مقدمة
على الدهر
تحريم الحيوان
كراهته الحياة
الأسرة والمرأة
النسل
الوحدة
كراهته الحياة
المرأة
النسل
العزلة
تقابل آراء أبي العلاء
تفلسف أبي العلاء
إخلال أبي العلاء بمنهج الفلسفة
لماذا تناقض أبو العلاء؟
أبو العلاء بين قوله وفعله
مقدمة
على الدهر
تحريم الحيوان
كراهته الحياة
الأسرة والمرأة
النسل
الوحدة
كراهته الحياة
المرأة
النسل
العزلة
تقابل آراء أبي العلاء
تفلسف أبي العلاء
إخلال أبي العلاء بمنهج الفلسفة
لماذا تناقض أبو العلاء؟
أبو العلاء بين قوله وفعله
رأي في أبي العلاء
رأي في أبي العلاء
الرجل الذي وجد نفسه
تأليف
أمين الخولي
إلى
الذين يرفعون القواعد من المدرسة النفسية في دراسة الأدب وتاريخه.
مقدمة
من أجل المنهج
تفهمت أبا العلاء سنين، حتى انتهيت إلى هذا الرأي الذي أعلنته منذ سنين (1359ه/1940م) ثم تركته بعدها للمدارسة والترديد، حتى نشر اليوم، فلعله بذلك يكون قد جاء الحياة سويا قويا.
قرأت كل ما أحسب أن قد رأى الشمس من آثار أبي العلاء نثيرا أو نظيما، كاملا أو منقوصا ... وليس كل الذي خلف أبو العلاء قد جاءنا، ولا كل الذي سمي من آثاره قد أبرأنا الذمة من الجد في طلابه. وبذلك كان اكتفائي بما وجد - كاكتفاء قومي حولي - غير وفاء بالمنهج الأدبي كما أفهمه وأدعو إليه ...
1
واعتمدت في قراءتي على النسخ المعروفة في خير صور نشرها، وليس كل الذي نشر منها قد أثبت نسبه وحقق نصه ... وبذلك كان اكتفائي بما نشر - كاكتفاء قومي حولي - غير وفاء بالمنهج الأدبي كما أفهمه وأدعو إليه ...
على أنه إن يكن قومي - أفرادا وجماعات - قد آثروا عدم الوفاء بالمنهج إيثارا، بعدما دعوا إليه جهارا، وبعدما عني به آباؤهم قبلهم، ثم عني به المحدثون في الغرب حولهم، فإني أنا إنما اضطررت إلى هذا القدر من غير الوفاء اضطرارا ... ثم ها أنا ذا أقدم به قولي، صدر الحديث معك حيث يلتمس رضاك بالتقديم أو التقريظ، فهل تدري لم كان هذا؟ ... لا تعجب إذا ما قلت لك: إن ما كان من غير الوفاء بالمنهج ، إنما كان من أجل المنهج نفسه.
المنهج الأدبي خارجي وداخلي
وجلية الأمر أن هذا الذي ذكرنا أمس ونذكر اليوم من خطى الدرس الأدبي؛ كالجمع المستقصي للنصوص، ثم التحقيق المتثبت لها ... إنما هي من المنهج: جنباته ودعاماته المادية، أو إن شئت فسمها: المنهج الخارجي ... ثم ما بعد ذلك من الفهم الدقيق المستشف، هو من المنهج لبابه وروحه، أو إن شئت فسمه: المنهج الداخلي ... ولا تجدي علينا العناية بهذا المادي الخارجي إلا طلبا للمعنوي الداخلي ... فلما قلت في المنهج الخارجي ما قلت، وعلمت ما علمت، ثم كانت المناسبات المتكررة
2
في إحياء أبي العلاء، سنحت - في تقديري - فرصة للتحدث في المنهج الداخلي، وتقديم المثال المرجو فيه من دراسة أبي العلاء وفنه؛ لأنه - فيما أنست منذ بعيد - رجل قد صدق الناس الحديث عن نفسه، وفي حياته وظروفها وأزماتها، ثم في فنه وسعته وتساميه ... في كل أولئك، مجال رحب لنتفهم النفسي، والتحليل الشخصي، والانتفاع بما عرفت الدنيا الحديثة عن النفس البشرية وعقدها، وبذلك يكون أبو العلاء خير مثال للعناية بالمنهج الأدبي الداخلي ... وهو ما يهدف إليه هذا البحث، ويقوم عليه ذلك الرأي في فهم أديبنا وأدبه فهما صحيحا ذا أساس نفسي، تتصل فيه شخصية الأديب بأدبه، ولا يكتفى فيه بنظرات ادعائية أو مقررات تقليدية.
