ولكن الثور كان يفعلها ويتحكم في حجمه الضخم كالرياضي المدرب ويستمر يفعلها، ويلمح جسده المظلم الأسود بالعرق، وتبرز عظام أكتافه رافعة ما فوقها من لحم وعضلات، بادية للعيان في محاولته ضم نفسه وضغطها، ولا يتوقف عن الهجوم لثانية، ولم يكف مرة ولا احتاج للتلويح والاستفزاز، حتى تحول جزء كبير من التصفيق والهتاف الذي كان يتوالى تحية للميتادور على براعته وحذقه ودوائر الخطر التي يتحرك فيها بلا خوف أو وجل، تحول جزء من التصفيق والهتاف إلى الثور الماضي في هجومه لا ينال منه تعب ولا يؤثر في طاقته أي مجهود، حتى بدا الأمر محيرا.
إن العادة جرت ألا تزيد هذه المرحلة عن دقائق قليلة تنتهي بعدها كل طاقات الثور؛ دقائق نادرا ما تتعدى الخمس، وها قد مضت عشر دقائق وربع ساعة بأكملها والثور لم تتغير قدرته إلا قليلا، من القلة بحيث يبدو التغير غير ملحوظ.
ولكنني كنت الوحيد تقريبا المشغول بهذا الحساب قلقا على صاحبي، أما جماهير المتفرجين فالصراع الدائر كان يستغرقهم كلية، وانتباههم كله مركز في الحركة الحادثة أمامهم فقط، في ذلك الجزء من الصراع الذي يرونه بأعينهم الآن، وانفعالهم الشديد لا يدع لهم فرصة استرجاع ما حدث من دقيقة أو إعادة تدبره، ولا ما يمكن أن يحدث بعد قليل. وكذلك لا تهمهم حالة الثور أو حالة الرجل، المهم أنهما لا زالا يتصارعان صراعا قويا ممتعا حادا من النادر أن يظفر به جمهور واحد في يوم واحد ولمدة طويلة كهذه. الثور شحنة الطاقة فيه خالدة لا تنفد، تدفعه وتثنيه وتفرده وتقبضه وتشكله عشرات ومئات الأشكال حسبما تقتضيه ظروف المعركة، جسورا لا يني ولا يرحم ولا يتردد، كثيرا ما يتجاوز تقديرات الميتادور ويستدير بسرعة أكبر مما قدر وأكبر من أن تصدق، أو يختصر محيط الدائرة وكأن جسده استحال إلى جسد ثعبان ليس أسهل من أن يستدير ويلتف، ويكاد يوقع كلما حدث هذا صاحبنا الميتادور في الفخ الذي أراده له. وكثرة المرات لا تنال منه، بل تزيده قوة وهياجا وإصرارا حتى تكاد تجعل له اليد العليا في الصراع، وتحيله إلى مطارد وتحيل الميتادور إلى مجرد مدافع عن نفسه ليس أمامه إلا أن يهرب ويظل يهرب. والميتادور هو الآخر في قمة نشاطه وصلاحيته، إن كان قد اعتمد في ضبط خطواته الأولى على رصيده السابق من البطولة، وعلى الزهو الذي حصل عليه منذ وقت طويل لقتله الثور الأول في لمح البصر؛ فبمضي الصراع تناسى زهوه ورصيده وخاض معركته مستمدا منها نفسها الوحي والقدرة وحكمة التصرف. ولم يكن يستعرض، ولكنه في كفاحه الرهيب من أجل أن يقهر غريمه يقدم ألوانا من المصارعة قد لا يكون لها جمال ألوان الاستعراض الخارجي، ولكنها تحتوي على فن وخطورة لا تجدها في أروع الاستعراضات.
كان يستغل دقة حجمه إلى أقصى حد بحيث كان يرغم الثور على الدوران في دائرة لا تتعدى المتر أحيانا، حتى لتكاد تؤمن أن عظامه لحظتها تتهشم وتسمع قرقعتها. وكان يعمد إلى التغييرات السريعة في تكتيكه لإدراكه أن الثور حين يستمر على طريقة يتقنها بسرعة وذكاء غريبين على كائن مثله، فكان يغير من طريقة إلى طريقة بحيث لا يترك لغريمه أي مجال للتعود والإتقان. وحين وصلا إلى طريقة الدوائر أخذ يضيق على الثور الخناق، واستغرق في هذا إلى درجة لم يلحظ معها أن الثور أيضا يضيق عليه الخناق، حتى إنه توقف في مكانه عن الحركة ليجعل الثور يدور حوله مكتفيا بتغيير اتجاهه لتغير وقفته والمركز الذي يدور فيه. وكان صعبا أن تحدد في تلك اللحظة من منهما الذي يحاصر الآخر ويضيق عليه الخناق! ولكن بدا في اللحظات الأخيرة للحركة أن الثور هو الذي يفعل، وأن أمام صاحبنا أخطر مشكلة؛ أن يتخلص فورا من هذا الحصار. وربما لو فكر عاما بأكمله وهو بعيد عن الساحة والموقف لما وصل إلى الحل الذي اهتدى إليه، وكأنما بالغريزة في نفس اللحظة التي وضح أن الثور في هجمته التالية سيصيبه دون أدنى شك.
