رحلة في زمان النوبة: دراسة للنوبة القديمة ومؤشرات التنمية المستقبلية
رحلة في زمان النوبة: دراسة للنوبة القديمة ومؤشرات التنمية المستقبلية
ژانرها
وبناء على جدول المسافات أعلاه، كنا قد وزعنا البنزين والزيت على أساس أن المسافة بين كل محطة والتالية لها في حدود 35 إلى 45 كيلومترا، فمن دهميت إلى كلابشة نحو 25كم، ومن كلابشة إلى قرشة 40كم ، ومن قرشة إلى سيالة 40كم، ومن سيالة إلى المالكي 45كم، ومن المالكي إلى الدر 40كم، ومن الدر إلى توشكى غرب 45كم، وأخيرا من توشكى إلى بلانة 35كم، وذلك على أساس نصف الكمية في الصعود جنوبا والنصف الآخر في العودة شمالا، وقد اتضح لنا بالتجربة أن ذلك كان أكثر من احتياجنا في العودة لمساعدة التيار لنا في الإبحار، كما سيأتي ذكره فيما بعد.
الفصل الثاني
من «عمدا» إلى «لندا»
في العاشرة صباح اليوم التالي كنا عند مرسى شركة «هوختيف» غربي سد أسوان، وأمامنا كانت ترسو السفينة البخارية «عمدا»، وهي قارب فسيح يبلغ طوله قرابة 12 مترا، ويحتوي على كابينة للنوم بها سريران، ومطبخ به مرشح للماء، وحجرة القيادة، ومقصورة مفتوحة في الخلف للجلوس والمشاهدة، وهو قارب قوي المحرك يتولى قيادته ريس وملاح.
تحركت «عمدا» من الميناء حوالي الثانية عشرة إلا ربعا، وحوالي الثانية والنصف ظهرا كنا أمام دهميت، وهي مسافة نحو 35كم؛ أي إن القارب كان يسير بسرعة 12 كيلومترا/ساعة ضد التيار، وهي سرعة كبيرة في مثل هذا الوقت من السنة، وتدل على قوة المحرك.
في البداية كان النهر عريضا أمام «جنوب» سد أسوان، وتكررت أمام أعيننا مناظر الصخور الجرانيتية والجزر الجرانيتية العديدة، وقد حف بها إطار من الطمي المتراكم كشف عنه تفريغ مياه بحيرة السد، وقد زرع النوبيون أجزاء من هذه الأطر الطميية بمحاصيلهم المعتادة، فأعطى المنظر العام ألوانا متناقضة؛ مياه النيل عكرة اللون ضاربة إلى اللون البني، الجرانيت الذي حرقته شمس آلاف السنين فصار من داكن اللون البني إلى الأسود، الخضرة اليانعة التي فقدت زهوها لوجودها بين ألوان قاتمة، وعلى أية حال فإن الخضرة المتناثرة هنا وهناك كسرت حدة الملل الذي تمجه عين المسافر في فصل الشتاء؛ حيث سطح البحيرة الواسعة أزرق بدرجات فاتحة حين تشكل الرياح تموجات الماء الناعمة، ثم صفرة الرمال أو حمرة التلال والحافات الصخرية التي تحف بالماء باستمرار، ونجوع وقرى النوبة بألوانها البيضاء أو البنية تمتد إلى ما لا نهاية.
وبوجود الإطارات الخضراء من أنواع الزراعات ظهرت بوضوح ألوان الحواف الرملية والصخرية أكثر من بانوراما الشتاء، وتضيف مجموعات الطيور العديدة من آكلات الأسماك وآكلات الحب والبذور وديدان الأرض؛ جمالا فائقا للنوبة خلال أشهر الصيف.
ويلحظ الشخص الذي تعود على مناظر النوبة شتاء أن النوبة تعاني من داء «البيات الشتوي»، الذي نلاحظه في طبيعة بعض الكائنات التي لا تفيق من البيات إلا إذا عضها الجوع نتيجة عدم اختزان ما يكفي من طعام خلال الصيف، فالنوبة تسكن في الشتاء إلا من حركة بواخر السياح المتجهين إلى أبو سمبل أو عودة أحد السكان العاملين خارج النوبة إلى قريته لسبب ما، غالبا الزواج - وهو قليل الحدوث في الشتاء الذي هو موسم العمل للعاملين خارج النوبة - ومع هبوط منسوب المياه في النيل - نتيجة تفريغ بحيرة السد - تستيقظ النوبة وتدب فيها الحياة، وتمتلئ الأرض التي خلفها تراجع المياه بأنواع من الأعشاب والنجيل الأخضر الخشن، ويدب الناس هبوطا وصعودا بين مساكنهم على الحافة الصخرية، وبين الحقول التي يزرعونها، في دروب مهدتها الأقدام سنة بعد سنة.
وفي الشتاء قلما يلمح المسافر بالنهر حركة الناس في نجوع النوبة، باستثناء اليوم الذي ترسو فيه باخرة البوستة القادمة من أسوان أو الذاهبة إليها، وهو أيضا يوم السوق حيث تفرغ بعض السلع المرسلة إلى دكان القرية، أو بعض الطرود التي يرسلها العاملون إلى ذويهم من كبار السن أو الزوجات والأطفال، أما في الصيف فإن المسافر يرى الكثير من الحركة، وخاصة النساء بملابسهن البيضاء في الشمال، والسوداء في الجنوب، يرحن ويجئن في الحقول وبين الآبار والبيوت، ومع مجموعات من الماعز والخراف التي ترعى النجيل الأخضر، وغير ذلك من إيقاع الحياة؛ مما يضيف إلى المنظر الطبيعي كثير الألوان لمسة الحياة، ويحيل الصورة الجامدة إلى واقع «يشغي» بالناس وينبض بالزمن.
وبعد نحو ساعة أو أقل مررنا بمنطقة السد العالي، وعلى عكس الهدوء الذي يميز النوبة، فإن منطقة السد العالي بدت خلية دائبة الحركة: الأصوات العديدة للآلاف من الإنسان، والمئات من اللواري الضخمة والآلات العملاقة من حفارات وأوناش ضخمة، وأبراج الكهرباء التي تسمو وتعلو على كل شيء آخر، والعائمات الضخمة واللنشات السريعة والبواخر والقاطرات «الجرارات» النيلية وغير ذلك، ولكل صوت أو هدير أو زئير أو صفير أو فرقعة تهز المكان، ولم تكن الفرقعات دوي تفجير، بل كان مصدرها تفريغ حمولة لوري ضخم من الصخور والأحجار والتراب من فوق مكان معين على القاع الحديدي لعائمة ضخمة، فإذا استكفت العائمة حمولتها، تجرها قاطرة لتلقي بحمولتها في مكان محدد من النيل، فالسد العالي في أساسه سد ركامي يبلغ عرض قاعه نحو الكيلومتر!
صفحه نامشخص