الأطفال الإسبان أشباه العراة وهي تقف ويهبط منها خليط عجيب من البشر من بين لغاته الكثيرة تميز بسهولة الخناقة الأمريكية الممدودة والغالبة، ومئات العربات الخاصة. أفخم وأحدث عربات من نوعها في العالم، وأبوابها تفتح لكي تنساب منها سيدات. أجمل سيدات، وأروع عطور، وأغلى وأشيك فساتين، ورجال بصلعات وكروش وأرصدة مكتظة، وشبان أثرياء بالكابورليهات، والجميع يمضون إلى مقاعدهم المحجوزة، بينما جمهور اللعبة الحقيقي - أفراد الشعب الإسباني - يتقاتلون حول التذاكر، ويتدافعون أمام باب الدخول، وفي الداخل لهم المدرجات المواجهة لشمس مدريد في الصيف، وما أحرها!
ومن متحف المصارعة عدت إلى مكاني في المدرجات حيث المتحف البشري الزاخر الوافد على مدريد، والساحة من كل أنحاء الأرض، وكيف تقبل أفواجه كالسحب المثقلة التي لا تلبث أن تبطئ حركتها وتتكاثف وتتساقط في أنحاء الدائرة الكبيرة على هيئة أجساد غير واضحة المعالم فوق مقاعد مقامة من الأسمنت المسلح. ساحة و«أرينا» لا تختلف كثيرا عن تلك الموجودة في روما التي أقامها الرومان من آلاف السنين ليتسلى الحكام الرومانيون بصراع العبيد العزل مع الوحوش. كل الخلاف هنا أن الإنسان زود بدلا من المسلة بقطعة أطول من المعدن على هيئة سيف، ولكن الصراع لا يزال هو الصراع.
وربما استدارة «الأرينا»، أو ربما هي الحلقة البشرية الهائلة المحيطة بالدائرة الرملية الفارغة. ربما الحيرة. ربما الدوري المستمر الذي لا ينقطع. ربما العقاب الرابض في مكان ما من سماء الساحة ناشبا مخالبه في الوجوه والملامح. ربما أي شيء، ولكن الذي لا شك فيه أن ثمة قلقا، وكأن أحدهم قد ألقى في قلب الساحة ببضع قنابل مثيرة للقلق واللهفة، لا على المصارعة وبدئها والرغبة أن تتم بسرعة، فكلنا نعلم أنها تبدأ في السادسة، وأن بيننا وبينها بضع دقائق لا تحتمل اللهفة أو الترقب. إنه قلق وترقب ولهفة المشغولين بشيء قاهر حاد، لا يدرون ما هو بالضبط وما الذي يشغلهم به تلك المشغولية العظمى، المشغولية التي تجعلك لا تستقر على وضع ولا تستسلم لموضوع، بحيث لا يحتمل منك الشيء أكثر من نظرة، وبحيث يبدو الحديث مملا بعد جملة حواره الأولى، وأجمل الفتيات تكفيها التفاتة. مشغولية عظمى غير محددة أو معروفة الأسباب، ولكنها قائمة وموجودة وذات أزيز.
صفحه نامشخص