196

أقفلت الباب ونزعت ثيابي وأنا هدف لمثل ذي السؤالات ثم أطفأت الشمعة وسرت إلى السرير هائج النفس، أعللها بالنوم، ولكني توسدت الأرق، وأنا أسمع خرير الماء في فناء الدار، وأرى منعكسا على الحائط نقطا من النور الذي دخل مكسرا من ثقوب الباب. وما هي إلا هنيهة حتى بدأت تلك النقط تمتد فاتصل بعضها ببعض وأصبحت كالدائرة وهي ترتج وتتحرك على الحائط، نهضت من السرير لأرى ما في الدار، أو من فيها، فتحت الباب وخرجت مستكشفا فإذا هناك مستنبتات الزهور والشاذروان والأقفاص والعصافير فيها نائمة، ولا نور غير ما يشع من المصباح في الإيوان، عدت إلى غرفتي، وأنا أظن أن ما بدا لي إنما هو وهم مني أو خدعة البصر كما يقال، فإذا بالنور، بعد أن أقفلت الباب قد أحاط بالكرسي كالهالة واستحال دفعة واحدة شخصا هيوليا، بل رأيت جالسا أمامي شيخا جليلا يشبه الشيخ صاحب البيت إلا أنه لابس جبة وعمامة.

ذعرت لأول وهلة وهممت بالخروج، فسارع مطمئنا وقال باللغة العربية: السلام عليكم، فقلت: ورحمة الله وبركاته، أيتفضل سيدي الشيخ باسمه الكريم، فقال: ابن رشد يدعو لكم بالخير وطول البقاء. - أبو الوليد؟ - أبو الوليد ابن رشد بعينه. - ولم استحققت من فضلكم ذي الزيارة؟ - فكرت يا ريحاني، وحرت، وسألت، فجئت أجلو فكرك، وأزيل حيرتك، وأجيب سؤالك. - غمرتني والله بفضلك. - الفضل لذويه أرباب الفكر والرؤيا، ولست اليوم منهم.

قال ذلك وهو يهز برأسه كمن تهيجه فتؤلمه الذكرى. - ولكن زيتك يا سيدي لم يزل يحرق في مصابيحهم. - نعم في مصابيح الفرنجة، لا مصابيح العرب، والسبب في ذلك أن قد امتزج بزيتنا شيء من الماء، كثير من الماء، ولم يحسن العرب تصفيته مثل الفرنجة، أجل، قد خالط علومنا كثير من الخرافات والتقاليد والأوهام، نظرنا إلى العالم خلال ستار هو الإسلام، كان شفافا باهرا في الأحايين كحالة قرطبة في عهد بعض الأمويين، فترائت لنا أشياء من حقيقة الوجود والكون طلية بعضها، وبعضها غامضة أو مقطعة، فاستخدمنا منها ما استطعنا، وأهملنا منها - كرها أحيانا وجهلا في الأحايين - ما خالف قواعد الدين، لا يخدعنك ما تقرؤه في التاريخ عن تساهل الخلفاء في الأندلس وحلمهم، فإنهم - ما خلا اثنين أو ثلاثة - آثروا الملك على العلم، والسيادة المطلقة على الحرية والعدل، وكان أكثر العلماء والشعراء يأتمرون بأمرهم فيتزلفون إليهم، فجاء علمهم ناقصا بل مزيجا من العلم والخرافة والخيال.

وكان الفيلسوف الحقيقي مكروها فجارى حينا، ودارى أحيانا؛ اتقاء سيادة مطلقة، جائرة، عمياء، ولا شك أنك تعلم ما كان من إحراق الكتب في هذه المدينة في عهد المنصور، ثم في عهد أولئك البرابرة المرابطين، حتى إن أحد قضاة قرطبة، ولا أشرف بالذكر اسمه، أصدر فتواه بإحراق كتب الغزالي، وحرم قراءة (إحياء العلوم والدين) مع أن الغزالي من أكبر المزاجين، هذه أحد الأسباب في سقوط الملك العربي في الأندلس.

وهناك أسباب أخرى منها ما ذكره عرضا المؤرخون، فاذكر - رعاك الله - أن في أوائل الفتح، أي: منذ دخول طارق إلى مجيء عبد الرحمن الأموي، كان الخليفة في الشام يعين عامله على الأندلس حينا، وحينا يجيز لوالي إفريقية أن يعين من يريد من رجاله. فكان العامل تارة من قبل الخليفة رأسا، وطورا من قبل واليه في إفريقية، وطورا من قبل نفسه.

