اطلبوا الحرية الروحية التي تحصنها الآداب قبل الحرية المدنية التي تتاجر بها الأحزاب، وإن خفي عليكم الفرق بين الاثنتين اذكروا أن حرية الجسد لا تجدي المرء نفعا إذا كانت النفس مقيدة، وإن حرية الفكر والقول لا تغني فتيلا إذا ظلت الروح أسيرة ما اعتاده الجسد من الراحة والترف والرخاء أو الذلة وتعفير الوجه والعياء.
إخواني! إن الفرق بين الحرية الأدبية الروحية والحرية المدنية المادية لهو كالفرق بين حرية السياسي في مراوغاته وحرية البدوي في خيمته أو الرجل الصالح الجريء في معاملاته. أجل إن الحرية الحقيقية هي التي تنشأ في النفس لا التي يمنحها الملك الرعية، فإن هذه تزعزعها الأهواء ويتاجر بها الزعماء وتقتلها رجعات التقهقر الشعواء، وتلك كنز من كنوز النفس الخالدة، والذين لا يناضلون عن مثل هذه الحرية ولا يفادون من أجلها بشيء مما ألفوه من رخاء العيش أو بشيء مما نالوه من المال أو الرفعة والوجاهة فما ضرهم لو دعوا كلابهم أحرارا وذكروا عزت في صلواتهم مرارا، الذين يتنازلون عن حريتهم ويتاجرون بها كما لو كانت ثوبا من الخام أو سهما من أسهم البورص فإن هم إلا قبور متحركة إذ ما الجسد إلا كالقبر لنفس باعت حريتها. ولكني خرجت عن الموضوع.
قلت: إن الآداب التي تجمع بين العلم والدين تكون قوام المدنية الجديدة التي يقرن فيها بين مدنية المغرب المادية ومدنية المشرق الروحية، ولكن آدابنا لم تزل تحت سيطرة المتدينين والمتنطعين، وأنفسنا لم تزل في ربقة رجال الدين، وإن لم نتجرد من هذا الاستبداد الديني، أو بالحري السفسطي كما تجردنا من الاستبداد السياسي تظل آدابنا مبتذلة جامدة خاسئة ونعود بعد حين إلى ما كنا فيه من الفتور والخمول والانحطاط.
خذوني بحلمكم فأقص عليكم بوجيز الكلام قصة لكهان، ونشوء العبادة في قلب الإنسان، لنعد إلى الأكواخ إذا فنحكي هناك شيئا من حكاية أجدادنا الأولين، من المعقولات التي لا تنفيها الإلهيات أو الإلهيات التي لا تنفيها المعقولات.
إن أول دعوة لباها الإنسان دعوة بطنه وشهواته، وماذا يهمنا وقد علمنا هذا فيما إذا كان يمشي على الأربع في تلك الأيام أو على الاثنين، فإن في العالم حتى اليوم كثيرا من الحيوانات التي لا تمشي على الأربع.
هذا الحيوان الناطق إذا لم يكن يفهم في بادئ أمره إلا حديث معدته وحديث كبده، فكان لا يحسن غير الصيد والحرب والأكل والسفاح، وبعد فترة من الزمن مقدارها ألفان قرن أو ألفان عام - لا فرق عندي - بدأ يسمع صوتا آخر من فوق المعدة والكبد، بدأ يشعر بدعوة القلب، فصار يعطف قليلا على أولاده، إن لم نقل أيضا على شريكته، بل جاريته، بل بعلته، وعلى هذا الحال عاش سنين - وللعلماء أن يجمعوا الألوف منها فوق الألوف فإن عدها لا يستحق تعب الفكر - عاش سنين وهو لا يرى ولا يسمع سوى ما زينته له الغريزة وحدثته عنه المعدة.
أولا ترون أن بعض الشعوب اليوم فضلا عن القبائل المتوحشة لم تزل في هاته الحالة المنحطة من الحياة، فإن القوى المدركة لم تظهر فيهم بعد، وفي هذه الفترة الطويلة الأمد نشأت - على ما أظن - العبادات والمعبودات التي كانت في بادئ الأمر مادية محضة؛ لأن هذا الحيوان الناطق بل هذا الصياد الغازي المسافح ما رأى في الأشياء إلا ما ظهر منها، ما رأى في الشمس إلا النور، ما رأى في الشجرة إلا ثمارها وأغصانها وقشورها، ما رأى في النار سوى لهيبها ودخانها ورمادها، ما رأى في الحيوانات سوى ما بدا منها وما ظهر من حركاتها. في تلك الأيام السعيدة كان كل حيوان ناطق يعبد طاغوته ويحب مرمورته على طريقته الخاصة بمقتضى شعوره وهواه عملا بداعي القلب والغريزة.
وبعد مضي أحقاب وهو في هذا الغور من الحب والعبادة ارتقى قليلا إلى ما فوق السهول وبدأ يشغل المخيلة منه حتى صار يرى في الأشياء شيئا تحت القشور وتحت الرماد، وبما أنه لم يدرك أسرارها راح يسلي نفسه بالأشعار ويعللها بالخيالات. وبمقتضى هذا طفق كل إنسان يمثل الخالق في الشكل الذي انطبع في قلبه أكثر من سواه، ولا حاجة لتعداد هذه المعبودات كلها، فلو جئت أعد منها لا أن أعددها لاقتضى ذلك من الوقت ما لا يسمح به المقام. ولكن إذا ذكرنا منها الجعل والشمس فقط نكون قد أتينا على ذكر أولها وآخرها، أوطاها وأعلاها، أصغرها وأكبرها، وحالة الفرد تجاه معبوده في تلك الأيام لم تزل سائرة اليوم في شعوب الأرض كلها وما ارتقى في الأمم سوى الأفراد.
ولكن لنعد إلى أجدادنا أصحاب الأكواخ. لما ظهر في الجماعات أناس أرقى نوعا من إخوانهم وبدا لهم أن الإنسان يرتاح إلى كل غريب عجيب - والزنجي والباريزي اليوم سواء من هذا القبيل - لما علم هؤلاء الدهاة ما للخيال والوهم من السطوة على الأنفس والقلوب؛ قاموا يؤسسون من هذه العبادات ديانات رسمية، فبنوا الهياكل وحاكوا من أوهام الناس طقوسا وطرائق وأقاموا أنفسهم رؤساء في الهيكل وبدءوا يتكهنون ويمثلون الله - أستغفر الله - يمثلون الطاغوت على الأرض.
وهذا - في رأيي - أول ما كان من أمر الوثنية والكهان، واذكروا أن الوثنية لم تزل سائدة في بلادنا والكهان يتعاطون التجارة اليوم في دكانهم القديم. وقد أوضحت كيف كان كل امرئ يعبد طاغوته على هوى قلبه قبل أن يولد الكاهن، ولكن هذا المرمريت - اللفظة وحشية ولكنها في محلها - أول من ألف من هذه العبادات ديانة رسمية فشيدت من أجلها الهياكل ونحتت الأصنام وقدمت الذبائح والقرابين، وتسربت إلى بيت صاحبنا المتكهن العطايا والأموال، وذلك قبل أن يظهر في الأرض الأنبياء الذين هم أعداء الملوك والكهان، فاذكروا هذا ولا تنسوه. إن الأنبياء لأعداء الظلم في الملك والرجاسة في الهيكل والفساد في الجماعات.
صفحه نامشخص