ريتشارد فاينمان: حياته في العلم
ريتشارد فاينمان: حياته في العلم
ژانرها
أما عبقرية فاينمان فقد أعلنت عن نفسها بنوع من نفاد الصبر الذهني. فعندما كان يهتم بحل مسألة ما كان يندفع إلى الأمام ليصل إلى الحل ثم يعمل في اتجاه عكسي كي يفهم ويحدد الخطوات التي تركها. وفي بعض الأحيان، كان يضيق ذرعا بأولئك الذين لا يستطيعون متابعة أفكاره، وقليل من كانوا يستطيعون. وعلى حد قوله، في رده على عرض وظيفي قدم إليه لاحقا من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (كالتك): «لا أحب طرح مشكلة ما ثم اقتراح وسيلة لحلها، وأشعر بالمسئولية بعد أن يعجز الطالب عن التعامل مع المسألة باستخدام الطريقة المقترحة في الوقت الذي توشك فيه زوجته على الولادة فلا يحصل على وظيفة. وما يحدث هو أنني لا أقترح ما لا أعلم إن كان سينجح أم لا، والسبيل الوحيد الذي أعلم به ما سينجح هو أن أجربه بالمنزل مسبقا، لذا فإنني أعتبر أن المقولة القديمة: «رسالة الدكتوراه هي بحث أجراه أستاذ في ظروف شديدة المشقة» حقيقة لا مراء فيها.»
ربما لهذا السبب لم يكن لدى فاينمان سوى عدد قليل للغاية من الطلبة الناجحين في الفيزياء. أما شفينجر، على الجانب الآخر، فقد أشرف على ما يزيد عن 150 طالب دكتوراه خلال حياته المهنية، نال ثلاثة منهم جائزة نوبل، اثنان في الفيزياء وواحد في الأحياء. لهذا لا يدهشنا أن مجتمع الفيزياء كان يهرع في أسراب وحشود للاستماع إلى شفينجر، وبصفة خاصة حين كان يحاول حل أكثر الألغاز وضوحا في طليعة الفيزياء الأساسية.
بعد المؤتمر الذي عقد في شيلتر أيلاند، أخذ شفينجر على عاتقه أيضا مهمة التوصل إلى عملية حسابية متفقة مع النسبية في الديناميكا الكهربائية الكمية لواحدة من الكميات التي اختلفت عن تنبؤات المرتبة الأدنى لنظرية ديراك؛ العزم المغناطيسي الغريب للإلكترون. وباستخدام مجموعة من الأدوات التي ابتكرها للتعامل مع مشكلات الديناميكا الكهربائية الكمية، وأفكار إعادة التطبيع التي كان هو وفيكتور فايسكوبف وإتش إيه كريمرز يروجون لها، كان أول من توصل إلى حل في أواخر عام 1947.
بدأت الأنباء تنتشر على الفور تقريبا في أوساط مجتمع الفيزياء حول إنجاز شفينجر . وفي اجتماع يناير 1948 للجمعية الفيزيائية الأمريكية - وهو الملتقى الكبير للفيزياء خلال العام - دعي شفينجر لإلقاء محاضرة، وبالفعل ألقى محاضرة بعنوان «التطورات الأخيرة في الديناميكا الكهربائية الكمية». وكان الاهتمام بها عظيما إلى حد أنه طلب منه إعادة المحاضرة في وقت لاحق من نفس اليوم، وبعدها مرة أخرى أمام جمهور أكبر لتلبية الطلب على الاستماع إلى النتائج التي توصل إليها.
في هذه الأثناء، نهض فاينمان بعد الحديث وذكر أنه حسب أيضا نفس الكميات التي حسبها شفينجر، بل إنه زعم توصله لقدر أكبر بعض الشيء من الشمولية في حساب العزم المغناطيسي الغريب للإلكترون. لكنه لم يشرح الأساليب التي استخدمها بعد، لذا كان إعلانه أقل تأثيرا بكثير.
