132

لا يا أصحابي لا يا أسيادي، إن رجل الشعب الحقيقي لا ينتخب ولا يعزل ولا يقاوم ولا يموت، إن روحه تظل حية وعاملة في الأمة بعد أن يقف نبضان قلبه، إن أعماله لا تموت إذا غرست في قلب شعب حي قوي، أعصابه سليمة ونظره سليم. إن أعمال الرجل العظيم كنهر يتدفق من أعالي الجبال في أودية الهيئة الاجتماعية وسهولها، ولا يكاد يخف ماؤه أو ينضب بعد سنتين أو بعد عصور طوال حتى يبعث الله رجلا آخر عظيما فيحيي فيه الأرواح التي تلاشت على ضفتي النهر الأبدي.

أليس من المضحكات إذا أن نتساءل: «ومن يا ترى يخلف رجل الشعب» وهل تظن أن الزعيم الثبيت الحر الصادق كمقالة أكتبها بساعة أو بيوم فتقرؤها وتفهمها بخمس دقائق، ألا يخطر في بالك أن لو كان صنع الرجال العظام أمرا سهلا لكان يولد في العالم رجل عظيم كل يوم، أتظن أن إرادتي وإرادتك وإرادة من هم أكبر مني ومنك - قناصل كانوا أو بطاركة - بل إرادة الملوك والسلاطين؛ تجعل «المغربي» حكيما والمشعوذ زعيما، أتظن أن في إمكان الأحزاب أن تصنع الزعماء كما يصنع الخزاف إناء ثمينا أو الصيقلي درعا متينة؟

إن كنت تعتقد هذا الاعتقاد ولا تنبذه سريعا نبذ النواة فمسيرك ومسير أتباعك وعبيدك إلى الهلاك، إن كنت لا تصرع اعتقادك الفاسد يا أخي فاعتقادك يصرعك، إن كنت تظن يا صاحب السعادة بل يا صاحب الدولة بل يا صاحب الجلالة أن زعيم الناس كإناء من الفخار تصنعه كالفخاري بساعة واحدة وتكسره إن شئت بضربة واحدة فأنت إما مخطئ واهم وإما جاهل مكابر، وفي كلا الحالين لا خير فيك لوطنك أو لنفسك لا في أقوالك ولا في أعمالك، الزعيم الحقيقي يا مولاي هو من السماء ونصره وكسره في يد الله. ينبغي لك إذا أن تصلح عقيدتك قبل أن ترفع في سبيل الإصلاح عقيرتك، ينبغي لك أن تبيع كديشك وترمي بخرجك وعقاقيرك إلى النار وتقرأ في كتاب الحكمة والزعامة على عالميال وصادقيال لا على دانيال ونافقيال.

إن لبنان اليوم لفي حاجة إلى بطل حقيقي لا إلى رجل أو نصف رجل أو ربع رجل أو لا رجل يدعى زعيما، نحن في حاجة إلى من يستطيع أن يجمع شتات هذا المليون من ضعفاء بل من بؤساء البشر، نحن في حاجة إلى بطل يحكم هذه الأمة ويهديها سواء السبيل، وهل تظن أن الطبيعة في لبنان تضن على أبنائه بمثل واشنطون أو أبي بكر أو كرمول ولو في شكل صغير؟ يشهد تاريخنا أنها لم تضن علينا بالأبطال في الماضي، وتشهد سماؤنا وتشهد شمسنا أنها لا تضن بهم في المستقبل.

