ريتشارد فاينمان: حياته في العلم

محمد ابراهیم جندی d. 1450 AH
104

ريتشارد فاينمان: حياته في العلم

ريتشارد فاينمان: حياته في العلم

ژانرها

لم تكن طريقة فاينمان للتخلص من قيم ما لانهاية إذن مجرد تلفيق بارع، وإنما كانت بالأحرى ضرورة فيزيائية. هذا لأننا صرنا الآن ندرك أنه لا يجب علينا بعد ذلك أن نتوقع صمود النظرية، دون أن يطرأ عليها تغيير، عند جميع مقاييس الطاقة والمسافات. ولا يتوقع أحد أن تظل الديناميكا الكهربائية الكمية، وهي أفضل نظرية خضعت للاختبار وأحبها الجميع في دنيا الفيزياء، الوصف الملائم للطبيعة مهما صغرت المقاييس. وفي حقيقة الأمر ، وحسبما بين جلاشو وواينبرج وعبد السلام، فإنه عند مقياس طاقة مرتفع بدرجة كافية، تندمج الديناميكا الكهربائية الكمية مع التفاعل الضعيف ليصنعا نظرية موحدة جديدة.

إننا نفهم الآن أن «جميع» النظريات الفيزيائية هي مجرد نظريات فعالة تصف الطبيعة عند نطاق معين من المقاييس. فلا يوجد حتى الآن شيء يسمى حقيقة علمية مطلقة، إن كنا نعني بذلك نظرية تصلح لجميع المقاييس ولكل الأزمنة. وهكذا فإن الحاجة الفيزيائية لإعادة التطبيع بسيطة: النظرية المطلقة - أي، النظرية التي نستنبطها من واقع المشاهدات بصورة اعتباطية نزولا حتى مقاييس الأبعاد الصغيرة - ليست هي النظرية الصحيحة، والقيم اللانهائية هي العلامة الدالة على هذا. فإذا اخترنا أن نستنتج النظرية على هذا النحو، فإننا نقوم بذلك بصورة تتجاوز مجال صلاحيتها. وعند اقتطاع النظرية عند مقياس صغير الحجم، فإننا نتجاهل ببساطة الفيزياء الحديثة المجهولة التي لا مناص من أن تدخل تغييرات على النظرية عند تلك المقاييس الصغيرة. إن الإجابات المحددة التي نحصل عليها يكون لها معنى بالتحديد لأننا إذا رغبنا في سبر غور الظواهر عند مقاييس كبيرة الأبعاد، فإنه «يمكننا» تجاهل هذه الفيزياء الحديثة المجهولة عند المقاييس بالغة الصغر. والنظريات المنطقية القابلة لإعادة التطبيع مثل الديناميكا الكهربائية الكمية تفقد حساسيتها تجاه الفيزياء الحديثة عند مقاييس مسافات أقل كثيرا من المقاييس التي نجري عندها التجارب بهدف اختبار النظريات.

كان الأمل الذي يحدو فاينمان إذن في أن يتمكن بشكل أو بآخر من حل مشكلة القيم اللانهائية في الديناميكا الكهربائية الكمية بدون إعادة تطبيع، أملا في غير محله. فنحن نعلم الآن أن صورته، التي تسمح لنا أن نرى على نحو منهجي كيفية تجاهل الأمور التي لا نفهمها، هي أقصى ما يمكننا الوصول إليه. وباختصار، لقد قام فاينمان بأقصى ما كان ممكنا، ولم يقصد حله الرياضي إخفاء مشكلات نظرية المجال، بل كان يفوق هذا بكثير. لقد بين بحق المبادئ الفيزيائية الحديثة التي كان يأمل دوما أن يكون مسئولا يوما ما عن اكتشافها.

لا بد أن هذا الفهم الجديد كان من شأنه أن يبهج فاينمان، ليس فقط لأنه يمنح أهمية جديدة لعمله الذي أنجزه في مرحلة مبكرة من عمره، لكن لأنه يجدد أيضا شباب ألغاز الفيزياء . ولا توجد في الوقت الراهن نظرية معلومة تقدم الحل النهائي. ولا بد أنه كان سيحب ذلك. وكما قال ذات مرة: «يقول لي الناس: «هل تبحث عن القوانين النهائية لعلم الفيزياء؟» كلا إنني لا أفعل ذلك. فكل ما أبحث عنه المزيد من المعرفة عن هذا العالم. فإذا تبين وجود قانون بسيط نهائي يشرح كل شيء، فليكن، فلا بد أن هذا الأمر سوف يكون غاية في الروعة لو اكتشف. أما لو تبين أنه أشبه بالبصلة ذات ملايين الطبقات، وقد مللنا النظر إلى تلك الطبقات، إذن فليكن. ولكن أيا كان ما سيتبين، فإنها الطبيعة، وسوف تظهر لنا على الحال التي هي عليه.»

