إذا كنت في سفينة تتقاذفها الرياح من كل جانب وأوشكت تبتلعها الأمواج أتضيع وقتك بالعويل والنحيب صارفا النظر عما يتمثل حواليك من جمال الطبيعة وهولها وجلالها، لا أقول لك لا تصل إلى الله لينجيك من الغرق في مثل تلك الساعة ولكنني أقول اشكره تعالى أولا وآخرا على أنه جعلك ممن شاهدوا هذا المشهد العظيم، ووقفوا هذا الموقف الرهيب، ألا تظن مشاهدة البحر ساعة هيجانه تساوي شيئا وخصوصا إذا كنت في مركب واقع في شبك أمواجه الزابدة، هل لنا أن نختبر مثل هذه الاختبارات النادرة كل يوم، ولنفرض أني مت في الوادي تحت الغيث الهاطل أو سكنت قعر البحر تحت الموج المتراكم أينقص من نفسي الأزلية شيء؟ فعلام الخوف والجبن؟ أيخشى الإنسان ربه؟ أيحاذر ابن الطبيعة أمه؟ أتوجس النفس الأزلية خيفة من شيء زائل؟
قد شذبت نصائح القوم ووضعت ما بقي منها في جيبي وسرت مع نفسي سيرا بطيئا بعيدا عن طرق الوادي الضيقة، بعيدا عن تلك الخطوط الصفراء التي يراها التائه عن بعد فيقصدها ويلازمها مطمئنا، سرت بين شرايين الوادي وعروقه طالبا في القلب مركزا جميلا تزينه ثلاث من أدواح الصنوبر الشامخة، وقد تساوت كلها حجما وقدا وجمالا، رأيتها واقفة هنالك شبه عرائس خرجن من خدورهن ليدعونني إليهن، وهل تظنني خاطرت بنفسي إذ لبيت الدعوة؟ لا - وحياتك أيها القارئ - فقد خاطرت بشيء من اللحم والدم والعظام التي تقيد النفس، أوليس من المحمدة أن يطلق المرء للنفس ذمامها مهما كلفه ذلك؟ أوجه هذا السؤال إلى الشعراء لا إلى اللاهوتيين، أنا لا أذكر سوى اللذات الروحية حينما أكون بالقرب من الطبيعة، ومتى عدت إلى المدينة فهنالك لذات جسدية تنتظرني، هنالك سرور ينسيني النفس كما ينسيني سروري الآن سرور الجسد، وأما الكوارث والحوادث التي يخافها الناس ويبالغون في التهويل بها فمتى جاءت تراني متأهبا تراني دائما مستعدا إلى السفر.
الطريق التي اتخذتها إلى الصنوبر في الوادي هي الطريق إلى الحقيقة في العالم، وعلى من يحب الاقتراب من الصنوبر وتتوق نفسه إلى فيء أشجاره وأرضه المفروشة بإبره اليابسة أن يخاطر بكثير من الرفاهية التي ألفها. عليه أن يخاطر في الأحايين بحياته - أي بلحمه ودمه - عليه أن يمشي بين العوسج والأدغال وعلى الشوك والبلان والشيح بين الحجارة والرتم والقيضوم وفوق الصخور المغطاة بالطحلب النامي في ثقوبها الغار والخنشار، عليه أن يدج دجا من تحتها تارة ويقبل شوك القرقفان الذي يعترضه ويشم رائحة الطيون الذي تلتصق أوراقه بثيابه، وقد يقع تارة من صخر أملس ويزلق طورا على الأرض المفروشة بورق الأشجار البالي.
وبينما هو سائر يسمع الحقيقة تخاطبه قائلة: أنا الصنوبر أيها الشاب الطلق المحيا الرائع الوجه الرقيق العواطف الراسخ في علم السلوك المواظب على سنن الأدب والمسامرة، فإن كنت تريد الاقتراب مني - إن كنت تحب الجلوس تحت جوانحي الخضراء المبللة بندى الحب فعليك أن تترك وراءك نعومة المجالس وجمال الترف ورفاهة العيش وبذخه، عليك أن تدوس شوك الخرافة وتمشي بين عوسج التقليد وتقطع أودية الأوهام وتعبر سواقي الحب الكاذب وتتوقل في الصخور الشامخة وتسقط تارة في عليق الرؤساء وطورا في أدغال الحكام وأحافير الشرائع، وإذا سلمت بعد كل ذلك فصعد في الصخور المعتزة بذاتها المتفردة بعظمتها القائمة على شفر الهاوية من غير أن تشعر بشيء من الخوف والرعبة أو أن يخامرك شيء من الريب بنفسك. ومتى وصلت إلي تقيم في ظلي سعيدا قريبا من الحياة بعيدا عنها في آن واحد، وتصبح مثل قمة جبل الشيخ لا ملك فيك لأحد من الناس ولا لإحدى الطوائف والأحزاب، تصبح إذ ذاك ملكا مشاعا للجميع، تبارك من عاش في ظل الحقيقة! تبارك من ملك نفسه!
