أما الثور فقد كان أمره يدعو للحيرة؛ فهو في أحيان يبدو قويا يملك طاقة لا حد لها، وفي أحيان أخرى يتوقف فيظهر حجمه وسنه على حقيقتهما. وتتعالى صرخات الجمهور، بل دفعته سرعته الرعناء التي يتحرك بها مرة إلى أن يتعثر ويسقط على أطرافه الأمامية، ولكن الاندفاع الجبار الذي كان قادما به جعله يحمل جسده كله ويقلبه إلى أمام مرتكزا على قرنيه ليعود ينقلب مرة أخرى ليقف معتدلا وينطلق وبنفس السرعة إلى هدفه لا يلوي على شيء.
وبدأ المصارعون يبرزون ويلوحون، والجمهور يزداد تشنجه وصخبه.
وكمحاولة أخيرة من المشرفين دوى صوت الأبواق يأمر راكبي الفرس «البيكادورز» بالدخول، وكأنما كان هذا ليس فقط إشارة البدء لدخولهم، وإنما لاستماتة الجمهور أيضا في رفض الثور؛ فقد شملت المدرجات كلها موجات متعاقبة متزايدة صاخبة من المواء والصفير والهدير الغاضب.
ولكن الباب كان قد فتح ودخل الفارسان وكل منهما قابض على حربته، ولم يلبث كل منهما أن مضى إلى النصف الخاص به من الدائرة الرملية بحيث إذا اختار الثور أن يهاجم أحدهما انسحب الآخر.
وسكب دخولهما وقودا جديدا فوق النار المشتعلة، وازداد الجمهور عنفا، وبدأت القبضات تلوح وألفاظ السباب تسمع واللعنات من كل اتجاه تنصب على الفارسين اللذين تسرب الشحوب إلى وجهيهما، وبدأ أحدهما يلوح بحربته مهددا الجمهور في حركة لا إرادية، ولكنه تهديد الخائف الشاحب. خوف يدعو للتأمل؛ فهذا جمهور لا قرون له ولن يقتل غضبه، ولكن صيحاته، جئيرة. عداءه بعث في قلوب الفارسين رعبا دونه رعبهما من الثور والخطر الداهم بكثير.
ولم يكن هناك وقت لتأمل أكثر، ففي هذه اللحظة دوت أصوات الأبواق مرة أخرى.
حسبتها الغالبية أمرا للفارسين ببدء الهجوم.
ولكنه كان أمرا من رئيس الاحتفال وقاضيه الأعلى يطلب منهما الانسحاب ومغادرة الساحة. وارتجت «الأرينا» بتصفيق كاصطفاق أمواج المحيط.
وفرح الفارسان وقد عادت الدماء إلى وجهيهما بعد طول امتقاع.
وكذلك انسحب المصارعون بعباءاتهم إلى ما وراء العوارض الخشبية.
صفحه نامشخص