والطريقة أنه غير فجأة من دورانه؛ أي أقدم على مغامرة مجنونة؛ إذ بهذا التغيير أصبح الثور يواجهه بحيث لم يعد بينه وبين رأسه إلا أقل من متر، ولو قد فطن الثور إلى أنه سيفعل هذا لوفر على نفسه مشقة عمل دائرة أخرى ولطعنه بقرنيه في الحال، ولكنه يبدو أنه فعلها وهو متأكد تماما أن الثور مستغرق في اللف بالطريقة التي اعتادها في الفترة القصيرة الأخيرة، وأنه لن يفطن إليه إلا بعد أن يكون قد ابتدأ في الدورة الجديدة إلا متأخرا بجزء على مائة جزء من الثانية. وحتى لو لم يكمل الدائرة الجديدة واتجه إليه من فوره فيكفيه هذا الجزء على مائة لكي يفلت من الحصار الخانق ويكسر الدائرة الرهيبة التي أرادها للثور فوقع فيها. وهو بالضبط ما حدث، وما انتقل بعده هكذا في واحد على مائة من الثانية من إنسان انتهى أمره إلى إنسان حر طليق، الساحة كلها تحت أمره.
حركة أرعدت على أثرها المدرجات تصفيقا وصياحا كصياح من فقدوا العقول. إن أحدا لا يصدق ما حدث أمام عينيه، لا يصدق أن هذا الشاب النحيل قد أوتي وهو على وشك الموت هذه الشحنات القوية من الجرأة والذكاء وسعة الحيلة لكأنه لخص تاريخ اللعبة وتراثها والهدف منها؛ إذ ذلك هو بالضبط ما أراده الذين ابتكروا المصارعة، وذلك بالضبط ما يريده الجمهور، أن يخوض إنسان بطل فيه كل مؤهلات الجانب الإنساني الصراع ضد ثور بطل فيه كل مؤهلات الجانب البدائي الوحشي، ويظل الصراع بينهما سجالا أو يكاد بحيث لا تحدث المواقف الفاصلة نتيجة ضعف أحد الطرفين، وإنما تنتج رغما عن الاثنين معا، وبسبب تعادل قوتهما في الصراع. وحين يحدث ذلك الموقف الفاصل الإجباري ويصبح على الإنسان فيه أن ينقذ نفسه فعليه ألا ينقذ نفسه كيفما اتفق وبأية وسيلة ، وإنما عليه أن يختار أكثرها جرأة وحذقا وذكاء، أن يختار الطريق البطولي بحيث لو نجحت وأنقد بها نفسه استحق البطولة عن جدارة، وبحيث لو فشلت ومات اعتبرت ميتته ميتة أبطال وخلد ذكره.
وقد يكون هذا كله حقيقيا ورائعا وجميلا، وقد تربي أشياء كهذه الشعب وترسي فيه دعائم البطولة الإنسانية كما يجب أن تكون في عصور أصبحت فيها هذه البطولة أثرا من آثار التاريخ لا تعثر عليها إلا في المتاحف والكتب. فهذه الأنواع من البطولة، بطولة أن يواجه الإنسان الخطر بقلب جريء ويرى الكارثة أمامه تهدد حياته فيقتحمها غير هياب أو وجل. بطولات كهذه خلقتها وغرستها العصور التي كان المجتمع فيها يعتمد على الإنسان الفرد ويهمه أن يمجده ويجعل منه البطل، عصور الآحاد القليلين الكبار. بطولات كهذه اندثرت وحلت محلها أنواع أخرى وأنماط، أنواع نابعة من مجتمعات ازدحمت ولم يعد الفرد فيها يواجه القدر أو الحظ أو العدو وحده. العداوات أصبحت جماعية، والمواجهات جماعية، والعصور عصور الأفراد الكثيرين الصغار، وقوى الطبيعة المتعددة التي استؤنست على هيئة آلات كما استأنس الأجداد الحيوانات البرية والوحوش. عصور القوة التي لا تتركز في شيء واحد بعينه حتى لو كان فردا نابغة عظيما هرقلي القوة! القوة فيها موزعة متشابكة متعاونة أو متنافرة، قوة مستحيل أن تحددها أو تعزلها؛ ولهذا فمجال البطولة لم يعد أن يواجه الإنسان وحده الغريم وببطولة يصرعه؛ إذ الغريم هو الآخر لم يعد فردا أو شيئا بعينه، الغريم هو الآخر مجموع قوى منبثة في مجموعات من الكيانات. لمن يصفق الناس اليوم؟ لم يعودوا يصفقون لمن يصرع عدوه؛ فبالأمس كان يوجد متصارعان ومشاهدون محايدون، اليوم لا يوجد متفرجون ولا حياد، وأي معركة تدور اليوم على سطح الكرة الأرضية لا بد أن تجد نفسك منضما إلى أحد طرفيها، وحتى التصفيق إعجابا لم يعد علامة إعجاب مطلق.
