لوحة ضخمة تتصدر البهو الفسيح، لوحة بيضاء تماما، ليس بها إلا خط واحد متعرج بالقلم الفحم الأسود، وفي الركن بقعة على شكل دائرة سوداء غير منتظمة داخلها نقطتان حمراوان، تشبه خطوطي وأنا طفلة في كراسة الرسم. كانت ترمقها المدرسة بعينين ضيقتين ثم تمط شفتيها وتعطيني صفرا.
رجل أمريكي إلى جواري، شعره طويل ينسدل فوق كتفيه، ولحيته طويلة غزيرة، يحملق في اللوحة ولا يتركها، ترى ماذا يرى في ذلك الخط المتعرج الأسود وتلك البقعة شبه العشوائية؟ هل يرى فيها تلقائية الفن الشجاع يكسر القوالب المألوفة؟ أم يرى العبث واللا عقل في نظام الكون؟
أحملق في الخط المتعرج الشبيه بخطي. كانت خطوطي فوق الورقة وأنا طفلة تبهرني. لكنها لم تكن تبهر أحدا غيري، وكان مصيرها دائما صندوق القمامة، لكن هذا الخط يحتل المساحة الكبيرة في هذا المتحف والعيون ترمقه بانبهار.
أهو الفن العظيم؟ أم أن أي شيء داخل أي متحف يبدو مبهرا؟ وهذه الحركة التلقائية فوق الورقة أهي قمة الثقة بالنفس؟ أم ذروة الفشل في إدراك العالم الخارجي؟
وظللت أحملق في اللوحة، يبدو لي الغموض واضحا والخط تماما كخطي، وأكاد أرى نفسي ثم لا يلبث أن يغرق كل شيء في اللون الأسود فلا أعرف شيئا، ولا حتى من أنا، وأين أكون؟
دوار في رأسي وألم في العمود الفقري وأنا لا أزال واقفة أمام اللوحة، أهي حالة من الإرهاق أدخل فيها بعد مجهود اليوم الطويل؟ أم أن الفن التشكيلي يدخل مرحلة جديدة؟ وما هذه المرحلة؟ رفض الكون القديم والوجود؟ اكتشاف جديد للذات والوعي؟ علاقة جديدة للوعي بالوجود؟ أنا أفكر إذن أنا موجود كما قال ديكارت، أم أنا موجود، إذن أنا أفكر كما حاول ماركس أن يقول.
لكن لماذا يطرح السؤال بهذا الشكل، ولماذا لا نسأل سؤالا آخر، فنقول مثلا: لماذا لا يكون الوعي والوجود شيئا واحدا وليس شيئين منفصلين يسبق أحدهما الآخر؟
لماذا لا أقول: أنا موجود وأفكر في آن واحد، إذن أنا وجود فكري، أو أنا جسم مفكر؟
منذ الطفولة أدركت أنني أفكر بجسمي، ثم كبرت أكثر وبدأت أتساءل: إذا كان الفكر هو الجسم فلماذا يمتد فكري خارج حدود جسمي وخارج حدود الزمان والمكان؟ يمتد في الماضي آلاف السنوات، ويعبر البحار والسماوات والمحيطات لآلاف الملايين من الكيلومترات؟!
عيناي شاخصتان نحو الدائرة فوق اللوحة، بقعة اللون سوداء بلون الأرض وكروية ولها حركة خفية رغم السكون كحركة الأرض، والكون يبدو ضخما بلا نهاية، وعقلي يتسع للمساحة لكنه يبحث عن النهاية، أين ينتهي الكون وأين يبدأ؟ وكيف بدأت الحياة البشرية ومتى تنتهي؟ لا أذكر متى ولدت ولا أتصور أنني سأموت.
صفحه نامشخص