نعم إن هذا المترسل الإفرنسي كأبي النواس في حيله ودخمسته. وكثيرا ما كانت تظهر بطانة ثوب الإخلاص الذي كان يلبسه، ويا لها من بطانة. ومما هو معروف أن الرجل مشهور بكتاباته في الحرية الدينية، ولكن حريته كانت مفتقرة إلى التساهل الشامل الذي ندعو إليه.
كان يعتقد فلتر بأن الدين الإسلامي دين فاسد وألف رواية تمثيلية دعاها «التعصب» وأهداها إلى البابا - بعد أن كان قد اشتهر بعداوته للكنيسة وأربابها. مفتتحا كتابه بهذه الكلمات:
إلى رئيس الديانة الحقيقية أهدي هذا التأليف في مؤسس ديانة فاسدة ... إلخ.
فقبل البابا الهدية بكل سرور وبعث إلى فلتر كتابا لطيفا أثنى فيه على غيرته (بخ بخ) وانتقد بعض أبيات في الرواية الشعرية فأجابه فلتر متجاملا على عادته في مثل هذه الأمور: إنك لا شك معصوم عن الغلط في المسائل الأدبية أيضا (زه ثم زه).
وهكذا تبادل الاثنان عواطف الولاء الكاذب وانتصر فلتر على أعدائه اليسوعيين وأنصارهم. لا يخفى على القارئ اللبيب ما في هذا العمل من السياسة والحيلة والمكر، ناهيك بأن الكاتب أخطأ في انتقاده الدين الإسلامي، وفي تحامله المنكر على مؤسسه العظيم.
لا شك أننا تقدمنا قليلا في الأدبيات كما تقدمنا كثيرا في الماديات، ودليل ذلك هو أن فلتر زماننا لا يتطاول على الإسلام ولا على الوثنيين لغايات دنيئة، تولستوي لا يتخذ الحيلة ذريعة لينتصر على أعدائه، وهل تظن أيها القارئ بأن البابا الحالي يقبل أن تهدى إليه رواية فيها يطعن المؤلف على دين من الأديان. أنا لا أظن ذلك، ولكن إذا كان تساهل فلتر ناقصا فتساهلنا لم يكمل حتى الآن، فقد خطونا خطوة صغيرة نحو التوفيق التام والمحبة الشاملة والسلام السابغ. نعم خطوة صغيرة فقط.
جان جاك روسو
ومن لا يعرفه إن لم يكن حق المعرفة فبالاسم على الأقل، ألا يحذرنا الكهنة في المدارس منه، ألا يحاولون خارجها إبعادنا عنه، فهم الذين يرغبوننا بالاطلاع على كتبه إذا وبورود موارد علمه وأدبه. ومن انقلابات الطبيعة على من يخلون بنواميسها هو أن حب الممنوع والميل إلى المحرم يفوزان أبدا على إنذار ذوي المآرب وتحذيرهم. وليست غايتي الآن كتابة رسالة مستوفاة، منسقة تنسيقا مقسمة أقساما، ذات مقدمات ونتائج مربوطة الواحدة بالأخرى.
ليست غايتي الخوض في تآليف روسو وفلسفته والبحث في علمه ومبادئه وآدابه. ليست غايتي سرد سيرة حياته وتسويد هذه الصفحات بالتواريخ والأزمان. وبأسماء أعدائه من أدباء وعلماء وحكام، وبوصف خليلاته الكثيرات من الأشراف والعوام، لا، لا. إني أترك الآن ذلك لغيري من الكتاب فصديقي العالم جرجي زيدان مثلا يوفي روسو حقه في باب مشاهير الرجال، إذا لم يكن قد فعل ذلك، أما أنا فما تعلمت حتى الآن أن أكتب ما يليق بدائرة المعارف.
وما غايتي إلا كتابة بعض السطور عن روسو الرجل لا المؤلف، فالذي يمعن النظر في سيرة حياته ويدقق الفكر في تآليفه يرى أنه «كان يظهر حقيقة ما يعلمه بما يعمله» يرى بين خروجه عن المألوف بالقول وخروجه عنه بالفعل كثيرا من التناسب والتقارب، كان روسو نقيض فلتر من هذه الوجهة بيد أنه في حداثته كان يعجب بزميله الشهير ويدعو نفسه تلميذه، وفي غضون ذهاب فلتر بالشهرة كان جان جاك روسو من جملة أولئك الشبان الذين قرءوا كل ما نشره ذلك النابغة الداهية بلهفة لا مثيل لها وكانوا يفاخرون بكونهم من أنصاره، كان روسو في ذلك الوقت شابا خليعا لئيما متبذلا له من الجرأة والإقدام ما له في كل الأمور ما عدا ما تعلق منها بمجالسة السيدات ومسامرتهن، كيف لا وقد درس الموسيقى بضع سنين وهو لا يعرف من هذا الفن إلا بقدر ما كان يعرف فلتر من علم الفلك.
صفحه نامشخص