علي أن أقتبل ما يقابلني من الصعوبات في مسالك الحياة باشا جادا ثابتا صابرا متجلدا، علي أن أناهض الفساد والضلال في الناس وألا أكره أحدا من الناس، أود أن أعيش دون أن أبغض أحدا، وأحب دون أن أغار من أحد، وأرتفع دون أن أترفع على أحد، وأتقدم دون أن أدوس من هم دوني أو أحسد من هم فوقي. هذي هي سنتي وللغير أن يتخذوا لهم سنة توافقهم، للغير أن يسلكوا ذات المسلك إذا شاءوا واستطاعوا، ليس من شأني أن أتداخل في شئونهم ولا أن أرشدهم - منذرا - أو أعظهم - متأمرا متهددا - علي أن أعيش صادقا مسالما مستقيما وللناس أن يعيشوا كما يطيب لهم.
لا أحب أن أنصح أحدا متى كانت نصيحتي بنت فكرة زائلة لا بنت حقيقة دائمة. ولا أن أنضم إلى حزب من الأحزاب، أو طائفة من الطوائف، أو جمعية من الجمعيات مهما كانت صبغاتها، ومهما تسامت غاياتها، ولا أن أساعد أحدا لا يعمل في مساعدة نفسه. وإذا كان في ما يلهم الناس إلى الخير ويرفعهم درجة واحدة في سلم الرقي العقلي أحب أن أظهره بالمثل والإشارة واللطف لا بالإنذار والوعيد والتأمر. أحب أن تشع حياتي ولا أحبها أن تفرقع، أحب أن تكون كأحد الكواكب السماوية لا كسهم من الأسهم النارية.
أمين
بيروت في أول أيار سنة 1910
الخطب
(1) في العزلة
1
جاء في الأمثال: إن في الحركة بركة وليس فيكم - على ما أظن - من يجهل ذلك، ليس فيكم من ينكر صحة هذا المثل السائر ولا يعمل به، وأما هذا الفقير فإنه لا يعتقد بصحته ولا يعمل بموجبه، وقد خطر لي منذ سنين أن أعكس الآية وأجري على ضدها، فقلت: إن كان في الحركة بركة ففي الفلوات بركات، وفي القعود سعود، وفي الهدو نمو وسمو. وأشياء أخرى من هذا الباب.
ولا يخفى عليكم أن في هذه الأمثال حكمة تختلف عن حكمة المثل السابق، بل تختلف اختلافا جوهريا يحاكي اختلاف النفس عن الجسد، فالحكمة فيها روحانية معنوية وحكمة من يقول: إن في الحركة بركة حكمة مادية عملية تجارية؛ لذلك آثرت الأولى على الثانية، فأوقفت عملي وخرجت من الوسط المضطرب لأفكر قليلا في ما أنا فيه لأرى أين أنا من نفسي ومن الله، وحقا إني تألمت لما وقفت متأملا، تألمت لما رأيتني قريبا من الناس بعيدا عن نفسي وعن إلهي، فتركت الحركة والبركة للعمال ولبني الأشغال وسلكت في نور الحكمة والحقيقة مسلكا جديدا.
وهذه حالة لا بد منها لكل من تنبهت فيه الروح، هي طور من أطوار الفيلسوف الأولى، هي أول ريشة في جناح الشاعر هي أول حادثة خطيرة في حياة الأولياء والأنبياء، هي أول عقدة روحية عقلية يعجز عن حلها أكثر المفكرين. وجدت نفسي في هذه الحالة متألما متحيرا مترددا. تألمت كثيرا لما رأيتني في الغربة بين شعب لا يعرف معنى السكينة ولا الراحة ولا الجمال. وجدت نفسي في بلاد فيها الحركة دائمة متواصلة، وأما البركة فيقال فيها ما يقال في بعض الأمراض إنها حادة متقطعة.
صفحه نامشخص