أنا قنوع من جهة مادية أرضية، ولكنني غير قنوع من جهة روحية سماوية. روحي تطلب أكثر من معدتي في الأحايين، وعقلي يطلب الآن أكثر من حواسي، وبما أن كلامنا هو عن السعادة الحقيقية الروحية يجب أن نتكلم عن الفلاسفة والحكماء؛ إذ لا سعادة حقيقية إلا في الحياة البسيطة النقية التي عاشوها. ويجب أن نذكر بأن في العالم طبقة كبيرة من البشر ممن لا يفكرون أبدا في السعادة، هؤلاء الناس يكدون ويأكلون وينامون كأجدادهم الذين عاشوا في العصر الذي عاشت فيه الحلقة المفقودة.
المجد الذي يجده القائد في انتصاراته زائل، والشهرة التي يتطلبها الكاتب زائلة، والسعادة التي يجدها الفتى في ماله لا تدوم، والسعادة التي يجدها الفقير في قناعته ومحبة أهله هي سعادة كاذبة ضيقة النطاق تزول إذا صار الفقير غنيا أو تنتهي إلى الرضوخ والعبودية إذا ظل فقيرا، والسعادة التي يجدها العاشق في عشقه هي غالبا سم قاتل.
إن طريق المحبين ملطخة بالدماء، أما السعادة الحقيقية هي التي يجدها الصانع في صنعته على الإطلاق، أي: أن المصور مثلا يلتذ في صورة جميلة صورها، ولكن لذته هذه أيضا لا تدوم فلربما شغف المصور بصورته مدة أسبوع أو أسبوعين أو شهر أو شهرين، ولكن متى زالت هذه العاطفة زالت السعادة فعليه إذا أن يداوم العمل، أن يلاحق التصوير، أن يصور صورة أخرى لتبقى لذته في عمله متواصلة. وهذه اللذة المتواصلة هي عندي السعادة بعينها.
إني أعرف - حق المعرفة - ما في الحب الجنسي من اللذة، فلا تحدثني عن النساء، بل قل لي لو داوم المحبون التواصل كما يداوم المصور التصوير أو الشاعر النظم ماذا يا ترى تكون النتيجة.
وماذا يعني المعترض في قوله إن تنازع البقاء ينفي القناعة والزهد وشظف العيش، وماذا يعني في قوله: إن جهاد الحياة وتطلب المعالي يقفان في طريق من عاش عيشة الزهد، ألم تأت الشهرة أولئك الفلاسفة الذين ذكرهم رغم قناعتهم وعيشتهم البسيطة الفلسفية. قد وجد أولئك الحكماء سعادتهم في عملهم لا في نتيجته المادية، وجد ملتون قسما كبيرا من السعادة الأرضية في نظم تلك القصائد الشائقة ولكن بيعها إلى الطابعين ما كان إلا ليكدره ويحزنه، نسي ملتون همومه أثناء نظمه، ولكنه لما انتهى من قصيدة «الفردوس المفقود» وباعها بقيمة زهيدة من المال - بخمس جنيهات فقط - عاد فنظم ونظم ونظم، وهكذا كان يسلي نفسه في عمله لا بنتيجته المادية، كان يقاتل الدهر في مداومة النظم والإبكار، وهكذا قل عن أبي العلاء وكثير من الشعراء.
يظهر لي بأن الصحافي المعتزل مهتم كثيرا بجمع المال في هذه الأيام؛ ولذلك يكثر من ذكر الأرباح الطائلة والجهاد في الحياة. أما أنا فلا أرى في مواصلة مثل هذا الجهاد شيئا من الحكمة. والغاية من الحياة هي أسمى من أن نحددها بالدرهم والدينار ونحصرها بالأصفر الرنان والدولار. إن الغاية الفضلى من الحياة هي أن يعيش المرء باتفاق تام مع الطبيعة ونواميسها. وماذا تجلب المعالي الدنيوية غير المجد الباطل، فلنطلب العلاء الذي تتطلبه النفس، العلاء الذي يجعل الإنسان مدركا ما في الطبيعة من المناقضات والمؤتلفات، من البشريات والإلهيات. العلاء الذي يهمس بأذنك بأنك قسم مفيد من هذا الكون العظيم مهما كانت منزلتك منه ومكانتك في أهله.
إن تمدننا الحالي متوقف على مداومة العمل ليل نهار، ولكن - بعيشك - قل لي ولم هذه الحركة الدائمة؟ هل فيها قيراط من السعادة الحقيقية إذا نسبت إلى واحد في الألف من الفقراء الذين يكدون ويجاهدون ويعرقون دما ليحصلوا معاشهم؟ هل فيها قيراط من السعادة الحقيقية لأولئك الأغنياء الذين يجمعون الأموال الطائلة ويموتون في الجهاد بائسين.
أنا أكره كل هذه الحركة كرها شديدا، التمدن الحالي يمنع الناس من أن تفكر وتأكل وتنام على ما يقتضي، وعندي أن نظام الأسبوع يجب أن يتغير كل التغيير، يجب أن يقلب ظهرا لبطن، يجب أن نخص يوما واحدا بالعمل وستة أيام بالراحة، وليست الراحة التي أطلبها راحة الفيل وهو نائم في فيء صخرة في الصحراء، بل هي الراحة التي يجدها الفيلسوف في درس الطبيعة وفي التأمل، هي الراحة - لا بل السعادة - التي يجدها الشاعر والحكيم والمصور والنقاش والعالم في دروسهم وابتكاراتهم، هي الراحة التي تمهد السبيل إلى ما وراء هذا الكون، إلى العوالم غير المنظورة، إلى الله.
السعيد من جعل فكره مرآة للطبيعة، السعيد من عاش حياة فكرية روحية حسية شعرية لا حياة أرضية مادية محضة، هذا هو الرجل الغني بالعقل والروح، هو يعطيك مال العالم بأسره لو ملكه ويخرج إلى البرية ليمتع هناك بكل ما أعدته الطبيعة لبنيها الروحيين، أنا إذا مشيت تحت المطر أعتبر كل نقطة منه مرسلة لي وحدي، فأقتبلها بيد الروح وأعيدها بذات اليد إلى الأرض وإلى البحار التي أعود أنا أخيرا إليها، وبيد الروح أصافح الآن القارئ، إسكافا كان أو شاعرا، وأسأله أن يذكرني ساعة يضع جانبا أدوات صناعته وينظر إلى عمله بعين الرضى والسرور والابتهاج.
بيتان للمتنبي
صفحه نامشخص