ريتشارد فاينمان: حياته في العلم
ريتشارد فاينمان: حياته في العلم
ژانرها
في هذه الأثناء، ظل فاينمان متشككا حيال كل الإثارة المحيطة بالنتائج الجديدة. لقد شاهد علماء نظريين من قبل في مرات كثيرة يتحمسون لأفكار عظيمة. والأمر المثير للاهتمام حقا هو أن تشككه استمر بالرغم من أن تلك النتائج الجديدة نشأت نتيجة استخدام نفس الأساليب التي كان فاينمان رائدا لها، سواء أفي فهم تجارب التدريج أم في التعامل مع نظريات يانج-ميلز.
وأخيرا، وبحلول منتصف السبعينيات، كان فاينمان قد صار مقتنعا بأن تلك الأفكار تحمل قدرا كافيا من المزايا حتى إنه بدأ في متابعتها بالتفصيل، وبقدر عظيم من التلذذ والنشاط. وبالاشتراك مع باحث بعد الدكتوراه اسمه ريك فيلد، حسب فاينمان طائفة من الظواهر الفيزيائية المحتملة القابلة للرصد في الديناميكا اللونية الكمية، وساعد بذلك في استشراف حقبة جديدة ومثيرة من الاتصال المتبادل الوثيق بين التجربة والنظرية. كان عملا شاقا لأن مقياس الطاقة الذي صارت تفاعلات الديناميكا اللونية الكمية عنده من الضعف بحيث يمكن الاعتماد على الحسابات التي يجريها علماء النظرية كان أعلى بعض الشيء مما استطاع التجريبيون تحقيقه. لذا، على الرغم من بدء توافد تأكيدات مؤقتة للتنبؤات بالحرية المتقاربة، فإن الأمر استغرق ما لا يقل عن عقد آخر، حتى منتصف الثمانينيات؛ أي قرب وفاة فاينمان، حتى تأكدت النظرية تماما. كما استغرق الأمر عشرين عاما أخرى حتى منح جروس وويلكزيك وبوليتزر جائزة نوبل عن عملهم في الحرية المتقاربة.
خلال السنوات الأخيرة من عمره، وبقدر ما ظل فاينمان مفتونا بالديناميكا الكهربائية الكمية، استمر جزء منه يقاوم الإيمان التام بالنظرية؛ إذ على الرغم من أن النظرية بدت تبلي بلاء رائعا في تفسير تدريج سلاك، وبالرغم من رصد انحرافات التدريج التالية المتوقعة أيضا، وفي الواقع أظهرت جميع قياسات قوة تفاعل الديناميكا اللونية الكمية أنها تزداد ضعفا عند المسافات القصيرة والطاقات المرتفعة، فإنه على مقياس المسافة الكبيرة المضاد صارت النظرية من القوة بحيث استحال تطويعها. وقد حال هذا دون إجراء أي اختبار نظري لما كان سيعد في نظر فاينمان معيار الذهب، وهو: تفسير لعدم مشاهدتنا لأي كواركات حرة في الطبيعة.
تقول المعرفة التقليدية إن الديناميكا اللونية الكمية تصبح في غاية القوة على المسافات الكبيرة حتى إن القوة بين الكواركات تظل ثابتة مهما كانت المسافة، ومن ثم فإن الأمر يتطلب، من حيث المبدأ، قدرا لانهائيا من الطاقة حتى يمكن فصل كواركين أحدهما عن الآخر تماما. وكان ما يؤيد هذا التوقع حسابات معقدة أجريت على الكمبيوتر؛ حسابات من النوع الذي كان فاينمان يقوده عندما كان يعمل على جهاز التوصيل لمصلحة هيليس في بوسطن.
لكن نتيجة الكمبيوتر كانت في رأي فاينمان مجرد دعوة لفهم الفيزياء. فحسبما تعلم من قبل وهو تلميذ لبيته منذ سنوات عديدة مضت، فإنه ما لم يمتلك فهما تحليليا لسبب حدوث شيء ما بحيث يمكنه إخراج أرقام مقاربة للبيانات التجريبية، فإنه لا يثق في المعادلات. وهو لم يكن يمتلك ذلك الفهم. وإلى أن يمتلكه، لم يكن مستعدا للتسليم بأي شيء.
