لمحتني امرأة عجوز (من هؤلاء الأمريكيات السائحات المنتشرات في أفريقيا) وأنا أتابع حركات وجهها وهي تحملق بدهشة في وجه امرأة شحاذة يحوطها عدد من الأطفال كالهياكل، ويبدو أنني حملقت طويلا إليها؛ لأنني سمعتها تقول لزميلها أو زوجها: «الناس هنا غير متمدينين؛ فهم يحملقون في الناس بطريقة غريبة»، وكانت تظن أنني لم أفهم ما قالت، فرددت بلغتها قائلة: «السياح هنا غير متمدينين؛ فهم يحملقون في الناس بطريقة غريبة، إلا إذا كانت هذه المرأة الشحاذة ليست من الناس في نظرك!»
هؤلاء السياح كنت أراهم بالطوابير، وعلى الأخص في كينيا حيث لا تزال المنطقة مفتوحة للمستعمرين والسياح معا، وكلهم من ذوي البشرة البيضاء، نادرا ما كنت ألمح بينهم رجلا أسمر أو أسود، فإذا به يسير بينهم كالغريب، يخجل من غربته مع أنه فوق أرضه، ويتحرج من لون بشرته، ويتعثر في مشيته وكأنه في مكان لا يحق له أن يوجد فيه، كأنما المتعة أو السياحة محرمة عليه، أو كأن مكانه الطبيعي ليس سائرا أو جالسا بين السياح، وإنما واقف بطرطوره الأبيض وهم جالسون إلى موائدهم ينتظر الإشارة منهم ليتقدم بانحناءة مؤدبة.
أكثر ما آلمني في رحلتي إلى آسيا كانت انحناءة الرجل الهندي، لكن انحناءة الرجل الأفريقي آلمتني أكثر؛ فأنا أفريقية بحكم الجغرافيا والتاريخ، ويحزنني أن أرى واحدا من أهلي ينحني لأحد. كما أن الرجل الأفريقي طويل القامة قوي الجسد يكاد يكون عملاقا في أحيان كثيرة. وقد أغفر للقزم انحناءته لكن انحناءة العملاق تصيبني في الصميم.
لا زلت أذكر التمثال الذي رأيته في معرض نيويورك الدولي سنة 1965. وقد رأيت في هذا المعرض الضخم مئات الأشياء العجيبة التي استوقفتني، لكن الشيء الذي بقي في ذاكرتي من هذا المعرض حتى اليوم هو تمثال برونزي لرجل أفريقي عريض الكتفين عملاق الجسد رأسه منحن، ووقفت أمام هذه الانحناءة طويلا كأنما أرى لأول مرة انحناءة رجل، وبدت القوة والذل في الجسد الواحد، تناقض عميق مؤلم.
وعرفت وأنا أتأمل هذا التمثال لماذا كنت أحزن حين أزور حديقة الحيوانات وعلى الأخص بيت الأسد؛ كنت كلما أرى الأسد داخل القفص وتلتقي عيناه بعيني أشعر برجفة، ليس انبهارا بقوته وجبروته، وإنما بسبب الحزن الذي كنت أراه في عينيه، الحزن العميق، الحزن الحقيقي الذي لا نراه في عيون الضعفاء وإنما نراه في عيون الأقوياء حين يضعفون.
ولم أعرف حقيقة الحزن في عيني الأسد المحبوس حتى رأيت أسدا حرا طليقا لأول مرة. كان ذلك في غابة «ميكومي» في تنزانيا، وقد خرجت مع المرشد إلى الغابة لأشاهد الحيوانات المتوحشة على الطبيعة، ذلك اليوم رأيت جميع الحيوانات إلا الأسد، وبدأت الشمس تغرب وبدأنا نعود وقد خاب أملي في رؤية الأسد، وفجأة سمعت المرشد يهتف: انظري! وتجمد الدم في قلبي. كانت المرة الأولى في حياتي التي أرى فيها الأسد وجها لوجه دون قضبان حديدية، وهمس المرشد في أذني: لا تخافي؛ فالأسد دائما هادئ لا يهاجم إلا من يهاجمه، وهدأت بعد أن وجدت أن الأسد هادئ فعلا، واستجمعت كل قوتي لأنظر في عينيه، وشملني فرح غريب وانبهار يشبه فرح الأطفال حين يرون شيئا جديدا لأول مرة، والجديد الذي اكتشفته في لقائي مع الأسد الحر هو عيناه المليئتان بالقوة والثقة بالنفس إلى حد الهدوء، هدوء يشبه الرقة، هدوء القوي الذي يعرف أنه يستطيع أن يضرب من يضربه.
والإنسان الحر كالأسد الحر، شديد الهدوء إلى حد الرقة؛ لأنه يعلم أنه يستطيع أن يضرب من يضربه. •••
ركبت الطائرة الصغيرة «فوكر فرنشيت» الألمانية، تشبه الأتوبيس القديم، مقاعد ممزقة، وصوت محركاتها كموتور عربة عتيقة، خيل إلي أنها ستسقط من الجو، أنوار دار السلام تحت عيني، والسفن في الميناء تتألق كالعرائس، هبطت الطائرة في جزيرة زنجبار بعد 25 دقيقة فقط، الجزيرة مظلمة راقدة فيما يشبه السر المغلق المجهول، في المطار أعطوني 4 أقراص كينين وقاية من الملاريا. قالوا: إن الجزيرة موبوءة بالملاريا والفيلاريا والدرن، أما مرضى الجذام فهم يعزلون في جزيرة أخرى قريبة اسمها جزيرة الموت.
حملقت في الظلمة وأنا جالسة في التاكسي من المطار إلى فندق «بوانا»، رائحة الهواء ثقيلة كالموت، فكرت في العودة إلى المطار لكن الرغبة في المعرفة كانت أقوى، زنجبار جزيرة العبيد، أدوس على أرضها، وأشم رائحة الاستعباد كالموت، لكني أسير. في الفندق الضخم على الشاطئ، انحنى الجرسون وحمل عني حقيبتي، انحناءة تشبه انحناءة الجرسون في فندق أوبروي، وعرفت أن هذا الفندق هو أحد فنادق أوبروي في أفريقيا، في الصباح تمددت بجوار حمام السباحة. لم أجرؤ على النزول إلى الماء، رائحة الموت تفوح من قاع الحمام ومن كل أنحاء الحديقة، همس الجرسون في أذني: حين حفرنا الأرض لنقيم حمام السباحة عثرنا على آلاف الجماجم والهياكل البشرية، كانوا يقتلون الثوار ويدفنون جثثهم في هذا المكان قبل بناء الفندق.
نهضت فورا وحزمت حقيبتي، قررت الانتقال إلى فندق آخر. قال الجرسون: لا يوجد بالجزيرة إلا هذا الفندق، بقية الفنادق قديمة ومن الدرجة الثالثة، ولا أحد يذهب إليها خشية ناموس الملاريا والفيلاريا، وقلت: الملاريا والفيلاريا أفضل من البقاء في هذا الفندق.
صفحه نامشخص