رفاعة الطهطاوی: زعیم النهضة الفکریة فی عصر محمد علی
رفاعة الطهطاوي: زعيم النهضة الفكرية في عصر محمد علي
ژانرها
وكان رفاعة أكثرهم انهماكا في عمله وأشدهم إقبالا عليه، ولم تكن تسعفه أوقات فراغه في النهار، فكان يقضي معظم ساعات الليل ساهرا بين كتبه ودروسه، يقرأ ويتفهم ويترجم، حتى أصيبت عينه اليسرى بضعف، ونصحه الطبيب بالراحة ونهاه عن المطالعة في الليل، ولكنه «لم يمتثل لخوف تعويق تقدمه.»
ولم يقنع رفاعة بالكتب التي تشترى له على حساب البعثة، فقد أحس لذة المعرفة، فأقبل يشتري كتبا أخرى من ماله الخاص، ثم أحس أن دروس أساتذته لا تكفي لإشباع فهمه، فاستأجر معلما خاصا ظل يدرس له أكثر من سنة وكان يدفع له أجره من مرتبه الخاص.
أرسل رفاعة إلى فرنسا ليكون إماما للبعثة، ولكن يبدو أن الأوامر صدرت في آخر لحظة أن يسمح له بالدراسة، فإن أقبل ووفق فليوجه إلى إتقان الترجمة؛ وذلك لأن ثقافته الأزهرية في اللغة العربية ترشحه لهذا العمل إذا ألم باللغة الفرنسية وأتقنها. وهذا عمل واسع عريض لأنه غير محدود، فحكومة محمد علي كانت مقبلة على الترجمة في كل علم وفن: في الهندسة، والطب، والفنون العسكرية، والتاريخ، والجغرافيا ... إلخ؛ فواجب رفاعة إذن أن يقرأ كتبا في كل هذه العلوم وأن يمرن على الترجمة فيها جميعا، ويا له من واجب شاق! ولكن همة رفاعة كانت همة عالية، فاستسهل الصعب، وأقبل ووفق.
وقد ذكر رفاعة في رحلته العلوم والفنون التي درسها، وعين الكتب التي قرأها والتي ترجمها أو بدأ يترجمها وهو في باريس. ومنها نلحظ أن ثقافته كانت موسوعية، فقد قرأ كتبا كثيرة في مختلف العلوم مع أساتذته، ثم قرأ كتبا كثيرة أخرى وحده. وبرهن بهذا على أنه كان يتمتع بروح جامعية حقة. ولا عجب فقد ساعد على تزويده بهذه الروح أمور أربعة: المران الذي اكتسبه وهو يطلب العلم في الأزهر، والنفحة التي أضفاها عليه أستاذه العطار، وحبه العجيب للعلم وشغفه بالتحصيل، ثم نفسه العالية الطموح ورغبته في إشباع هذه النفس وإرضاء باعثه وباعث النهضة الجديدة في مصر «ولي النعم» محمد علي.
وكان هناك عامل آخر، أو حافز آخر بعث رفاعة على الجد والاجتهاد لا يقل عن العوامل السابقة إن لم يكن أقوى منها. ذلك أن رفاعة درس دراسة دينية في أكبر جامعة دينية، ثم تخرج عالما دينيا، وكان تلميذا لشيخ الأزهر، كما كان قوي الإيمان متين العقيدة، وقد راعه منذ اللحظة الأولى الفارق الكبير بين ما كانت تتمتع به ديار المسيحية من تقدم في مختلف نواحي الحياة، وبين ما كانت تتمتع به مصر وديار الإسلام من تأخر وخمود وجمود في مختلف نواحي الحياة وخاصة في الناحية العلمية. ورحلته مليئة بهذه المقارنات كما سبق أن ذكرنا؛ لهذا نحس في جهوده التي ذكرها أنه ما كان يفرغ من قراءة كتاب في أي علم أو فن حتى يقبل على ترجمته؛ يريد بذلك أن ينقل لديار الإسلام وبنيه هذا العلم الجديد؛ عله يبعثهم إلى نهضة جديدة تنتهي بهم إلى أن يكونوا كأبناء المسيحية حضارة ورقيا، ولكن أنى له الوقت لترجمة هذه الكتب جميعا؟ ومع هذا فقد بدأ وترجم كتبا أو رسالات صغيرة ثم ترجم فصولا من الكتب الكبيرة. وكأني به قد ترك الباقي حتى يعود لمصر فيتم ما بدأ، وقد فعل، ولكن جهده جهد إنساني محدود، ووقته وقت محدود، وهنا ترقب الفرص حتى سنحت له فعرض على محمد علي مشروعه لإنشاء مدرسة الألسن، وقد أنشئت. واتسعت بعد إنشائها حركة الترجمة، واستطاع رفاعة أن يحقق بعض آماله. ويؤيدنا في رأينا هذا أن معظم الكتب الأولى التي ترجمها خريجو الألسن هي الكتب التي قرأها رفاعة في باريس والتي كان يتمنى أن يترجمها بنفسه.
والآن ليس أحسن من أن ننقل هنا تقرير رفاعة نفسه عن الكتب التي قرأها، وعن جهوده في الدراسة والترجمة وهو في باريس، قال في رحلته:
في التاريخ: «ابتدأنا في بيت الأفندية حين كنا معا بكتاب سير فلاسفة اليونان فقرأناه وتممناه، ثم ابتدأنا بعده في كتاب تاريخ عام مختصر يشتمل على سير قدماء المصريين والعراقيين وأهل الشام واليونان وقدماء العجم والرومانيين والهنود، وفي آخره نبذة مختصرة في علم «الميثولوجيا» يعني جاهلية اليونان وخرافاتهم، ثم قرأت عند مسيو «شواليه» كتابا يسمى لطائف التاريخ، يتضمن قصصا وحكايات ونوادر، ثم بعده قرأت كتابا يسمى سير أخلاق الأمم وعوائدهم وآدابهم، ثم تاريخ سبب عظم دولة قياصرة الروم وانقراضها، ثم كتاب رحلة «أنخرسيس» الأصغر إلى بلاد اليونان، ثم قرأت كتاب «سيغور» في التاريخ العام، ثم سيرة نابليون، ثم كتابا في علم التواريخ والأنساب، ثم كتابا يسمى «بانوراما» العالم، يعني مرآة الدنيا، ثم رحلة صنفها بعض المسافرين في بلاد الدولة العثمانية ، ثم رحلة في بلاد الجزائر.»
في الرياضيات: «وقرأت في الحساب كتاب «بزوت
Bezout ».
وفي الهندسة: الأربع المقالات الأول من كتاب «لوجندر
صفحه نامشخص