إكمال المنهج الداخلي
نحاول من هذا الدرس، وذلك المثال، المثابرة على تحقيق الغاية المرجوة التي نؤمن أنها أجل وأكبر ما ينقص حياتنا الأدبية، تلك هي: تحرير المنهج وتكميله ... والمنهج هو الدستور الذي يقرر أصول التفكير على اختلاف ألوانه، ويضبط قواعد الإدراك على تنوع قواه في الإنسان ... وعند الجامعة والجامعيين يلتمس الناس هذا التحرير والإكمال وعنهم يؤخذ، ولا خير في عمل من أعمالهم ما لم يقم على المنهج المصحح الكامل، وإلا فما حال ذلك الذي يعاني درس الأدب وتاريخه: فيصف العصور، ويحلل الشخصيات، ويتذوق الفن، ويتحدث عن مزاج الأمم والأفراد، ويحكم تلك الأحكام البعيدة المدى الجريئة التناول في كل ذلك جميعا، وهو لا يدري كيف يثبت نصا، ولا كيف يحقق نصا، وأما كيف يقرأ نصا أيضا قراءة دارس متفهم فهو عليه أبعد وأشق! من أجل ذلك: كانت العناية بالمسألة المنهجية آكد وأعظم ما تخدم به النهضة الأدبية.
ولئن قلت - قريبا: إن القدماء قد أصلوا المنهج الأدبي! فإن من الحق أن أقيد ذلك بأنه تأصيل للجانب الخارجي الذي أشرنا إليه لا غير.
فقد قرروا من القواعد في جمع النصوص ونقلها وإثباتها وتحريرها ما لا يزال حتى اليوم كافيا صالحا للبقاء ...
أما المنهج الداخلي المتناول لفهم النص الأدبي فلا مفر لنا من تقرير أنهم فيه لم يوفوا على الواجب، وأن فرق ما بين عملهم فيه وبين ما ينبغي اليوم منه ليقاس بفرق ما بين التقدم العقلي بين أمسهم الغابر ويومنا الشاهد، وما بين معرفة الإنسان بالكون وظواهره، والنفس وقواها، في عهدهم البعيد، وعهدنا الحاضر ...
فإذا ما دعونا إلى تحرير المنهج الخارجي وتصحيحه، فذكرنا من عملهم فيه، وعمل غيرهم
3
ما يتكامل ويفيد، فإننا في المنهج الداخلي، وفهم النص الأدبي إنما نطلب التكميل والإضافة وزيادة ما لم ينالوه في هذا السبيل أو شعروا به شعورا مبهما ضعيفا، وكذلك يجب أن نقوم بعملين اثنين: تحرير المنهج الخارجي، وتكميل المنهج الداخلي.
