قيل: إن دخول الحقيقة قصور الملوك لمن أصعب الأمور، وهي حقيقة جديرة بالنظر، فلو تأملها الساسة العثمانيون والمصلحون لكانوا يقلعون عن مخاطبة الحاكم في إصلاح شئون الدولة، فالحاكم لا يصلح، الحاكم يحكم، وعلى المحكومين إذا كان النير ثقيلا أن يخلعوه وينبذوه، على المحكومين إذا كان الحكم ظالما أن يصلحوه أو يأبوه.
فالحاكم الظالم مظلوم مثل رعيته وكفاه متاعب الحكم وعذابه متى بدأ النير يتقلقل على رقاب العباد، لو كنت أنت الحاكم أيها القارئ المظلوم وجاءك وزيرك ذات يوم يقول: قد تخلع النير وتفكك يا مولاي فماذا تقول له إذا كنت لا تستطيع اصطناع أو ابتياع نير جديد، أتأمره بأن ينزع النير المخلع أو يصلحه؟ لا فإنك تقول له: أصلحه وثبته في مكانه، وهذا هو الإصلاح الذي يباشره الملوك والسلاطين إذا كان يرجى منه إصلاح، وجدير بنا أن نذكر أن الإصلاحات التي جرت في الدول الأجنبية لم تكن إلا نتيجة القسوة التي استخدمها الشعب نحو حاكمه، والشعب لا يلتجئ إلى هذه الوسيلة الفعالة إلا إذا أفاق من سباته وتنبه إلى حقوقه وتهذب شعوره نوعا، بدل أن نوجه الكلام في وصيتنا السياسية إذا إلى الحاكم لنعلمه بأن النير تخلع ويقتضي إصلاحه، بدل أن نبسط الكلام إلى السلطان في كيفية تأييد وتعزيز دولة استبدادية؛ كان الأجدر بنا أن نبسطه إلى الشعب المظلوم فنريه بعض أسباب الظلم التي تورث البلاء والشقاء، ونهديه إلى بعض الوسائل الفعالة التي تزيل هذه الأسباب.
فلو وجه فؤاد باشا خطابه إلى الأمة بدل أن يوجهه إلى حاكمها، لو وجهه إلى المظلوم بدل الظالم، فكان أفاد حيث أجاد؛ لأن رأي من يطاع يؤثر في الشعب الجاهل أكثر من رأي من لا يطاع. والأفراد المستنيرون يثقون بكلام وزير فقهته الحوادث وأنارت العلوم فؤاده، لا سيما وفي هذه الوصية كلمته السياسية الأخيرة وكلمة السياسي الأخيرة قلما تشوبها السياسة.
وقد أدرك هو ذلك إذ قال: «إن الصوت الخارج من القبر لا يكون كاذبا.» على أنه إن لم يكن كاذبا فقد يكون مخطئا، وقداسة الضريح لا تمنعنا من أن نشير إلى هذا الخطأ، نشير إليه مع إجلالنا صاحب الوصية واعتبارنا وصيته كمجموعة آراء سياسية فيها الغث وفيها الثمين، فإننا نحترم بعض السياسيين ولكننا لا نأمن أحدا منهم، أما الوصية إجمالا ففيها دليل ناصع على اختبار صاحبها الواسع وحكمته وعلى تعمقه في درس ما دق وخفي من الأمور السياسية.
وفيها أيضا من الآراء السديدة والحكم البليغة ما يسر ويدهش المتفلسفين وإليك بشيء منها:
إن ترقيات جيراننا السريعة وتأخرنا الناتج عن أغلاط أجدادنا الغير مقصودة قد أوقعنا الآن في مهلكة عظيمة لا يمكن الخلاص من عاقبتها الوخيمة إلا بقطع كل علاقة مع حالتنا السابقة والعمل على تجديد قوى الدولة بالوسائط العصرية الحديثة.
وكيف يتسنى للفرد أو للأمة الانسلاخ عن الماضي، إنها لإحدى طرق الإصلاح ولكنها ليست بالأقرب والأسهل، بل هي نتيجة لها مقدمات، وذروة ذات عقبات، فالانسلاخ عن الماضي ليس بأمر سهل بل وغالبا مستحيل، وأما التخلص من «أغلاط أجدادنا الغير مقصودة» فتلك مسألة أخرى ومن هذه الأغلاط غلطة مدنية عظيمة بل خرافة سياسية وخيمة لا نظنها تتسلط إلى الأبد على عقول الناس والأمم، فإن العلم يزعزعها وإن كانت متأصلة في الأجيال، والزمان يهدها وإن كانت راسخة كالجبال.
ونريد بهذه الغلطة بل بهذه الخرافة الحكومة الملكية حيث الأمة ومعظمها من الفقراء والبائسين تلزم بمعاش فرد عظيم فيها لا يتعيش قط في حياته فترضاه عليها ملكا وتعد له الصروح والقصور وتحيطه بالحجاب والحرس وتنفق عليه (ناهيك عن ذريته وحواشيها) ما فوق مائة أو مائتي ألف ذهبا كل عام، ومع ذلك فصاحب التاج والصولجان اليوم قلما ينفع الأمة (ألف سلام على ملوك الزمن القديم) وأما في زماننا فهذا الفرد العظيم يكون إما خيالا كمالك الإنكليز وإما مقلقا كإمبراطور ألمانيا وإما ظالما ك ...
ولكنهم كلهم يظلمون متى استطاعوا إلى الظلم سبيلا، فالحكومة الملكية غلطة من أغلاط الأجداد لا بد أن يصلحها العلم والزمان في كل مكان، وهناك غلطات أخرى ذكر صاحب الوصية بعضها، فالماضي من هذا القبيل يا أسيادي لا يتسلط إلى الأبد على المستقبل، والتقاليد لا تستعبد الأمم إلى الأبد، فإن القوى الكامنة في المستقبل الغير المحدود لا تقوى عليها سلطة محدودة هي ابنة أربعمائة أو ألف عام، بل من المستحيل أن تخضع الأبدية لبضع ساعات زائلة، ونسبة القرن إلى الأبدية كنسبة الساعة إلى الألف عام. ففي المستقبل إذا دول جديدة ورجال، ومن وراء المستقبل ينظر الله بعين واحدة إلى ذوي المحاريث وذوي التيجان.
أما الترقيات الحديثة التي يروم فؤاد باشا إدخالها إلى الدولة فإنها - في رأينا - لا تكفي لتعزيزها وإصلاح شئونها؛ لأن السكك الحديدية والتلغرافات والتلفونات والقوات الكهربائية والبخارية كافة تزيد الأمة قوة، ولكنها لا تزيدها عقلا، تزيد الملك مناعة ولكنها لا تزيده علما، والأمة اليوم أفقر إلى نور العلم الصحيح منها إلى نور الكهرباء، هي أحوج إلى التهذيب منها إلى السلاح ولعمر الحق إن الأمة المهذبة لأمضى سلاحا في يد الدولة، نحن الآن أفقر إلى مدارس راقية وطنية منا إلى السكك الحديدية.
صفحه نامشخص