دفناه في الصباح متأسفين كثيرا عليه، وقلما تأخذنا عاطفة الأسف والحزن ونحن تحت هطل المدافع ولهيب النار، ولكننا تأسفنا كثيرا على علي بابا، وإني لأحزن يا موسيو كلما فكرت به، وذاك المشهد الهائل وهو قابض على رأس الألماني بلحيته يلوح به في ضوء القمر، وتلك الضحكة المرعبة ضحكته، لا أنساهما حياتي، ولا أنسى صديقي السوري ... سأحتفظ بهذه الصورة يا موسيو، كان سليم خفيف الروح، لطيف المعشر، وكان شجاعا، حبذا لو كان لي يا سيدي أن أضحي بحياتي من أجل سوريا كما ضحى علي بابا بحياته من أجل فرنسا.
الحق والقوة
قيل: إن الحق يعلو ولا يعلى عليه. وقيل أيضا: إن الحق للقوة. وفي كلا القولين شيء من الخطأ وشيء من الصواب، في كلا القولين قياس لسلوك الناس والأمم يرعى ويلغي عملا بما يسود الحياة من المطامع المادية أو الروحية. ففي القول الأول حقيقة سامية نصفها ظاهر جلي، ونصفها غامض خفي، نصفها دائم أزلي، ونصفها يتغير ويتلون تبعا للزمان والمكان، ووفقا لمطامع أولي الأمر والسيادة. مثل ذلك: أنا كلنا نقول بإقامة الحق وتعزيزه. هذا هو النصف الأول الجلي من الحقيقة الدائمة، ولكننا لا نتفق كلنا دائما على معنى الحق، وهذا هو النصف الثاني الخفي من تلك الحقيقة. النصف الذي لا يدرك إلا ما ظهر منه، ولا يظهر إلا ما كان منه موافقا لمصالح أشياعه.
أما القول الثاني: الحق للقوة. فالنظر فيه يتوقف على النظر في تاريخ صاحب هذه القوة، فردا كان أو أمة، وفي الغرض الذي من أجله تستخدم تلك القوة. فإذا كانت مثلا تستخدم دفاعا عن ضعيف مظلوم، أو عن حق مهضوم؛ كان الحق فيها ولها ظاهرا لا يختلف في صحته اثنان. وإذا استخدمت في سلب أشياء الناس، ونهب بلادهم ، واستعباد الشعوب الصغيرة، وهدم معاهد العلم والكنائس، فتلك قوة وحشية بربرية لا يقوم في جانبها حق، ولا ينشأ عنها غير الإثم والضلال.
على أن الحق الذي لا يعلو ولا يعلى عليه إنما هو من الكمالات، إنما هو أمنية من أماني النفس السامية، وقد يتحقق كله أو جزء منه في زمن من الأزمنة وفي شعب من الشعوب. يتحقق وا أسفاه! إلى حين؛ إذ من حقائق الوجود المؤلمة المحزنة أن الكمالات إذا وضعت موضع العمل لا تلبث أن يفسد شيء من كنهها فتمسي في حاجة إلى الترميم والإصلاح، مثل ذلك في تاريخ الأمم دعوة النبي محمد إلى الإسلام، ودعوة الثورة الإفرنسية الأولى إلى الحرية، فلولا القوة لما انتشرت الأولى في المشرق والمغرب، ولما تكللت الثانية بالنصر في أوروبا جمعاء.
ولكن كمالات النفس والاجتماع كالجواهر الغوالي، إذا تمتع بها الإنسان، وتحلت بها الأمم، يذهب شيء من رونقها وجمالها، فتحتاج إلى الصقل والإصلاح من حين إلى حين.
الزمان والإنسان أفسدا العمل برسالة النبي وبرسالة الثورة الإفرنسية، فاستولى على الإسلام الجهل والخمول، واستولت على الحرية السيادة المطلقة والمصالح المادية. ولكن في كلتا الرسالتين - رسالة النبي محمد ورسالة الثورة الإفرنسية - جوهر الحقيقة الأزلية الإلهية، فلا يدوم استيلاء الجهل والأطماع عليهما طويلا حتى يهب أبناء من قاموا بتلك النهضتين العظيمتين ليعيدوا إلى الإيمان الطهارة والعز، وإلى الحرية الصولة والمجد.
وهذا معنى الحرب اليوم في أوروبا ومعنى الثورة اليوم في بلاد العرب، تداعت أركان الحرية في أوروبا لعوامل اجتماعية وسياسية ليس من شأننا الآن البحث فيها، فتغلبت عليها في إحدى ممالك الغرب السيادة المطلقة بل السلطة العسكرية، وغرها الطمع فقامت تهدد الحرية في أوروبا جمعاء، ولكن فرنسا - مهد هذه الحرية وحامية ذمارها - وثبت ثانية وثبة الأسد، فاستلت سيفها الباتر، وحشدت جنودها الأباسل، لتنقذ من براثن الألمان أشرف مبادئ الاجتماع وأعظم ركن من أركان الحكومات الدستورية الحرة، ففي هذه القوة المجيدة التي أظهرتها فرنسا حق يعلو ولا يعلى عليه.
وتداعت أركان الإسلام في المشرق والمغرب من خمول استولى على شعوبه، وأطماع استحوذت على أمرائه وأعلامه، فاغتنم الترك هذه الفرصة لاستخدام ما بقي من قوة فيه لمآربهم الذميمة وأغراضهم الأثيمة. فنهض العرب في البقاع المقدسة نهضة الأشاوش بل نهضة أجدادهم الكرام أنصار النبي لينقذوا الإسلام من مطامع الأتراك وجورهم، ويلبسوه ثانية حلة العز والمجد والسيادة، وفي هذه القوة التي أظهرها العرب حق يعلو ولا يعلى عليه.
فلو لم يكن للإفرنسيين وللعرب قوة تناضل عن الحق الذي هو إرثهم الروحي وتعززه لظل هذا الحق أمنية من أماني النفس بل نظرية من النظريات لا أثر لها في سلوك الناس يذكر ولا فائدة منها للأمتين.
صفحه نامشخص