وعندنا أن مثل هذا الزعيم العظيم يباشر إصلاح الجيش فيضاعفه وينظمه قبل كل شيء، ثم ينظر إلى الشعب المفلوج الضرير فيداويه بغير زرع التبغ واستخراج الملح وتأليف الجمعيات في القرى. لا ننكر أن هذه كلها لازمة مفيدة، ولكن الألزم منها أهم، وعلى الألزم منها تتوقف اليوم حياتنا، إن كروملنا أو أبا بكرنا يا سيدي الأمير لا يصيح كالمغاربة (دوا للفالج دوا للعين) لكنه يقبض المبضع بيد من حديد ويشتغل باسم الله. إن كروملنا بعد أن ينظم جيشه ينظر في البلاد إلى من كثرت أموالهم وقلت أعمالهم كالرهبان مثلا فيحاسبهم بعدل وإنصاف ويبني بما يأخذه منهم المدارس العمومية في كل القرى والمدارس الزراعية الصناعية في كل الأقضية، هذا هو دواء الطبيب الصادق الماهر لفالج النفس وعمائها.

مثل هذا الرجل إذا دخل مجلس الإدارة ورأى الأعضاء يدخنون الأركيلة وينعسون يطردهم قائلا: إلى بيوتكم، دخنوا هناك وناموا إلى الأبد، وإذا كان اللبنانيون لا ينتخبون من لا يدخن ساعة العمل وينام فأنا أنتخبه أنا أعينه، وإذا رأيته يدخن بعد ذلك في المجلس أكسر - والله - الأركيلة على رأسه.

في مثل هذه اللهجة كان كرومل يكلم مجلس نواب الإنكليز، ولما رأى ذات يوم أن قد استفحل أمرهم معه أخرج ساعته من جيبه ورمى بها إلى الأرض قائلا: «إن لم تستقيموا أحطمكم مثل هذه الساعة»، وبعدئذ طردهم وقال: «أريد في المجلس أناسا صادقين عادلين.»

مثل هذا الزعيم إذا تصدد له أولئك الأفاضل المحنكون المبنكون الذين ترسلهم الدول الأوروبية ليتعلموا عندنا السياسة الشرقية بل ليكذبوا عنها في الدوائر الرسمية يقول لهم «وبأي حق تتداخلون في الصغير والكبير من شئوننا؟» فإذا أبرز القناصل أوامر وزرائهم يقول لأولئك الذوات الكبار «لما سالت دماؤنا في الماضي آستنا حكوماتكم وضمدت جروحنا بهذا الذي ندعوه نظام لبنان، حمتنا لتحمي نفسها من حروب أوروبية طاحنة وفي كل حال نحن لها ولكم شاكرون، أما الآن وقد برئ الجرح فلم نعد في حاجة إلى العصابة ولا إلى عناية هؤلاء الممرضين قناصلكم، بل قد صرنا رجالا أصحاء نأبى الضيم والحيف مثلكم، ولا نسألكم سوى هذا أن تعاملونا كما تريدون أن تعاملوا.»

هذا هو رجل الشعب هذا هو بطل الأمة ولا تظن أيها القارئ أن في إمكان الصحافة أن توجد مثل هذا الرجل، لا، ولا الأحزاب ولا القناصل ولا البطاركة ولا الشعب يوجده. البطل هو ابن السماوات والأرض ولا يوجده في الناس - كما قلنا - إلا الله، فإن كنت يا أخي اللبناني تشعر أن في جلدك شيئا من البطل - ولا فرق عندي إن غطأت جلدك هذا بعباءة مرقعة أو «بالفراك الأتوركا» أو بالحرير والأرجوان - إن كنت واثقا متأكدا أن في قلبك شيئا من نور الله اظهر باسم الله واحكمني وسخرني في سبيل الحق والوطن، اظهر فلا تظل طويلا مجهولا، إذا كانت تلك الروح العظيمة داخل جلدك وذاك النور الإلهي في قلبك يتبعك الناس ويطيعونك بل يؤلهونك ويعبدونك.

نعم يا إخواني، نعم يا أسيادي، إني أؤكد أن السماوات والأرض في لبنان لا تضن علينا ببطل لبناني في المستقبل، ولكن متى يظهر وأين ...؟ إن نبوءتي لا تتجاوز هذه الحدود.

صفحه نامشخص