وبكلمة أوضح: من أعمال الناس ما تنحصر فائدتها في أصحابها فقط، ومنها ما يلحق الغير بعض فوائدها. وقد يندر اليوم العمل المجرد عن كل مأرب نفسي أو غاية ذاتية، العمل الذي فيه نكران الذات، وصافي المبرات. أما نكران الذات ففكرة قتلها التمدن الحديث. وأما صافي المبرات فلا تجدها اليوم سوى في كتب الأقدمين وسير القديسين.
وقفت عند كتابة ما تقدم لأشعل القنديل، فوقع نظري على كتاب كنت قد طالعت الليلة البارحة فصلا منه أزال من نفسي مفعول ساعات في أحد الملاهي. الكتاب للقديس إفرنسيس الأسيسي وفيه من جميل أعماله، وعجيب كراماته، ولطيف سيرته، ما قد يضحك رجل اليوم المفاخر بروح العصر، المكبر نفسه، العامل إطلاقا لها. ولكنه ينعش ويبهج من لا يزال في قلبه شعلة من الإيمان.
فتحت الكتاب وقرأت فصل العشرين منه وفيه أن إفرنسيس الأبر ذهب يوما إلى الغاب خارج المدينة ليقابل الذئب الذي كان يغشوها فيقتل من أهلها ويخرب من أعلاقها فالتقى به وهو قادم البلد يطلب فريسته. فكلمه باسم الرب والسيد المسيح وخطب وداده، وأمره أن يرعوي عن غيه، وهداه فوق ذلك إلى الدين المسيحي! قرأت القصة ولبثت برهة بين مصدق ومكذب، بين مؤمن ومرتاب. وأظنني ضحكت منها في قلبي إذ ألقيت الكتاب جانبا لأعود إلى ما باشرت من هذا المقال.
جمح القلم في يدي إذ جلست إلى المنضدة أفكر في أسلوب لكتابة ما خبرته في يوم سبق من أمر الشحاذة. ولا أكتم القارئ أني شحذت يومين من أجل المنكوبين في بلادنا وقد علم أني صمت من أجلهم يومين أيضا. ولكني لم أصم على طريقة الأبرار والقديسين. وهذا ذنبي. عملت عملا لا شك أنه صالح ومفيد ولكني شوهته بمقالة أعلنته فيها، فألفت أنظار الناس من عملي إلى نفسي. على أني أتعزى بكلمة للإمام علي - رضي الله عنه - «سيئة تسوءك خير عند الله من حسنة تعجبك.»
لماذا إذا أعيد اليوم فعلة أخذني فيها شيء من الندامة؟ ما الدافع إلى الكتابة؟ العجب، الشهرة، المجد الباطل؟ لا أنكر ولا أدفع ما نالني منها. إلا أني لست وحدي المسئول عنها؛ إذ لو كان لي أن أتنكر لفعلت. ولو جاءني جني بالقبع الأخفى للبسته وخرجت أشحذ لوجه الله. وهل أكون راضيا تمام الرضا بالتنكر وما فيه من نكران الذات يا ترى؟ سؤال لا أستطيع الجواب عليه؛ لأنني لم أخبر حقيقة أمره، وقد لا يأتي بالفائدة التي أتوخاها.
وهل في الكتابة في الشخاذة الآن شريف قصد أو كبير فائدة؟ لست أدري. ألا تدري؟ إذن لا تكتب. إن شر ما يسوده ويبيضه الكتاب اليوم مقال لا يقين ولا اعتقاد فيه.
سمعت هذا الصوت خاشعا وقلت: طوعا وكرامة. إذن لا أكتب. وإذ هممت بتمزيق ما سودت من الأوراق طرق الباب طارق ففتحت فإذا هنا شيخ طاعن في السن، نحيل الجسم، بهي الطلعة، في ناظريه ضياء وهاج، وعلى فمه ابتسامة جميلة، وهو يستأذن بالدخول.
دخل وجلس على الديوان، فجلست على كرسي قباله قائلا: أيتفضل حضرة الزائر باسمه وقصده.
فقال - والابتسامة تنير وجهه: رأيتك البارح في الشارع يا ريحاني ورافقتك متنكرا. - أمر عجيب! - عجيب في نظرك لا في نظري. وقد سمعتك الآن تناجي نفسك وتناقشها الحساب.
فأدهشني بل هالني كلامه فاستحوذ علي السكوت.
صفحه نامشخص