مهما قرأنا عن التاريخ ومهما درسنا نظريا عن تطور الأديان وتطور الحياة البشرية والإنسانية، فلا يمكن أن يدرك الإنسان الحقائق كما يدركها حين يزور الهند وينتقل بين أجزائها المختلفة المتباينة، ويعايش قبائلها البدائية فوق الجبال، وأسرها الحديثة في المدن الكبيرة مثل بومباي ودلهي وكالكاتا. إن جذور الإنسان واحدة وجذور الأديان واحدة، كم تتشابه حياة البشر حين يصل المرء إلى أعماقها وجذورها، وكم يشتد الاختلاف بخروجنا إلى السطح والمشاهدات السطحية. •••
كنت في سريري أقرأ رواية هندية. كانت الساعة الواحدة صباحا حينما سمعت صوتا غريبا مزعجا يدق أرض الشارع، فتحت الشرفة ورأيت رجلا هنديا يسير بخطوات بطيئة في يده عصا غليظة، وفي كل خطوة يدق الشارع بعصاه، وظننت أنه «المسحراتي» الذي يطوف ببعض الشوارع في مصر أثناء رمضان ليوقظ الناس ليتناولوا طعام السحور، وسألت زوجي: هل هذا مسحراتي؟ وهل يصوم الهنود رمضان أيضا؟
وضحك زوجي لهذا السؤال وقال: ليس هذا مسحراتيا. إنه الخفير الذي يشرف على الأمن في هذه المنطقة.
وسألت: ولماذا يدق الأرض بذلك الصوت العالي؟
وقال زوجي: ليعرف سكان البيوت أنه يقظ وأنه ساهر لحمايتهم.
قلت: ولكنه بهذا الصوت يعلن للصوص عن الشارع الذي يحرسه فيسرعون إلى شارع آخر حيث يسرقون الناس وهم مطمئنون إلى عدم وجود الحارس.
وضحك زوجي قائلا: هذا بالضبط ما يحدث؛ إن عصا هؤلاء الحراس لا تفعل شيئا سوى إزعاج النائمين أو تنبيه اللصوص إلى مكان الحارس.
وفي أول الشهر جاء هذا الحارس إلى شقتنا وطلب أجره الشهري، وعرفت سببا آخر لتلك العصا التي تدق ليلا. إنها تقول للناس: أنا أقوم بواجبي كل ليلة وأستحق الأجر الذي تدفعون.
الفقر في الهند يدفع الكثير من الناس إلى ابتكار مهن غريبة للحصول على أجر، أي أجر. من المناظر المألوفة في مدينة نيودلهي أن ترى هؤلاء المكوجية الذين يجر الواحد منهم عربة يد خشبية يوقفها أمام أي بيت، ويهبط الخادم بصرة ملابس ويبدأ المكوجي عمله بنشاط حتى ينتهي من ملابس هذا البيت، فيجر عربته وينتقل إلى بيت آخر ... وهكذا. حين تسير في أي شارع في الصباح تجد هؤلاء المكوجية المتنقلين أمام أبواب البيوت يكوون الملابس فوق عرباتهم الخشبية الصغيرة.
في أي وقت من النهار قد يدق جرس بيتك، وتجد ذلك الرجل الهندي الذي جاء يعرض عليك خدماته دون أن تطلبها. إنه قد يقول لك إنه مستعد لأن يشتري أثاثا جديدا لبيتك إذا كنت من سكان الحي القدامى. أما إذا كنت ساكنا جديدا فإنه يأتي إليك ليؤثث لك شقتك، وأحيانا يعرض عليك أن يبحث لك عن شقة أخرى مع أنك لم تقل له إنك تريد الانتقال من شقتك. وهكذا يتفنن بعض الهنود في الوسائل التي يقدمون بها خدماتهم من أجل الحصول على أجر أو ربح ما، وكم من مرة يدق جرس الباب (وبالذات في يوم إجازتك) ويظهر أحد هؤلاء الرجال ليعرض عليك خدمة لم تطلبها ولم تفكر فيها.
صفحه نامشخص