ويبين لك هذا التكميل أن تقدر ما ورثناه عنهم، ومضينا نتابعهم عليه في فهم النص الأدبي وتذوقه؛ إذ تراهم وترانا إنما نفهم النص من مادته ولفظه فحسب، نفسره تفسيرا لغويا سطحيا أو بعيدا عن السطح قليلا
4
ونوجهه توجيها نحويا بقدر ما بين الإعراب والمعنى من صلة، إن لم نجاوز ذلك إلى عناية خاطئة بالصناعة النحوية، ليست من العمل الأدبي في شيء ما ... ثم نبين ما فيه من تفنن أدبي بيانا تشير إليه إيماء - بل قد تسيء إليه أحيانا - مقررات البلاغة الفلسفية التي ورثناها وتدارسناها ... وفي حدود هذه الخطة اللغوية النحوية البلاغية - على ضيقها وجمودها - نفهم الأدب ونتذوقه وننقده ونقدره ونؤرخه ونحكم عليه ... وكأنما كل ما بين المتفنن والناس قد تجمع في ذلك الكيان المادي اللفظي الذي تحده المعاجم ببيان المفردات بيانا أثريا جامدا ... والقواعد النحوية لتأليف الجمل في سطحيتها وتصنعها ... والضوابط البلاغية لجمال الفن القولي في جفافها وتصورها ...! لا والجمال ما كان الفن هذا الحطام أبدا ... وإن الفن حينما يعبر عن الإحساس بالجمال ذلك التعبير الكلامي الذي هو الأدب، إنما يسجل خلجات وخطرات وجولات، بل تيارات نفسية لصاحب التعبير هي التي دبرت ذوقه، ووجهت حسه، وألفت نصه، وإنها لتدفعه أحيانا دفعا قويا يكون معه مستهوى مسحرا يقول ما يجد، وقد ملك عليه نفسه فجرى به لسانه قبل أن تقدر قواه الواعية كيف نظم لفظه، أو أقام إعرابه، وأجرى استعارته، أو نسق عبارته، تعريفا وتنكيرا، أو تقديما وتأخيرا إلخ ... بل لعل الأديب صاحب الأثر نفسه قد يحتاج - فيمن يحتاجون - إلى تدبر قوله، وتبين تأليفه، فلا يكون أقل حاجة في ذلك من سامع يتفهم، وقارئ يتأمل ... والذين عانوا الفن القولي في صورة من صوره يدركون هذا الذي أصفه جليا، ويفهمونه بديها ... والنقاد الأدباء يعرفون ذلك جيدا ...
نعم ... إن وراء هذا الظاهر الخارجي لقوى نفسية تصنع الفن، وتؤلف القول، وتصور المعنى، وتجري ذلك كله على يد المتفنن، بعمل لو زعمت أن منه ما ليس إراديا لم تخطئ ولم تبعد ... وإن عبارات صاحب الأدب لتظل تحمل لذلك كله آثارا قوية، وإن لم يشعر بها أصحاب الخطة اللفظية، جلية، وإن لم يستبنها أصحاب الطريقة المادية، وعلى متفهم الفن أن يلتمس ذلك بخبرته النفسية، ولمحاته الوجدانية، ويتبينها بأضواء المعرفة الإنسانية لحركات النفس، وحياتها، وتأثرها، وتأثيرها ...
وكذلك ينبغي أن نكمل المنهج الداخلي للأدب، فنفهم الأدب والأديب فهما نفسيا ... ومن ذلك الفهم النفسي سقت هذا المثال من فهم أبي العلاء؛ إذ انتهيت فيه إلى هذا الرأي ... •••
ولو شئت أن أجمل لك هنا خطى الفهم النفسي للأدب والأديب، وأبين أركان هذا التكميل المنشود للمنهج لقلت إنها: (1)
النظر في أدب الأديب جملة، وعلى أن له وحدة متماسكة بحيث يتصل في فهمك وتذوقك، قريبه ببعيده، وأوله بآخره ... ثم أنت منسقه على فنونه، وناظر إليه فنا فنا على النحو الذي أصفه بعد بأوسع من هذا الإجمال هنا. (2)
وصل الأديب بأدبه، وفهم الأدب بشخصية صاحبه كما تفهم الشخصية الأدبية نفسها بآثار صاحبها في غير دور ولا تداخل، إذ يتقدم من فهم الشخصية في ظروفها الجسمية والحيوية وما إليها ما يعين على فهم خفايا الأدب، ثم يتأخر من فهم هذه الخفايا الأدبية ما يكمل فهم الشخصية النفسية لصاحبها، فيتم الوصل بين الأدب والأديب في هذا الفهم النفسي وصلا مجديا غير مضطرب. (3)
الانتفاع الدائم المتجدد! بما عرف ويعرف في دوائر الدرس النفسي المجرب الدقيق لقوى الإنسان وملكاته ومشاعره وغرائزه، ويتم هذا الانتفاع بتعاون الدرسين - النفسي والأدبي - تعاونا يخص علم النفس الأدبي بالعناية المثمرة التي تمد الأدباء بالأضواء الكافية لفهم الأنفس، وتكشف لهم عن آثار ذلك في الفنون.
