الصالحون - وإن قلوا - موجودون في كل مكان في بلاد الظلم والاستبداد تجدهم كما في بلاد الحرية والاستقلال، والحكماء وإن ندروا ينشئون في تركية وروسيا كما في فرنسا أو في الولايات المتحدة، وفي أي مكان كانوا يعيشون راضين قانعين؛ لأنهم يعيشون حقا أحرارا، والحكومة الاستبدادية مثل الضبع تتركك وشأنك إذا تجنبتها وإذا انتهرتها واعترضتها تفترسك.
غير أن حرية الصالحين والحكماء لا تلبس القبعة الحمراء، ولا تصيح من على المنابر، ولا تحفر تحت عرش السلطة لحزازات في الصدر أو فراغ في الكيس أو خلاء في المعدة، حريتهم تعيش في القلب مع الحكمة ساكتة وتفعل فعلها هادئة، وهم مثل حريتهم يعيشون في قلب الأمة هادئين ويبثون في سائر أعضائها نفوذهم الحسن وعطر نفوسهم الشريفة إن حريتهم لروحية؛ لأنها تنزع من النفس قيود التعصب والتحيز الأعمى قيود الطمع والمجد الباطل قيود الأهواء والشهوات، ولعمري إن تعليم المرءوس الحكمة والعدل والفضيلة لخير من التنديد بالرئيس وظلم أحكامه؛ لأنك إذا خلعت الظالم وظل الشعب جاهلا يتبوأ العرش بعده ظالم آخر بيد أن تهذيب الشعب وتعليمه ومعرفته حقوقه وواجباته تضعف الحكم الاستبدادي وتلاشيه بالتدريج تماما.
أما فعل الحرية في تكييس أنفس الرجال وفي تهذيب الأخلاق وترقية الشعور فما هو قوي بقدر ما كنا نظن بل هو ثانوي بالنسبة إلى عوامل الوراثة والفطرة والمعاشرة والتهذيب، وما الحرية المعروفة في أوروبا وأميركا اليوم سوى سلاح للأحزاب السياسية والخطباء والصحافيين، هو سلاح يقاتل به المنافق أحيانا منافقا آخر واللص لصا آخر وأحيانا تستله رجال الفضل بعضهم على بعض، وأحيانا ترفعه الحكومة على عصابة من الفعلة محافظة على امتيازات الأفراد أو سلبا لحقوق زعماء الأحزاب الضعيفة في البلاد.
إذ ما الحكم في الجمهورية إلا طاعة تقدمها الأحزاب الضعيفة للحزب القوي أو الأقلية من المصوتين للأكثرية؛ لأن قوة الجيش ليست بجانبهم فالأكثرية إذا تسلب الأقلية حقوقهم لتتمكن من الحكم، وتفعل ذلك بالقوة المعطاة لها لا من الشعب كله بل من قسم منه فقط، وهذا هو الباب الذي يدخله المصلحون السياسيون فيمزقون رئاتهم المعتلة وهم يصيحون «حرية الشعب، حرية الشعب» ولكن الحرية لا تجعل الشعب الجاهل شعبا مهذبا مستنيرا.
الحرية وحدها لا تصير المرء رجلا حتى ولا التجارة ولا المستعمرات تكسب الحكومة مجدا والأمة شرفا إذا لم يكن في الحكومة رجال صالحون، وفي الأمة رجال حكماء.
أما انتصار هؤلاء السياسيين للمستضعفين والمظلومين فهو في هذه الأيام خير واسطة للتوصل إلى منصات الأحكام إلى المراكز المثمرة العالية، ولكن لو فتشت في تعاليمهم السياسية وفي نهضاتهم ومشاريعهم الإصلاحية عن ذرة من الضمير الحي والإخلاص أو عن شيء يسير من الغيرة المجردة عن المنفعة الذاتية لما وجدت ذلك، يلزمنا صلاح لا إصلاح، الصالحون وأمثالهم الحسنة قبل المصلحين وجربذتهم والدجالين وعقاقيرهم.
المصلح في هذه الأيام هو قوة بخارية لتحريك هذه الآلات الصماء التي تدعى: شعبا، بل رجالا، آلات تجارية وآلات عسكرية وآلات صناعية وآلات ثوروية، وكلها مركبة من دماء زكية ولحم وعظام بشرية، كلها تتحرك عملا بهذه القوة الخبيثة الدافعة وتفني نفسها بالفرك الدائم بالعمل المتواصل بالكد والنصب بالمساعي الباطلة المهلكة بالنهضات الغير مفيدة، تفني نفسها لا من أجل نفسها بل من أجل أصحابها وأسيادها الصارخين دائما وراءها وأمامها: «إلى العمل إلى العمل» فقد صمت آذاننا من صراخ الداعين إلى العمل ومن ضجيج أصحاب الأشغال، كأن الأموال المتكردسة تصير صاحبها إنسانا، كأن العرق على جبين هذا المخلوق الراكض على مؤخريه يجعله رجلا! لو صح ذلك لكان البغل من كبار الرجال، البغل يحمل الأحمال الثقيلة من السواحل إلى أعالي الجبال دون أن يفاخر ويتبجح. أما إذا تبادر لذهنك قول القائل «بعرق جبينك تأكل خبزك» فاذكر أن هذا المخلوق الصبور يأكل شعيره بعرق جبينه أيضا، وأكد أن الملايين من الناس الذين يعرقون دما اليوم لا يموتون جوعا إذا لم يعرقوا غدا.
لا ينبغي للإنسان أن يقتل روحه ليفثأ جوعه، والذين يملئون بطونهم فقط ولا يشعرون بألم روح جائعة ولا يسمعون صراخ طفل في القلب يطلب الغذاء فلا أظنهم يستحقون الشفقة إذا عرقوا كالدواب والثيران، اشغلوا هذه العضلات واملئوا هذه المعدة، فالروح لا تطالبكم بشيء - ماتت الروح جوعا، وأما ذاك الذي لم يزل في روحه التي تميزه عن الثور والبغل رمق من الحياة ذاك الذي نفخ الله فيه نسمة إلهية وخلقه على صورته تعالى ومثاله فهل يجوز أن يعرق في سبيل شركة احتكارية أو من أجل جمعية إصلاحية أو تأييدا لحكومة استبدادية؟
لا، حتى ولا ينبغي أن يعرق في سبيل معدته وامرأته وأولاده، العرق في الحمام أو في سرير اللذة أو على فراش الحمى أو في سبيل السرور والصحة - كل ذلك يطاق كل ذلك لازم ومفيد، وأما العرق من أجل الرغيف - ولا فرق إن أكلها الفاعل أو سلبه إياها سيده - فلا يجوز ولا يلزم ولا ينفع ولا يطاق، ولكن فلسفة السياسيين البغلية متأصلة في قلوب الغربيين والبغل من أبطال هذا الزمان، ولا عجب إن أضافوا إلى أصنامهم العديدة صنما آخر فإن بين البعل والبغل شيئا من الشبه والقرابة، النقطة فوق العين لا تفرق بين الاثنين. أعوذ بالله من أصنام هذا الزمان ومن آلاته البشرية، أعوذ بالله من طواحين هذا التمدن ومن حجار رحاها، أعوذ بالله من هذه التعاليم السياسية التي تصير الإنسان بغلا والبغل إنسانا بل بطلا بل إلها.
شهداء العلم
صفحه نامشخص