وردد الرجل بدهشة: إيجبت! وكأنما «إيجبت» هذه في آخر الدنيا، وبدت ملامح الرجل غريبة، وبشرته حمراء وله أنف طويل مدبب وشفتان رفيعتان مشدودتان، ويداه كبيرتان فوقهما نقط سوداء، واجتاحني إحساس جارف بالغربة، وسمعت الرجل يقول: أول مرة تذهبين إلى باريس؟
وقلت وأنا أبتلع لعابي الجاف: نعم.
وتمنيت لحظتها لو عادت بي الطائرة إلى بيتي، ولاحت لي عينا ابنتي فيهما دموع. فوق النافذة نقط ماء كالمطر، السحاب تغير لونه، أصبح كثيفا له لون داكن مخيف، من بين شقوق السحب تبدو الأرض أشد بعدا، صوت الطائرة يهدر في أذني، الرجل إلى جواري ترك الجريدة وأغمض عينيه، مضيفة الطائرة تضحك مع أحد الركاب، امرأة جالسة في مقعدها تقرأ في مجلة، إلى جوارها طفل يلعب بمكعبات صغيرة ملونة، كل شيء داخل الطائرة يبعث على الطمأنينة.
مرت المضيفات بأباريق الشاي والقهوة، نكهة القهوة في أنفي قوية، حواسي الطبيعية تعود، ويعود معها الإدراك المفاجئ بأنني في الطريق إلى باريس.
باريس! الكلمة ترن في أذني ساحرة، من كل الرجال في أسرتي لم يسافر أحد إلى باريس، قرأت في طفولتي عن رجال مصريين سافروا إلى باريس. لا أتذكر منهم الآن إلا سعد زغلول وطه حسين. في خيالي عن باريس نساء شقراوات جميلات يرقصن على ضفاف نهر السين، عيونهن زرقاء وسيقانهن وردية ناعمة وألحان الموسيقى تملأ الكون.
الطائرة تهتز وتتأرجح كأنما ستسقط بين أمواج السحب، الصوت يعلن أننا نهبط في مطار باريس، ورقعة الضوء كشفت عن عبارة: اربطوا الأحزمة، أذناي تنغلقان وتنفتحان، والأزيز يشتد كالصفير الحاد، ثم الارتجاجة العنيفة الأخيرة وتلامس العجلات مع الأرض. •••
المطار ضخم متعدد الممرات، أحاول تتبع العلامات فوق اللافتات لأصل إلى باب الخروج. الأرض نظيفة لامعة تبرق، الناس وجوههم نضرة متوردة، أجسامهم ممشوقة سريعة الحركة، كعوب النساء الرفيعة العالية ترن فوق الأرض بدقات سريعة، كعوب الرجال أيضا تدب دباتها القوية النشيطة، الأجسام الرشيقة تتدافع أمامي في تناسق وسرعة كموجات نهر رشيق.
الشوارع فسيحة والأشجار خضرتها قوية، البيوت أنيقة شرفاتها تطل منها الزهور. لم أر في أي شرفة ملابس منشورة على حبل غسيل.
هبطت الدرجات لأركب «المترو»، الزحام شديد، والخطوات سريعة لكن لا أحد يرتطم بأحد. على المقعد المواجه لي في القطار فتاة وفتى يتعانقان، يستغرقان في قبلة طويلة والقطار مزدحم ولا أحد ينظر إليهما، أحاول أن أبعد عيني عنهما. ثلاثة شباب وفتاة يعلقون على أكتافهم آلات موسيقية ويعزفون. أبواب القطار تنفتح وحدها في كل محطة، ويهبط ناس ويصعد ناس، ثم تنغلق الأبواب وحدها. توقف القطار في محطة الشانزليزيه فاندفعت بسرعة خارج القطار، صعدت السلالم إلى الشارع، رأيت أمامي قوس النصر الضخم والشارع الفسيح على جانبيه المحلات ذات النوافذ الزجاجية الكبيرة، عيناي تتحركان بلا توقف، الوجوه من حولي مشرقة والخطوات مرحة، الملابس أنيقة متعددة الأشكال والألوان، سراويل ضيقة كالقفاز، أثواب قصيرة تكشف عن سيقان ناعمة ملونة، شاب وشابة يسيران متعانقين.
الحرية تتجسد أمامي، حيث لا عيون ولا آذان ولا أنوف تندس أو تتشمم، وسرت إلي عدوى الحرية، شددت عضلات ظهري ورفعت رأسي وسرت بخطوات منطلقة أحرك ذراعي في الهواء. اشتريت تفاحة حمراء ضخمة ووضعتها بين أسناني، واندفعت مع مجموعة من الشباب نحو مركب للنزهة في نهر السين.
صفحه نامشخص