في الوقت نفسه، تسببت التطورات الرائعة التي حدثت خلال السبعينيات، والتي صارت ممكنة بفضل أبحاث فاينمان، في توجيه الكثير من الفيزيائيين نحو وجهة أخرى. وبعد نجاح توحيد القوة الكهروضعيفة والحرية المتقاربة، ظهرت إمكانية جديدة. فعلى كل حال، كما بين جيلمان ولو، تصبح الديناميكا الكهربائية الكمية أكثر قوة عند المقاييس الصغرى. وكما بين جروس وويلكزيك وبوليتزر، فإن الديناميكا اللونية الكمية تصبح أضعف عند المقاييس الصغيرة. ربما إذا اتجهنا إلى مقياس بالغ الصغر، الذي وفق تقديرنا ربما كان حجمه في حدود 1 على 16 من حجم البروتون، ونحو 1 على 12 من الحجم الذي تستطيع أفضل المعجلات المتاحة لنا في الوقت الراهن اكتشافه، فإن جميع القوى المعلومة قد تصير موحدة في نظرية واحدة. وهذا الاحتمال، الذي أطلق عليه جلاشو اسم «التوحيد العظيم»، صار هو القوة المحركة لفيزياء الجسيمات خلال معظم عقد الثمانينيات، وصنف ضمن هدف أعظم وأكبر عندما اكتشف أن نظرية الأوتار تسمح بتوحيد ممكن للقوى الثلاث غير الجذبوية مع قوة الجاذبية.

غير أن فاينمان مع ذلك ظل متشككا. فقد ظل طيلة حياته يناضل ضد الإفراط في قراءة البيانات، ولقد شهد طائفة من النظريات العبقرية الأنيقة تتهاوى وتنهار. وبالإضافة إلى ذلك فقد علم أنه ما لم يكن علماء الفيزياء النظرية مستعدين وقادرين على مواصلة اختبار أفكارهم في عالم التجارب القاسي، فإن احتمال خداع النفس بالأوهام يظل كبيرا . وقد علم - مثلما كان يقول كثيرا - أن أسهل شخص يمكنك خداعه هو نفسك.

عندما وقف فاينمان في مواجهة أدعياء العلم، و«خبراء» اختطاف البشر من قبل سكان الفضاء، والمنجمين، والدجالين، حاول أن يذكرنا بأننا فيما يبدو مجبولون على الاعتقاد بأن ما يحدث لنا بصورة طبيعية يبدو كما لو كان يكتسب أهمية ومعنى مميزا، حتى ولو كان حادثا وقع بالمصادفة. فعلينا أن نحترس من هذا الأمر، والسبيل الوحيد لذلك لا يأتي إلا من خلال التمسك بالقيد المتمثل في الواقع العملي التجريبي. لذا، عندما نواجه بادعاءات تقول إن نهاية علم الفيزياء قد أوشكت وأن القوانين النهائية لعلم الفيزياء في متناول أيدينا، ساعتها يكتفي فاينمان بالقول بحكمة: «لقد قضيت عمرا كاملا في ذلك ... عمرا كاملا ألتقي فيه بأناس مؤمنين بأن الحل يقع في متناول أيدينا.»

لو كان لنا أن نتعلم درسا من الحياة المهنية الرائعة لواحد من أكثر علماء القرن العشرين تميزا، فهو أن الإثارة والغطرسة، اللذين من الطبيعي أن يعقبا الوصول إلى المكانة النادرة التي يحظى بها من يكشف ولو عن جزء صغير من ألغاز الطبيعة، لابد لهما من عنصر ملطف ألا وهو إدراك أنه مهما كان مقدار ما نعرفه، فإن الحياة تخبئ لنا المزيد من المفاجآت، لو كنا على استعداد لمواصلة البحث. وكان هذا البحث هو محرك حياة العالم المغامر والعبقري الجسور ريتشارد فاينمان.

خاتمة

الشخصية قدر

صفحه نامشخص