حاصرني المطر في كهفي الصغير ساعة من الزمن فأخذت أتأمل أثناء ذلك ما كان داخله من آثار المخلوقات التي سكنته قبلي، فرأيت أن الحية كانت تدخله لتغير فيه ثوبها، والثعلب ليأكل فرخته والضبع ليفترش فيها مائدته، كيف لا وهذا ثوب الحية البالي، وهنا بعض ريش الدجاجة المسكينة، وهناك عظم من عظام الثعلب، وفي السقف والزوايا أنسجة العنكبوت وفيها عشيرة من البعوض. وإني أؤكد أن هذه البعوضة الراقدة الآن في هذه الخيام النحيفة آمن على نفسها من قيصر الروس في قصره، ولقد يستطيع حزاز الصخور أن يفيدني شيئا من هذا الباب لو شاء ربك، لقد يستطيع الخنشار النامي على باب المغارة الباسط جناحه المزركش فوق هذه الأوراق البالية أن يقص علي قصة غريبة عجيبة. فكم من حادث حدث في جوف هذا الكهف لو كان لجدرانه أن تنطق وتتكلم!
آها على رفيق يشاطرني الآن هذا المأوى الصغير المعتم البارد - الجميل في ذاته! لا أنكر أن العزلة جميلة، ولكن - رفيقا واحدا لأقول له من وقت إلى آخر إن العزلة جميلة. فقد تاقت نفسي وأنا بالقرب من الطبيعة إلى نفس بشرية أخرى تريني بما فيها من القوة والضعف ما خفي من قوتي وضعفي، تأملت وأنا في هذه المغارة ما في الطبيعة من القوى الكامنة ومن الهول الراقد تحت ستار السكينة والجمال، فجرني الفكر إلى الهيئة الاجتماعية الحاضرة الواقفة على شفر هاوية فتن لم يسبق لها مثيل في التاريخ، جرني الفكر إلى ستار الكذب والتصنع والاحتيال الذي يسدله ذوي الغايات النفسية على الحقيقة - إلى القوى الكامنة في الشعوب المظلومة - إلى الهول الراقد تحت ملاءة من الخوف والخمول - إلى الخير الكامن في الأفراد الغيورين على الحقيقة الجريئين في الذب عنها.
ومهما اشتدت الاضطهادات على ذوي الأفكار فهم لا يحرمون كوخا يلتجئون إليه، تضربنا الطبيعة باليسرى وتعيننا باليمنى، تعد لنا المغاور لنلتجئ إليها حينما يشتد غضبها الأعمى، وإذا حملقت فينا الهيئة الاجتماعية وكشرت عن نابها ففي زوايا الأرض وأطرافها نفوس حرة سامية تنعشنا بطيب شذاها، وتجدد فينا حرارة محبتها الحماسة والنشاط.
وبعد أن وضعت حرب الرقيع أوزارها أشرقت السماء قليلا، فظهر شيء من نور الشمس من خلال الغيوم والأغصان وحول نقط الماء المتجمعة على الأوراق إلى نثرات من الفضة وحبات من اللؤلؤ الثمين، وأخذت - إذ ذاك - العصافير تطير من غصن إلى غصن ومن صخر إلى آخر ساكتة خائفة، وهكذا تفعل بعد الأمطار والعواصف، فهل هي تشعر مع الشاعر بلذة التأمل الذي توجبه السكينة؟ أتمثل الآن دور الفيلسوف بعد أن مثلت دور المنشد المطرب؟
في مثل هذه الساعة - ساعة السكينة والهدو - لا تتوق النفس المبتهجة إلى الشمس ونورها ولا تشتاق إلى بهائها وحرارتها، في مثل هذا الوقت من السنة تلذ لي الغاب ويبعدني الوادي عن الأوراق والكتب، تلذ لي الغاب وما فيها من السلوى والإلهام والراحة، تلذ لي ظلمتها وظلالها، سكينتها وصخورها وأشجارها وأدغالها، أشواكها وأزهارها، نعم إن صوت الغيث الهاطل على الأشجار جميل فهو يضرب على أغصانها فيخرج منها أنغاما وألحانا مطربة مدهشة، ولكن السكينة التي تتلو العواصف أجمل في أذن النفس وأطرب.
صوت الأوراق الصفراء التي تقع متناثرة إلى الأرض من ثقل ما عليها من الماء، أو صوت نقطة ماء تقع من ورقة خضراء حية على ورقة يابسة ميتة، أو صوت فأس الحطاب بين أشجار العفص والسنديان، أو أصوات الأولاد الذين يؤمون الوادي والغابات طالبين الحلازين؛ هذا كل ما تسمعه في الغاب بعد العواصف والرياح، وهو جميل؛ لأنه قليل في كثير:
صفحه نامشخص