إنها تصفق بإعجاب له هدف، تصفق لمن يقدم لها ببطولته المصلحة والخدمة العظمى. الرجل اليوم هو من يفيد الناس بطريقة أو بأخرى، من يسيطر على أكبر قدر ممكن من مصادر القوى ، لا ليدخل بها معركة ضد خصوم، ولكن ليستعملها ليحقق للناس مطالب وأعمالا عجز غيره عن تحقيقها. وهي بطولة أرقى! ففي الماضي كان الشخص يقوم لنفسه ولمجده ولذاته فيصفق له الناس ويمنحونه لقب البطولة، ولكننا في عالمنا الحاضر نمنح البطولة لمن يقوى لنا ولفائدتنا.
ولهذا فأنت في مصارعة الثيران تحس كلما حمي الصراع هكذا وحدث التجاوب على تلك الصورة، تحس كلما اقتربت اللعبة من حقيقتها ومن الهدف الذي وجدت لأجله؛ شعرت أنك تنفصل عن عالمنا هذا، أنك ترتد إلى ماض تهب ريحه حاملة معها أصداء من زمن ذهب وقيم تغيرت. أي رجل في عصرنا الحاضر ممكن أن يفعل وهو مالك لكل قواه العقلية ما فعله صاحبنا الميتادور؟ أي رجل على استعداد لأن يقف ليواجه قطارا من العضلات الوحشية القاتلة قادما تجاهه ليفاجئه ويجبره على الدوران؟ أي رجل في عصرنا الحاضر، حتى لو أراد هو، تطيق أعصابه ويطيعه قلبه وفكره وإلهامه وهو يواجه الموت في وضح النهار وكل حظه في الحياة متوقف على أمل واهن غير مؤكد أن يفاجأ الثور بالحركة فعلا وتنجح الخطة؟ ماذا إذا لم يفاجأ؟ ماذا إذا استدار الثور في لحظة مناسبة أو انزلقت قدمك أنت وأنت تستدير بسبب حصاة صغيرة، حصاة موجودة في الساحة بالآلاف والملايين؟
وكل هذا من أجل تحية إعجاب واعتراف بالبطولة؟ بمنطق عالمنا الحاضر، وبمنطق الإنسان الجالس على مقهى مع شلة من أصحابه، بمنطق سائقي التاكسي أو سكرتير النقابة، وحتى بمنطق المدله حبا في روايات طرزان ومغامرات رجال العصابات، بمنطق الأم والعمة والخالة، بمنطق عالمنا الحاضر، المسألة كلها سخافة وجنون وقلة عقل. شيء لا يمكن أن يقبل أو حتى يحلم بقبوله أي كائن عاقل معاصر أو حتى نصف عاقل. عمل لا يمكن أن يوصف بالبطولة ويقدر إلا في عصور كعصور عنترة بن شداد أو إيفان هو وروبين هود، وذلك هو ما تحمله رائحة الماضي التي تهب من الساحة وعليها، ورغم أن الناس والأزياء والمصارعين والثيران وكل شيء عصري من عمل عصرنا ونتيجته، إلا أنك تحس بدوي الأبواق وظهور الموكب وملابسه وتقاليده الراسخة من قديم الزمان، تحس تماما مثلما يحدث لك في السينما والمسرح. إن إطفاء النور والافتتاحية الموسيقية تنقلك من واقعك إلى واقع الرواية بحيث تجوز عليك الخدعة المتفق عليها، وتعيش أحداث الرواية وكأنها حقيقة وليست أبدا من صنع الخيال.
صفحه نامشخص