وهذا ما مكن في الطامعين بالملك روح القومية أو العصبية، وهي جرثومة خطل جاءت من الشام، فنخرت في عرش السلطان فزعزعته ثم هدمته. فلا الدين، ولا اللغة، ولا الخطوب السياسية، أزالت شيئا من العصبية أو لطفت في الأقل سورتها. وقد كنا في ذلك الزمان نظن أن لا خير في العصبية التي لا تكون اللغة أو الدين ركنا من أركانها، لا خير فيها لشعب ناهض، نشيط، طامع بالسيادة والاستيلاء، ولكننا نعلم اليوم أن الأديان في الملك كالقبائل في البادية، تولد تلك الروح الخبيثة المحدودة النظر والغاية، تلك الروح التي لا ترى في غير شئونها، وفي غير إيمانها، وفي غير عاداتها وتقاليدها، وبكلمة، في غير دائرتها المحدودة الصغيرة؛ ما يستحق الذكر والاهتمام، بل ما يستحق غير الازدراء والكره، والذم والاضطهاد. فلا خير في العصبية دينية كانت أو جنسية. - وهل يرى سيدي الأستاذ خيرا في عصبية كبرى تجمع بين عصبيات أكثر الناطقين بالضاد مثلا؟ - إذا كان ذلك ممكنا فهو غير مستحسن اليوم وغير مفيد بل قد يضر ضررا جسيما، ففي ضخامة الملك العربي استبداد (قابل بين حكم الخلفاء الراشدين وبين بني العباس مثلا أو بني أمية) وفي الاستبداد جهل، وفي الجهل حيف على العلم والعلماء؛ ذلك لأن العرب بل المسلمين لم يزالوا في دائرة من الدين ضيقة، لا يخترق النور من الخارج أو من الداخل حدودها الكثيفة. وأميرهم العالم العامل بعلمه لا يرضي العامة، وأميرهم الجاهل لا يرضي الخاصة المفكرة، فلا يستطيع والحال هذه الحكم إلا بالقوة القاهرة، والقوة القاهرة عيب وظلم قبيح في هذا الزمان.

قلت: وهل لعرب الجزيرة أمل بالترقي والتمدين؟

فقال: لا أمل؛ ما زالت العصبية أساس أعمالهم السياسية والدينية، فالعصبية من أهم الأسباب في سقوط العرب في الأندلس، وفي الشام، وفي العراق، وفي الهند، قد جاءوا هذه البلاد مثلا ومعهم نزعاتهم اليمنية والمضرية، والعبسية والشامية، وما مر عشرون سنة عليهم حتى اشتعلت الحرب بين قحطان ومضر وكانت أول حرب أهلية في الأندلس، وأخذت هذه الروح - روح العصبية - تمتد بامتداد الملك، فكان ملكا واهيا متزعزعا، تفككت أوصاله، واستقل بالحكم رجاله، فكان في «ألمرية» ملك، وفي «مرسيا» آخر، وفي غرناطة سلطان، وآخر في «إشبيليا»، وهم يتقاطعون ويتطاحنون، فجاء يوسف بن تاشفين البربري فاغتنم فرصة خلافهم ونزاعهم فساد. ثم اعترى قوم يوسف ما اعترى سلفاؤه فاستعان أهل البلاد ببعضهم على بعض فتغلبوا عليهم وسادوا. وكذلك كان في دولة المغول في الهند، فإن نزعاتهم القومية تغلبت عليهم فمهدت السبيل لتغلب أمراء الهند على ملكهم العظيم القصير العهد.

وأطرق الشيخ عندئذ ثم قال: إن للعرب فضلا لا ينكر - وإن بالغ الناس بذكره - وقد سمعتك تسائل نفسك سؤالات يشتم منها نكران هذا الفضل، أنت مصيب في قولك إن نبوغ العرب قلما يثمر إلا إذا احتك بنبوغ أجنبي، ولكن هذا الاحتكاك لم يذهب بمزية النبوغ العربية، بل أظهرها جلية، قوية، نيرة، مشعشعة، فاختفت في نورها الباهر مزية النبوغ الأجنبي، اختفت ولا عجب إلى حين؛ لأن نور العرب شديد الاحتراق، جميل الأشعة، سريع الانطفاء، ولكن الصبغة العربية أو مزية النبوغ الخاصة بالعرب إنما هي ثابتة في الصناعات والفنون.

فإذا كان للرومان فضل في تدمر ولبيظنطية فضل في الشام، ولبني ساسان والبرامكة فضل في بغداد، وللفرنجة فضل في قرطبة، وللهنود فضل في كابول، فذلك لأن النبوغ العربي بعث ما دفن من علومهم وفنونهم، فأضاءها وأحياها ، وأعاد إلى مدنياتهم مجدها، وقد تجلبب جلبابا عربيا فخيما. وبكلمة أخرى: إن النبوغ العربي استولى في الماضي على النبوغ الأجنبي فاستخدمه وانتفع به، وهو اليوم واقف بين قوات من النبوغ الأوروبي عظيمة لا يستطيع الاستيلاء عليها. - وهل يستطيع الانتفاع بها مع حفظ المزية العربية فيه؟ - نعم، إذا كان العرب يدركون أسباب سقوطهم في الماضي فيتقونها، ويجتنبونها. - وهل لسيدي الشيخ أن يذكر غير ما ذكر من أسباب السقوط؟ - قد أشرت إلى العصبية الدينية فأزيدك إيضاحا، واعلم - رعاك الله - أني أتكلم الآن كمسلم، وإن كنا في العالم الخالد مجردين تماما من صبغات الأديان كلها، أتكلم الآن كمسلم؛ لأني لم أزل أذكر القوم الذي كان الجسد منهم وأقام بينهم فترة من الزمان، ولم أزل أنظر إلى تلك الذاتية - الذاتية الإسلامية، الذاتية الفانية - كمن ينظر إلى خيال الحبيب في بحيرة الذكرى، على أني لو عدت اليوم إلى بلد الحبيب فلا أظنني أكون من الراغبين به، الناظرين إليه بعين الإعجاب.

صفحه نامشخص