لكن الإحساس بالمهانة يتبدد وأنا محلقة فوق السحاب، فوق الأرض والجبال، فوق الجغرافيا والتاريخ، وفوق حدود البلاد التي صنعها الاستعمار.
وحين تدخل الطائرة إلى سماء مصر أشعر بالسعادة، وأدرك أن الاستعمار لا يخلو من فائدة؛ فأنا أمر بالقاهرة في كل رحلة داخل أفريقيا طالما أن أفريقيا لا تسافر إلى أفريقيا إلا بعد اجتياز البحر الأبيض المتوسط والهبوط على أرض أوروبية.
أحملق من الجو على أرض الوطن، تحت ضلوعي دقات قلب محسوسة، وعينان تخترقان السحاب، تبحثان عن الأرض الصلبة في مساحة هائلة من الهيولة الذائبة في الكون، وحين ترسو عيناي على الأرض السوداء تشتد تحت ضلوعي الخفقات، وفي الظلمة السوداء تتعلق عيناي بضوء خافت، هذا الضوء هو مصباحي بجوار سريري ورف الكتب، وأوراقي، عينا طفلي من فوق الوسادة الصغيرة تتسعان بالدهشة وتتعلقان بالطائرة.
لحظة العناق تنقطع فجأة، ولحظة الفراق تمتد إلى الأبد، وفي شوارع القاهرة أمشي كالغريبة. لا زالت صورة السادات معلقة فوق كل جدار، تحتل المساحة بين السماء والأرض، ومن حولها الشجر أصابه الشحوب، ونهر النيل يقاوم الامتداد إلى تل أبيب، ووجوه الناس شاحبة كالأرض، وأصواتهم مخنوقة كالعبيد.
حملت حقيبتي وخرجت من بيتي الصغير في الجيزة دون أن أغسل وجهي، شقتي في الدور الخامس، ولم تعد مواسير المياه تحمل الماء، ركبت سيارة الليموزين متجهة إلى المطار، اجتزنا كوبري الجيزة، وفاحت رائحة الجلود الميتة قرب المدافن حيث المدينة الجديدة، يسمونها مدينة النوتي، ومليونان من البشر يعيشون فيها وينامون في القبور.
سيارة الليموزين سوداء أنيقة من النوع المرسيدس، شركات السياحة الجديدة تشتغل بكفاءة عالية لخدمة السياح الأجانب، السائق المصري يرتدي قبعة ويتحدث في جهاز لا سلكي، أخذ مني ضعف الأجر بقشيشا ورمقني بنظرة ازدراء حين نطقت بالعربية.
على باب المطار كان الزحام شديدا، أحد حراس الأبواب يسب امرأة فلاحة تجر ثلاثة أطفال، يلقي بجواز سفرها الأخضر على الأرض ويبصق، النسر ذو الجناحين تغطيه البصقة، مددت يدي بجواز السفر الأزرق وتمتمت ببعض كلمات إنجليزية، انحنى مبتسما وأفسح لي الطريق.
جلست في مطار القاهرة أحملق في الفراغ وفي جوفي مرارة، أصبحت أتكلم الإنجليزية في بلدي ليفسح لي الطريق وأنال الاحترام، أشعر بالغربة في وطني، وخارج الوطن أيضا أشعر بالغربة، لا زلنا نعيش عصر العبيد.
دوى في أذني صوت حاد كالصرخة أو زغرودة طويلة ممدودة، فتاة مصرية ترتدي فستان الزفاف الأبيض ، تتعثر في ذيل فستانها الطويل، وعلى جبهتها حبات عرق، تسير نحو الطائرة السعودية في وجل وفي جيبها صورة عريس جاءتها بالبريد، وشيك على البنك في جيب أبيها، من الطائرة نفسها يهبط جثمان فلاح مصري داخل صندوق خشبي، وفي جيبه الداخلي صورة أمه ورزمة دنانير، الزغاريد الحادة الممطوطة تختلط بأصوات النواح والعويل، وعلى أرض المطار يرقد الفلاحون المصريون صفوفا، تحت الرأس قفة أو حقيبة مربوطة بالحبال، ومن فوقها الاسم والعنوان بحروف عربية متعرجة.
لأول مرة في تاريخ مصر يهاجر الفلاح بحثا عن لقمة العيش، سنوات السادات جلبت للوطن الأجانب والإسرائيليين وطردت الوطنيين، حتى الفلاحون تركوا الأرض في القرى لتبور، وشركات أجنبية حولت الأرض الزراعية إلى مكاتب بالأسمنت المسلح، والموز الإسرائيلي طرد الموز المصري من السوق، والشامبو الأمريكي اكتسح واختفى الصابون النابلسي، وغرق الناس في العرق يجرون بغير استحمام وراء الرغيف.
صفحه نامشخص