وقعت دانشوار ومائة كاتب إيراني على عريضة تحتج على حبسه وتطالب بالإفراج عنه، تطوع بعض المحامين للدفاع عنه، المعارضة ضد الشاه تزداد قوة، وكثير من الناس في السجون، منظمات كثيرة سرية داخل إيران، وفي الخارج أيضا نشاط كبير ضد الشاه.
ثم قالت دانشوار: «جمعنا 600000 توماني وأرسلناها إلى الفدائيين الفلسطينيين في الأردن. أعلن وزير الخارجية أنه مع الفدائيين، لكن هذا غير حقيقي، حكومة الشاه أقامت احتفالا في ذكرى لينين في جامعة طهران، لكن الطلاب قاطعوا الاحتفال، وأنا أيضا لم أذهب؛ لأنه إذا أصبح لينين تابعا لحكومة الشاه فأنا ضد لينين! شباب الجامعة في إيران قوة كبيرة، وهم الذين سيصنعون الثورة.»
وتركتها في الليل وحدها بالبيت الصغير في الجبل، ودعتني حتى باب الحديقة ووقفت أمامي ممسكة بالباب، وقبل أن أترك الشارع الضيق استدرت خلفي ورأيتها لا تزال واقفة في الضوء الخافت ممسكة بالباب. •••
من النافذة المفتوحة في غرفتي بالفندق رأيت الهضبة العالية ومن فوقها تتلألأ أنوار فندق الهيلتون، وإلى جواره «مركز إيران للمؤتمرات العالمية»، وفي الحديقة الواسعة اصطفت الموائد وأطباق الطعام وكئوس النبيذ والشمبانيا، وثلاثمائة شخص من كل أنحاء العالم: من أمريكا وغانا وتنزانيا وبريطانيا والسويد والهند وكينيا وأوغندة والسودان وليبيا وتونس والفلبين ومدغشقر وأفغانستان والحبشة ولبنان وتركيا، ومن مصر كان الدكتور سرور وثلاثة آخرون من الأطباء وأنا منهم.
لم أحضر حفل التعارف الأول بعد الافتتاح، ولم أحضر الحفل الختامي للمؤتمر، بيني وبين الحفلات عداء، وجوه ترتدي أقنعة النفاق، وحول أعناق النساء جواهر تبرق، وحول أعناق الرجال الربطة الحريرية الملونة .
يد تمسك الكأس واليد الأخرى تصافح، عين تتابع حركة الرئيس أو مندوب الرئيس، والعين الأخرى تتابع حفيف الجواهر، وضحكات تتطاير في الجو مع فرقعات السدادات وهي تتطاير من فوهة الزجاجات، وترتفع الأصوات والقهقهات، ومن حين إلى حين يرن في الجو اصطلاح طبي، أو اسم جديد لمرض أو نوع حديث من لوالب عنق الرحم، أو معونة أمريكية جديدة على شكل شحنة من حبوب منع الحمل.
وفي أحد المقاعد الخاصة بالوفد الأمريكي جلس طبيب أمريكي، وأعلن أن ولاية نيويورك أصدرت قرارا هذا العام يبيح الإجهاض، وارتفع صوت من الوفد التونسي يقول: إن الإجهاض أبيح في تونس، وتحدثت طبيبة إنجليزية عن مفهوم جديد للجنس، وعاد الطبيب الأمريكي يقول: إن المجتمع الأمريكي لا زال يحمر وجهه إذا سمع كلمة الجنس، وتحدث طبيب من السويد عن الحقنة الجديدة التي تحقن بها المرأة فتمنع الحمل لمدة عام كامل، واعترض عضو الوفد التركي على اضطهاد جسد المرأة وحده في موضوع تحديد النسل، وأدان طبيب من الفلبين طبيعة المرأة التي تجعلها قابلة للإخصاب في أيام قليلة من الشهر. أما الرجل فهو مخصب طوال الشهر ولا انفصال عنده بين الجنس والإخصاب، وتحدث طبيب من الهند عن عمليات التعقيم للرجال وأنها سهلة وسطحية. أما عملية التعقيم عند المرأة فتستدعي فتح البطن.
وجلست صامتة طوال جلسات المؤتمر، ثم رفعت أصبعا طويلا مدببا في الجلسة الأخيرة وألقيت في القاعة بالسؤال: ولماذا تحددون النسل؟ وتحركت نحوي العيون محملقة مستطلعة مندهشة. لم يكن حول عنقي جواهر فأدركوا أنني من البلاد الفقيرة في العالم الثالث. ولم أكن أحمل اسمي ولقبي فوق صدري فأدركوا أنني بلا اسم ولا لقب. واعترض طبيب على السؤال وقال إنه لا علاقة له بموضوع المؤتمر؛ لأن الموضوع هو وسائل تحديد النسل وليس أسباب تحديد النسل. واعترض على الاعتراض طبيب من السودان وقال: إن السؤال في صلب الموضوع، ولا يمكن فصل الأسباب عن الظواهر. وتدخل الطبيب من الفلبين وقال: إن الأسباب تدخل في نطاق علوم الاجتماع والسكان وليس علوم الطب.
واعترض الطبيب من الهند وقال إنه لا فاصل اليوم بين الطب والمجتمع، ونهض الطبيب من الفلبين ليرد، لكن رئيس الجلسة دق بيده على المنصة وطلب المحافظة على النظام، وأعطى الكلمة للطبيب الأفريقي من غانا الذي كان أول من رفع يده، وألقى الطبيب محاضرة عن فوائد تحديد النسل وخاصة في البلاد المتخلفة في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. واعترض الطبيب من الهند على كلمة «المتخلفة» واستبدلها بكلمة «النامية». ورفع الدكتور سرور يده وطلب الكلمة وأوضح أن التخلف ليس عيبا، وأن الفقر ليس عيبا، ولكن العيب هو كثرة الحمل وولادة الأطفال كالأرانب. واعترض الطبيب من السودان على كلمة «الأرانب»، وقال: إن الفقر هو المشكلة وليس الأطفال، والمفروض أن نعالج الفقر أولا. وتساءل الطبيب من السويد عن أسباب الفقر في البلاد المتخلفة. ورد الطبيب من السودان وقال: الاستعمار. وهنا وقف الطبيب من كينيا وقال: هذا مؤتمر طبي ولا دخل لنا بالسياسة. واقترح العودة إلى موضوع المؤتمر الأصلي، ووافق رئيس الجلسة على ما قاله الطبيب الكيني، وعادت المناقشة من جديد إلى ما كانت عليه، وبدءوا يتحدثون عن أنواع اللوالب التي توضع حول عنق الرحم، ونسب الهرمونات في حبوب منع الحمل الجديدة، تنتجها شركة «إس إم» الأمريكية، وترسل منها كميات كبيرة إلى البلاد المتخلفة ضمن مشروعات التنمية أو المعونات الاقتصادية والعسكرية.
وتسللت من الباب الخلفي إلى الشارع. كانت الشمس تميل نحو الغروب، وظلال الأنوار تنعكس على الجداول الهابطة من الجبل، ورأس الجبل مدبب أبيض، وعلى السفح المائل «شتانوجا» بأنوارها الحمراء كحبات الكريز، ونسمة الليل والجبل، والمياه الذائبة في رائحة العشب، وأنغام الموسيقى الراقصة، وإيقاع كعوب الأحذية الثمينة مع اللحن الأمريكي، والشفاه المصبوغة تلتهم كرات الكافيار الأحمر.
صفحه نامشخص