وهنا نلاحظ أن فكرة الخلاص هذه، التي احتلت هذه المكانة الكبرى في إنتاج ڤاجنر، هي فكرة مسيحية معروفة، فهل كان معنى ذلك أن ڤاجنر قد تأثر بالمسيحية طوال حياته الفنية، وأن إنتاجه كله قد بني على فكرة واحدة استمدها مباشرة من المسيحية؟
الواقع أن نظرة ڤاجنر الحقيقية إلى المسيحية يشوبها كثير من الغموض؛ ففي دراماته، خاصة الدراما الرباعية الكبرى، ما يوحي بأنه ملحد عنيد يدعو إلى زوال حكم الآلهة والمناداة بعهد الإنسانية الحرة. وفي بارسيفال ما يقطع بأنه كان مسيحيا مخلصا يرى في السخرية من آلام المسيح علة عذاب «كندري»، ويجعل الزهد والعزوف شرطين ضروريين لخلاص هذا العالم. فهل كان ڤاجنر إذن ملحدا أم متدينا؟ ... الأمر الذي لا يمكن إنكاره، هو أن ڤاجنر كان أقرب إلى التدين، وإن اصطبغ تدينه بصبغة إلحادية في كثير من الأحيان.
فليس في وسع المرء أن يتجاهل تيار الزهد الذي لازم إنتاجه من بدايته إلى نهايته؛ وإنما لا بد أن يعترف بأن تدين ڤاجنر قد دفعه إلى أن يدعو في دراماته إلى صفات قد يفتقر هو ذاته إليها، كالتضحية التامة وإنكار إرادة الحياة. ومن المحال أن تتردد هذه الأفكار الرئيسية في رأس ملحد. ولكن بعض العناصر اللادينية، أو على الأصح: اللامسيحية، تتردد في إنتاجه؛ ففي عهد الثورة، وفي فترة الإلحاد القصيرة التي مر بها، رأيناه يرسم للإنسانية الظافرة صورة تامة التحرر، فإذا بزيجفريد يتحدى الآلهة وينتصر عليها، ويستلهم الطبيعة في كل ما يعمل، ولا يحس إلا بمشاعر إنسانية خالصة - وتلك كلها صفات تذكرنا «بالإنسان الأرقى» عند نيتشه. ومن الغريب أن يجمع «بارسيفال» من هذه الصفات الشيء الكثير؛ فنراه مثل زيجفريد ساذجا تلقائيا يستلهم الطبيعة في أعماله؛ غير أنه أقل منه حيوية وأبعد عن مشاعر الإنسانية الأرضية. وعلى أية حال فصورة «بارسيفال» ليست صورة مسيحية خالصة. وفي وجود هذا العنصر الغريب في أكثر إنتاجه تدينا ما يوحي إلينا بحل المشكلة؛ ڧڤاجنر كان «مؤمنا» على الدوام، ولكنه لم يكن «مسيحيا» دائما. كان يقبل من العقيدة روحها، ويثور في كثير من الأحيان على شكلها ونصها. وهكذا كان من ذلك النوع من المفكرين الذين يتملك الإيمان كل حواسهم، ويحسون به إحساسا طبيعيا لا يداخله شك، وإن عبر إنتاجهم عن تعارض ظاهري مع «محتوى» ذلك الإيمان.
وعلى أساس هذا الحل نستطيع أن نقول إن تطور ڤاجنر بين الإلحاد والتدين لم يكن حادا مفاجئا؛ وإنما كان لتفكيره أساس روحي ظل دائما كما هو، وإن اختلف ظاهر البناء القائم على ذلك الأساس اختلافا يرجع إلى أحداث خارجية مرت به وفرضت تأثيرها عليه، أكثر مما يرجع إلى اختلاف جوهري في روحه، ونستطيع أن نقول أخيرا إن ما بدا من إلحاد له إنما كان تعبيرا عن خروجه على «تعاليم» الأديان ونصوصها الحرفية، بينما كان الإيمان السائد في إنتاجه تعبيرا عن قبول «روح» الأديان وتأثر نفسه المرهفة بجوها المسكن المهدئ. •••
وإذن؛ فقد عبر ڤاجنر عن روح المسيحية بفكرة «الخلاص»، ولكنه قبل الفكرة فحسب، وكان عليه أن يبحث عن وسائله الخاصة التي يتم بها ذلك الخلاص، ويتحقق للإنسانية بعثها من جديد على أساس قويم صالح.
