المقاعد في مطار القاهرة أصبحت من البلاستيك وطليت بلون برتقالي، عمال النظافة في المطار يرتدون بدلا أجنبية، يكنسون الأرض وعلى ظهورهم علقت حروف إنجليزية.
خيل إلي أنني في مطار آخر غير القاهرة، وأن هؤلاء العاملات والعمال ليسوا مصريين وإنما إنجليز أو أمريكيون من ذوي البشرة السمراء، ربما استوردت حكومة السادات رجالا ونساء لعملية كنس الأرض، ولم أكن رأيت من قبل رجلا إنجليزيا أو أمريكيا يأتي ليكنس الأرض في بلد من بلادنا أو ما يسمونها البلاد المتخلفة أو العالم الثالث ... العكس هو الذي كنت أراه، وهو أن يذهب شبابنا لكنس شوارع العالم الأول.
المفروض أن يكنس كل بلد أرضه سواء كان في العالم الأول أو الثالث، والمفروض أن ينظف كل إنسان نفسه وبيته سواء كان حاكما أو محكوما، رجلا أو امرأة، أبيض أو أسود، فليس هناك امتهان للإنسان أكثر من أن يغسل الملابس الداخلية لإنسان آخر وإن كان هذا الإنسان الآخر هو الملك أو الإمبراطور.
وأخذت أتأمل الحروف الإنجليزية فوق ظهور الكناسين في المطار بدهشة، وازدادت دهشتي حين علمت من أحدهم أنه ليس إنجليزيا ولا أمريكيا وإنما مصري صعيدي استأجرته شركة إنجليزية أصبحت هي المتولية تنظيف مطار القاهرة.
ويمكن لعقلي أن يتصور أن الحكومة قد تستعين بالخبرة الأجنبية في مجال علمي عويص أو في حل مشكلة تكنولوجية مستعصية، ولكن أن تستعين بشركة إنجليزية لكنس أرض مطارنا فلم يخطر ببالي أو خيالي.
ولكن هذا هو ما أوصلنا إليه حكم السادات، وبعد أن كنا بصدد التصنيع الثقيل أصبحنا نعجز عن كنس مطارنا بأنفسنا، أو أننا نكنسه بأيدينا تحت إدارة وإشراف إنجليزي، وكأنما نعلن على الملأ أننا لا نملك إلا سواعدنا، ونحتاج دائما إلى عقل آخر غير عقلنا كي يشغلنا ويديرنا.
وتذكرت فقرة قرأتها في إحدى الصحف في نوفمبر 1977 بعد زيارة السادات لإسرائيل، وهي لمناحم بيجين قال فيها: إن العلاقات الطيبة التي يمكن أن تنشأ بين مصر وإسرائيل سوف تساعد على أن يستفيد كل بلد بإمكانيات البلد الآخر، وإسرائيل فيها العقل، ومصر فيها الأيدي العاملة، وبتعاون الاثنين معا: العقل الإسرائيلي والسواعد المصرية، سوف يزدهر الكون.
ولا بد أن بيجين كان يعني بالكون الإسرائيلي!
والغريب أنني رأيت المنظر نفسه في مطار جدة، ورأيت العمال السعوديين يكنسون مطار جدة وقد علق الواحد منهم على ظهره لافتة حروفها إنجليزية أو أمريكية.
والأغرب من هذا أنني لم أر هذه اللافتة على ظهور الكناسين في مطار دار السلام أو عدن أو داكار أو نيودلهي أو كولومبوا أو حتى زنجبار جزيرة العبيد ... •••
صفحه نامشخص