في مطار عمان رأيت عددا من الشباب الفدائيين، ركبت معهم السيارة الجيب إلى مركز القيادة، شوارع عمان واسعة نظيفة، والجبال من كل ناحية، وعيون الفدائيين فيها بريق خاطف يعكس لون الجبل، يذكرني بالملامح الجبلية في الجزائر، وصوت لا زال في أذني: الثورة تجعل الملامح جذابة.
العيون في الوطن كانت شاحبة مليئة بالهزيمة تجعل الملامح خالية من الجمال، حركة الجسم تصبح بطيئة، ونظرة العين جانبية. لا تواجهك من الأمام. لا ترتفع وتثبت في عينك، والذراعان يتهدلان إلى جوار الجسم في مشية متعرجة، وعضلات البطن مرتخية، وخلايا العقل مرتخية. منذ الطفولة وأنا أكره منظر الوجوه المهزومة، وجه خالتي نعمات بعد أن طلقها زوجها، وخالي يحيى حين فشل في الدراسة، ووجه عبد الناصر بعد الهزيمة، كالأسد الجريح مكسور العينين، والأسد المكسور قبيح الشكل، وأجمل منه الأسد المقتول.
في مركز القيادة في عمان التقيت بالقيادات: رجال كلهم، و«النني» داخل عيونهم يتحرك في كل الاتجاهات بلا توقف، يتكلمون أيضا بلا توقف، ولا يسمعون إلا أنفسهم. أحدهم يرتدي زي الصاعقة ومن حول وسطه حزام عريض مزركش يتدلى منه السلاح، أصابعه ناعمة وأظافره شفافة نظيفة لم تعرف ملمس التراب، بشرته بيضاء لم تلوحها شمس الصيف ولا حرارة الأرض، صوته له رنين معدني دوى في الأذن كأصوات الآلهة الخفية، ويتحول الصوت دون أن يحرك شفتيه إلى أوامر عليا.
أشعر بالاختناق حين تقودني الظروف التعيسة إلى الجلوس وسط الآلهة في مركز قيادة، أو مكتب رئاسة أو وزارة، أو حينما تكون القيادة؛ فالقيادة في بلادنا سلطة، والسلطة امتيازات. وقد تركت مصر؛ مهبط السلطة المركزية ذات السيادة والامتيازات في الدنيا والآخرة، وجئت إلى مركز الثورة الجديدة وجبهة القتال، لكن يبدو أن القيادات هي القيادات، في السلم وفي الحرب وفي الثورة. عجينة واحدة هذا النوع من الرجال رغم اختلاف الملامح واللهجة والأزياء وحركة الذراعين أثناء السير، والعين لا تثبت أبدا في العين.
والتقت عيناي وأنا جالسة في مركز القيادة بعيني شاب فدائي، أدركت من عينيه أنه فدائي وليس من سلالة القيادات؛ النظرة المباشرة الصريحة، والعين تثبت في العين في خط مستقيم، واليد أيضا تصافح والذراع ممدود مستقيم.
كانت له ذراع واحدة، والذراع الثانية فقدها في فلسطين، وساق واحدة والساق الثانية بترت فوق الركبة بعد معركة الكرامة في 21 مارس 1968.
لم أكن حتى ذلك الحين أعرف معنى الحرب. لم أشهد في حياتي حربا إلا فوق شاشة السينما، مفرقعات وانفجارات وأجساد تسقط وأجساد تجري وسيارات تنقلب وتحترق وطلقات رصاص ودوي مدافع، ثم ينقشع الدخان وتسطع الشمس ويخرج الناس من بيوتهم إلى الحدائق يرقصون ويغنون رافعين رايات النصر. وفي طفولتي لم أعرف عن الحرب إلا صوت صفارة الإنذار، صفارة غليظة متقطعة كبوق السيارة العتيقة، وأمي تجري في غرفات البيت تطفئ الأنوار، وأبي يغلق شيش النوافذ ويترك الزجاج مفتوحا، ومن باب المطبخ أتسلل إلى الفناء الخلفي، وتتعلق عيناي بكشافات الأنوار تتحرك في السماء السوداء وتملأ الكون بأشباح ضوئية بيضاء كالآلهة المسحورة، وأصوات تدوي من بعيد كالرعد، وأضواء تلمع وتختفي كالبرق، بيضاء وصفراء وحمراء تشبه صواريخ العيد، ثم تدوي صفارة الأمان، صفارة طويلة حادة غير متقطعة كصفارة القطار، ويعم ضوء الكهرباء في بيتنا وكل البيوت، وصوت الراديو يرتفع بالغناء. كنت لا أزال صغيرة والعالم كبير، وأسمع أبي يقول: إن الحرب بين الإنجليز والألمان.
ولم أكن أعرف الفرق بين الإنجليز والألمان، وإذا مات الإنجليز في الحرب أو مات الألمان كلاهما عندي سيان ما دمت أفتح عيني في الصباح فأجد أمي وأبي وجميع إخوتي أحياء ولم يموتوا.
وحين كبرت وبدأت أفهم أكثر عرفت اسم إسرائيل، وتدوي صفارة الإنذار بالصوت الغليظ المتقطع، ويعم الظلام الدامس، وزجاج النوافذ طلاؤه أزرق داكن، وضوء السيارات أزرق، ووجوه الناس من حولي تشوبها زرقة، ولأول مرة في حياتي أسمع كلمة الموت، مجرد كلمة سمعتها، ارتبطت في ذهني بالزرقة الداكنة فوق الوجوه والجدران والنوافذ ومصابيح النور، وبكلمة أخرى اسمها إسرائيل.
لكنها ظلت مجرد كلمة إسرائيل أو الحرب أو الموت، وظل الموت بعيدا عن ذهني لا أكاد أذكره، وأظن أنه غير موجود، حتى دخلت كلية الطب، وعلى منضدة التشريح رأيت - لأول مرة - وجه إنسان ميت. •••
صفحه نامشخص