والتواضع أشار بأن انتقل إلى محلة الشهداء بظاهر مكة ، رعيا لخفة حرارتها عن حرارة مكة ، فإن لجلالته هناك مقصفا بديعا أنيقا في وسطه صهريج ماء عظيم ، وأمامه بستان حديث الغراس ، فسيح الرقعة ، سيكون يوما من الجنان المشهورة ، فكان يدري أيده الله أن بين الشهداء والبلدة فرقا كبيرا في الجو ، وأني لو بت في ذلك المقصف الذي لجلالته لما كنت أحرم طيب الرقاد ، إلا أن مضيفي فؤاد بك لم يكن يرغب في أن أتحول إلى الشهداء ، خشية أن ينقصني شيء من أسباب الراحة ، التي لا يأمن على استكمالها إلا إذا كان هو قريبا مني ، والحال أن الشهداء هي ربض من أرباض مكة ، ومن هذه إليها مسافة ، أنا لم أكن أريد أن آتي ما لا يروق لفؤاد بك ، وكنت أقول في نفسي : هن ليال قلائل ، أقضي مناسك الحج ، ثم أصعد إلى الطائف ، فعلى فرض أني لم أنم هذه المديدة ، فلن تنفد بها قوة مقاومتي للطبيعة ؛ لذلك عصيت أمر الملك في هذه ، وندمت ولا ندامة العصاة الذين شاقوه في السنة الماضية (1).
* الكلام على الزاهر
الشهداء هو المكان الذي يقال له في التواريخ : الزاهر ، وهو اسم طابق مسماه ، بسيط أفيح ، تلعب فيه الرياح بدون معارض ، إلا من بعض آكام على جوانبه تزيده بهجة ، وأهاضيب وتلعات. إذا أقبل الربيع تكللت بالأزاهر ، فسمي من أجلها الزاهر ، وهو في إبان القيظ أخف حرارة من البلدة ، لا سيما بعد غروب الشمس ، وأنقى هواء وأنشط صقعا ، وفيه مياه تجري في قني تحت الأرض من قديم الدهر ، وبقايا قصور لأشراف البلد وسراته ، وفيه مقاه على الطريق للسابلين ، ومقاه
صفحه ۱۵۳