وأصل الفساد - في رأي ڤاجنر - هو قيام المجتمع على أساس مادي صرف. وهنا نجد الفرق واضحا بينه وبين نيتشه؛ فبينما يعيب هذا على الحضارة الحديثة روحيتها الكاذبة ويدعو إلى مزيد من الواقعية والعودة إلى الطبيعة، رأى ڤاجنر في الحضارة الأوروبية، وخاصة في عهدها الأخير، نزعة مادية قوية تنذر بالقضاء على كل المقومات الروحية للبشر، وتهدد بحرمان الحياة من كل عنصر فني جمالي.
ومن أهم الأسباب التي أدت إلى سيادة هذه النزعة المادية، النفوذ اليهودي المسيطر على كل مرافق الحياة؛ ومن هنا كان عنف الحملة التي شنها على اليهود، والتي عد من أجلها «فنان النازية الأول».
والمقدمة الأولى التي استند عليها ڤاجنر في حملته على اليهود كانت فكرة العنصرية؛ فهو يؤمن إيمانا راسخا بآراء «جوبينو
Gobineau » كما شرحها في كتابه: «رسالة في تفاوت الأجناس البشرية»، ويعتقد بأن الأجناس تتفاوت مراتبها؛ ولهذا تحامل على بعضها، ورأى أن من الضروري تحكم الأجناس الراقية في الأجناس المنحطة؛ ومن هنا كان بغضه لليهود. ولقد كتب ڤاجنر في 1850م محذرا من «الخطر اليهودي» في كتاب «اليهودية في الموسيقى»؛ فالعنصر اليهودي هو أخطر العناصر التي اختلطت بالجنس الأبيض، وهو العنصر الوحيد الذي أمكنه الاحتفاظ بصفاته الأصلية سليمة كاملة؛ إذ يظل اليهودي يهوديا مهما غير موطنه ولغته وبيئته. وهو لا يتأثر بأية عقيدة روحية لأنه هو ذاته بلا عقيدة، ولا يعبد إلا المال؛ ومن هنا كان يسعى إلى أن يحول كل شيء إلى مال، حتى الفن! وأول ما ينفرك من اليهودي منظره الجسمي، وإذا تحدث كانت له دائما لكنة غريبة، وتراه عاجزا عن النطق بلهجة صحيحة صادقة، مهما طال أمد تعلمه له، وهو لا يملك إلا أن يحاكي ويقلد، دون أن يأتي بجديد، سواء في الأدب أو في الفن، وهو في الموسيقى خاصة لا يهتم إلا بالمسائل العملية، فلا مانع لديه من الاشتغال بالموسيقى ما دامت من وسائل كسب المال والنفوذ؛ ولذا ترى براعة اليهود تتجلى بوجه خاص في العزف لأنه الجانب العملي المربح من الموسيقى. أما التأليف الموسيقي فقليل من برعوا فيه، وإذا رأيت فيهم المؤلف فستجد موسيقاه سطحية لا تصل أبدا إلى قرار الوجدان، ولا تحرك مشاعر صادقة، بل تبهرنا بزخارفها المتكلفة فحسب. وأوضح مثل لذلك سيمفونيات مندلسون وأوبرات مايربير التي لا تهدف إلا إلى الترويح والتسرية عن نفس مكدودة مرهقة؛ فهي أداة تسلية وقتل للوقت فحسب.
وتعاليم اليهودية كلها مادية؛ فاليهودي واقعي بفطرته، ينفر من كل دعوة ترتفع بالإنسان إلى مرتبة مثالية، وكل همه هو النجاح في هذا العالم. وهكذا يظل يعمل جاهدا للوصول إلى غرضه، ويطرق كل الأبواب، ويقتحم ميادين لم يخلق لها - كالفن والأدب - كل هذا في سبيل النجاح المادي والشهرة والنفوذ. وهكذا يتضح التعارض بين الروح السامية والروح الآرية؛ فبقدر ما تغرق الأولى في الواقعية والمادية، تسمو الثانية إلى أعلى مراتب المثالية. وإذا كانت وسيلة بعث الإنسانية هي إماتة روح الأنانية، فلا شك في أن اليهود هم آخر من يستجيبون لتلك الدعوة؛ إذ إن الأنانية هي لب الروح اليهودية، حتى ليمكننا أن نقول إن اليهودي لن يصلح ويسير في ركاب المدنية الناهضة إلا إذا خرج تماما عن عقيدته، ولم يعد اليهودي يهوديا!
صفحه نامشخص