ويكفي أن نذكر أربعة من أصحاب الصحف اليومية، بعد انقضاء عشرين سنة على دخول المحتلين، كانوا من الخطباء الكتاب وهم: مصطفى كامل في «اللواء»، وفارس نمر في «المقطم»، وجندي إبراهيم في «الوطن»، ومحمد أبو شادي في «الظاهر». ولم يكن تادرس شنودة المنقبادي صاحب صحيفة «مصر» خطيبا في طبقة هؤلاء، ولكن رئيس تحريره توفيق عزوز كان أقدر المتكلمين على المنابر بين أبناء الطائفة القبطية، مع زميليه أخنوخ فانوس وجندي إبراهيم. وكان علي يوسف صاحب «المؤيد» لا يخطب مرتجلا، ولكن كتاب صحيفته الخطباء لم يكونوا قليلين، وفي مقدمتهم «إبراهيم الهلباوي» كاتب مقالات: «إلى أين نحن مسوقون؟» بل لا ننسى أن «أحمد لطفى السيد» رئيس تحرير «الجريدة» - وقد غلبت عليه شهرة الفلسفة والكتابة - كان من المحامين، وكان قبل ذلك من وكلاء النيابة المبينين.
وتتشابه الأسباب التي أبرزت مهمة الخطابة في البلاد الشرقية غير مقصورة على الديار المصرية، ولكننا نذكر الأسباب التي حفظت للخطابة مهمتها بعد الثورة العرابية في هذه الديار: وأولها قيام المحاكم العصرية، واشتداد الحاجة دفعة واحدة إلى المحامين ولو لم يدرسوا القانون بمدارس الحقوق، ومنها افتتاح الكنائس الإنجيلية، وانتداب الخطباء المفوهين من القسس للوعظ على منابرها. وقد عني المسيحيون القبط بمنافسة هؤلاء الخطباء كما عني المسلمون المعممون والمطربشون، وأذكر أنني حضرت أياما في «قنا» كان «الأنبا لوكاس» يعظ فيها على منبر الكنيسة القبطية، والقس إسحاق يعظ على منبر الكنيسة الإنجيلية، والشيوخ الأدباء يخطبون في المساجد ومعهم أشهر المحامين والقضاة الشرعيين، وأشهرهم محمد نور أستاذ مكرم عبيد في الخطابة.
ولد مصطفى كامل في هذا العصر؛ عصر الخطابة، وشهد خطباء حي الصليبة في الخامسة والسادسة، وهي سن التقليد والمحاكاة، واستفاد من حي «الصليبة» أول نفحة من نفحات «الوطنية المحلية»، التي كانت مدار التنافس على بطولة القاهرة بين «فتوة» الحسينية و«فتوة» الصليبة، وربما تعثر بين الحبو والعدو في إحدى تلك الوقعات، التي كانت تنتقل من ساحة الأزهر أحيانا إلى جوار شيخون أو جوار قيسون؛ لأنه لم ينس هذه الحمية «المحلية» بعد أن وصل في تعليمه إلى المدارس التوجيهية، وكانت دعوته الأولى أنه دعا إلى تأليف جمعية «الصليبة»، فانتظم فيها نحو سبعين من المواطنين المحليين، قبل أن يدعو إلى تأليف الحزب الوطني بعدة سنين. •••
رأيت مصطفى كامل لأول مرة وأنا في الخامسة عشرة؛ أي في مثل سنه يوم تصدى لقيادة «الوطنية المحلية» بحي الصليبة.
كنت ببلدتي أسوان أشتغل مع زملائي بإحدى الدعوات المحلية، وهي دعوة التطوع للتعليم بالمدارس الأهلية.
وقد تقدمنا في هذه الدعوة، زميل لنا في مدرسة أسوان الأميرية، تخرج قبلنا وانتظم في وظيفة عسكرية بمصلحة خفر السواحل؛ وهو اللواء محمد صالح حرب، رئيس جماعة الشبان المسلمين، وكان يساعد المدرسة الأهلية التي تبعناه في التعليم بها ويتبرع لها بالمال من مرتبه، بعد أن حيل بينه وبين التطوع للتدريس فيها.
وقدم مصطفى كامل إلى أسوان في موسم الشتاء، ومعه الأمير حيدر ومدام جولييت آدم وكاتبة إنجليزية من الأحرار تسمى مسز يونج - على ما أذكر - وهم جميعا في رحلة نيلية.
وخرج مصطفى كامل ذات صباح يتمشى على شاطئ النيل ومعه الكاتبتان الفرنسية والإنجليزية، فوقفوا عند باب المدرسة الأميرية وسألوا البواب عن «حضرة الناظر» فغاب هنيهة، وعاد يقول له: إنه غير موجود!
وذكر مصطفى كامل أن صاحب المدرسة الأهلية - وقد كان يراسل اللواء - قد دعاه إلى زيارتها، فقال لصحبه: مدرسة بمدرسة، فلنذهب إلى المدرسة التي «ناظرها موجود».
ودخل غرفة السنة الرابعة وفيها درس اللغة العربية، فجلس مكان التلميذ الذي كان يكتب على اللوحة، وأملى عليه هذا البيت لأبي العلاء ليعربه ويشرح معناه:
صفحه نامشخص