في ذلك الوقت التقيت ريتشارد فاينمان لأول مرة، حسبما وصفت في بداية هذا الكتاب. لقد جاء إلى فانكوفر وألقى محاضرة وهو في حالة من الانفعال الشديد حول فكرة كان يعتقد أنها تبرهن على أن الديناميكا اللونية الكمية من الممكن أن تكون «مقيدة»، حسب التسمية التي أطلقت على مشكلة «عدم رصد» كواركات حرة منعزلة. كانت المشكلة بالغة الصعوبة بحيث لا يمكن معالجتها في ثلاثة أبعاد، غير أنه كان متيقنا للغاية أنه يستطيع باستخدام بعدين التوصل لأسلوب تحليلي يمكنه تحقيق تسوية نهائية للأمر بأسلوب يرضيه. •••
واصل فاينمان معركته مع مرض السرطان، الذي عولج منه في البداية عام 1979 ثم عاود الظهور عام 1987، كما عانى من ارتفاع مستوى تشتته الذهني المرتبط بتعاظم شهرته، بداية من الأنشطة المحيطة بكتب السيرة الذاتية التي كتبها وحققت أعلى المبيعات إلى المهمة التي أوكلت إليه بشأن مكوك الفضاء «تشالنجر» (حيث ساعد بنفسه، لعلك تتذكر، في إماطة اللثام عن السبب وراء الانفجار المأساوي لمكوك الفضاء)، غير أنه لم يعش لليوم الذي يرى فيه هدفه يتحقق. وحتى يومنا هذا، وعلى الرغم من تحسن حسابات الكمبيوتر بصورة هائلة، بحيث زادت أكثر وأكثر من دعمها لفكرة التقييد، وعلى الرغم من أن طائفة من التقنيات النظرية الحديثة أتاحت إيجاد أساليب جديدة بالغة التعقيد للتعامل مع نظريات يانج-ميلز، فلم يتوصل أي شخص لبرهان بسيط وأنيق على أن النظرية لا بد أن تقيد الكواركات. ولا أحد يشك في أن هذا الأمر صحيح، غير أن «اختبار فاينمان» - لو جاز لنا أن نطلق عليه هذا الاسم - لم يتم تجاوزه بعد.
غير أن تراث فاينمان لا يزال حيا بيننا في كل يوم. إن الأساليب الوحيدة المثمرة التي تتسم بالكفاءة بحق للتعامل مع كل من نظريات معيار يانج-ميلز والجاذبية تتضمن صيغة فاينمان المعروفة باسم تكامل المسار. وليست هناك أي صيغة أخرى لنظرية مجال الكم يستخدمها الفيزيائيون المعاصرون. لكن الأهم من ذلك أن نتائج تكاملات المسارات، والحرية المتقاربة، والقابلية لإعادة تطبيع التفاعلات القوية والضعيفة وجهت الفيزيائيين نحو وجهة جديدة، مانحة فهما جديدا للحقيقة العلمية بطريقة لا بد أنها جعلت فاينمان يشعر أخيرا بالفخر للعمل الذي أنجزه في ميدان الديناميكا الكهربائية الكمية، بدلا من الشعور بأن دوره اقتصر فقط على تقديم طريقة أنيقة لإخفاء المشكلات وليس لحلها.
لقد أتاح منهج فاينمان العلمي المعروف باسم تكامل المسار للفيزيائيين إجراء فحص منهجي لكيفية تغير تنبؤات النظرية مع تغيير المرء لمقياس المسافة الذي يختار عنده تعديل النظرية كي يزيل آثار الجسيمات الافتراضية ذات الطاقة الأعلى حتى يعيد تطبيع النظرية. ولما كانت نظريات الكم تصاغ، حسب لغته، عن طريق فحص المسارات الزمكانية بصورة صريحة، يستطيع المرء أن يجري «حساب تكامل» (أي جمع للمتوسطات) لأقل ذبذبات تحدث في المسارات الملائمة لتلك المقاييس، ومن ثم يحصر تفكيره فقط في المسارات التي لم تعد تلك الذبذبات موجودة بها.
أوضح الفيزيائي كينيث ويلسون، الذي فاز بعد ذلك بجائزة نوبل، أن هذا التكامل معناه أن النظرية الناتجة، أي النظرية المحددة، ليست حقا سوى «نظرية فعالة»، وهي النظرية الملائمة لوصف الطبيعة عند مقاييس أكبر من مقياس القطع الذي حسب تكامل الذبذبات الصغرى في المسارات عنده.
صفحه نامشخص