حظيت أفكار فاينمان بقدر أقل من الاهتمام في الأوساط العلمية في ذلك الحين، ليس لأنه لم يمتلك نفس المنبر في ذلك الاجتماع، وإنما لأن منهجه بالكامل في التعامل مع المشكلات التي حلها في نهاية الأمر كان غريبا. لقد تجاهل طويلا شبكة الأمان الممثلة في نظرية مجال الكم التقليدية، ومع أن مخططاته أتاحت له حساب نتائج استثنائية، فإنها ربما بدت للآخرين أشبه بطلاسم نقشت بخط رديء في محاولة لتخمين الحل لمشكلات ذلك الوقت.
ذلك التحفظ الذي أبداه مجتمع علماء الفيزياء تجاه فهم أبحاثه تجلى في أوضح صوره خلال الفرصة الأولى التي لاحت لفاينمان لإلقاء محاضرة حول فكرته، بعد بضعة أشهر، في ورشة عمل أخرى أقيمت تحت رعاية الأكاديمية الوطنية للعلوم، أو ما يعرف باسم «مؤتمر بوكونو». جاءت محاضرته، وعنوانها «صياغة بديلة للديناميكا الكهربائية الكمية» بعد كلمة شفينجر، التي استمرت قرابة يوم كامل! ومع أن شفينجر كان يتصف بالهدوء والاتزان، فقد أصابه الاضطراب والارتباك بين الحين والآخر، حيث كان بور وديراك وغيرهما من كبار العلماء الحاضرين يقاطعونه على نحو مستمر.
لاحظ هانز بيته أن شفينجر يواجه مقاطعة أقل متى اتسم حديثه بطابع رسمي أكثر، لذا اقترح على فاينمان أن يقدم محاضرته بصورة تتسم بأنها رسمية ورياضية أيضا. وكان هذا الطلب أشبه بأن تطلب من بونو عزف مقطوعة لباخ على بيانو قيثاري. كان فاينمان قد استعد لتقديم مادته بنفس الطريقة تقريبا التي أجرى بحثه بها، مؤكدا على العمليات الحسابية الناجحة والنتائج التي سوف تعود به بعد ذلك للوراء كي تحفز أفكاره. غير أنه، مذعنا لاقتراح بيته، ركز على الرياضيات المرتبطة بأسلوبه الذي يجمع بين المكان والزمان بدلا من الفيزياء. وكانت النتيجة على حد تعبير فاينمان نفسه «محاضرة ميئوسا منها».
ظل ديراك يقاطعه سائلا عما إذا كانت نظريته «وحدوية» - وهو أسلوب رياضي لصياغة حقيقة ما، كما شرحت آنفا، مفاده أن المجموع المحسوب لاحتمالات جميع النتائج الفيزيائية الممكنة في أي موقف يجب أن يساوي واحدا صحيحا (بمعنى أن هناك احتمالا بنسبة 100٪ أن يحدث شيء ما) - غير أن فاينمان في الحقيقة لم يكن قد فكر في هذا الأمر، ولما كانت جسيماته تتحرك للأمام وللخلف في الزمن، فقد أجاب بأنه ببساطة لا يعلم.
بعدها، عندما قدم فاينمان فكرة سلوك البوزيترونات وكأنها إلكترونات تتحرك عكسيا في الزمن، سأله أحد المشاركين إن كان هذا يعني ضمنيا أنه في بعض مسارات الزمكان التي أدخلها في حساباته، قد تبدو عدة إلكترونات وكأنها تحتل نفس الحالة، وهو خرق واضح لمبدأ الاستبعاد لباولي. فأجابه فاينمان بالإيجاب لأنه في هذه الحالة لم تكن الإلكترونات المختلفة في حقيقة الأمر جسيمات مختلفة، وإنما هي نفس الجسيمات تتحرك جيئة وذهابا في الزمن! يذكر فاينمان لاحقا أن الفوضى عمت المكان بعدها.
صفحه نامشخص