ولا أزيد الآن على هذا الإجمال لأركان الفهم النفسي للأديب والأدب مكتفيا هنا بالمثال العملي الذي يقدمه «رأي في أبي العلاء» تاركا تفصيل هذه الخطوات لفرصة أخرى، لعلها - إذا أعان الله - تكون تكميلا لدرس أبي العلاء نفسه.
حلقات متصلة «وليس هذا الذي أحدثك به عن الفهم النفسي للأدب بدعا من القول، لم أحاوله قبل الآن في تحرير مناهجنا الأدبية: كلا، بل إنك حين تقدر اتصال الدراسة الأدبية في صورها المختلفة تستبين هذا القول مسبوقا مني بمحاولات بعيدة العهد غير ضيقة المدى في سبيل تأصيل الدراسة النفسية الأدبية ... ومن هذه المحاولات ما كان قبل الآن في تكميل منهج البلاغة بحيث تصير «فن قول» يقدم له بمقدمة نفسية تدعم صلة فن القول بعلم النفس الأدبي ... كما أن منها القول بالتفسير النفسي للقرآن وهو كتاب العربية الأكبر وتاج أدبها ... وما تم من ذلك في تطبيق غير قليل لهذا الأصل النفسي في التفسير ... ثم حديثي عن هذا الرأي في «الإعجاز النفسي للقرآن»، وتعليله تعليلا يقوم على تقدير أن العنصر النفسي في الأدب هو لبابه وروحه،
5
فإذا ما دعوت اليوم إلى الفهم النفسي للأدب والأديب، بل إلى رفع قواعد «المدرسة النفسية للأدب» فليس ذلك عمل اليوم، ولا بادي الرأي، بل هي حلقات متصلة يشد أولها آخرها، وترى الاتصال بينها قويا متسقا، ومن هنا أهديت هذا الرأي ... إلى الذين يرفعون القواعد من المدرسة النفسية في دراسة الأدب.»
ثم البيئة ... أيضا
وإذ تردد الحديث عن المنهج الأدبي وتحريره وتكميله، وقد سبقت قبل الآن كلمتي عن «إقليمية الأدب»، وشدة تأثر الفن ببيئته، وضرورة مراعاة ذلك في درس الأدب وتاريخه، فلعلك سائلي: أفلا يكون إذن أهدى لدرس «أبي العلاء» أن يقوم به أحد أبناء بيئته؟ فأجيبك: أن نعم ... لكن هناك أشياء في هذا الدرس، وفي الأديب المدروس ينبغي أن تقدرها.
فأما في الدرس: فإني إنما حاولت فهم الكيان النفسي لأبي العلاء، وتبين سمات شخصيته الفنية قبل كل شيء، وتركت ما وراء ذلك من بقية الدرس لأدبه: لفظا، ومعنى، وموضوعا، وفي ذلك يكون ابن بيئته أهدى مني وهو باق له.
وأما في المدروس: فهناك معنيان كبيران يحلان لي درس صاحبنا:
أولهما:
أنه حين أغمض عينيه مبكرا عما حوله من ظواهر الوجود قد عكف على باطنه يستلهم مذخوره ومحفوظه، فخف نوعا ما، أثر البيئة المادية عليه، واعتمد على أقدار مشتركة من الميراث الأدبي للعربية، جعلت الصلة بينه وبين أبناء البيئات الأخرى قريبة قوية.
وثانيهما:
وهو الأجل الأخطر، أن أبا العلاء في أدب العربية قد تفرد - أو كاد - بجعل الفن القولي - كما ينبغي أن يكون الفن - أداة لفهم الكون والإنسان، كما كان الدين، وكانت الفلسفة، وكان العلم، وكان غير ذلك، من محاولات إنسانية خالدة، وبذلك أخضع مشكلات الحياة والكون الكبرى لتأمل المتفنن ووجدانه، وأشرف من ذلك على آفاق بعيدة تلاقي آفاق التفلسف والتدين والتصوف في سعتها، فدنا - بذلك كله - من نفوس متفهمي الإنسانية جميعا، بله متذوقي أدب العربية، وساغ لكل مستمتع بالفن متأمل في الوجود أن يجول في آثار أبي العلاء فيجد الخفقات الكبرى للروح الإنسانية، ويبصر من أسرار هذا الهيكل البشري ما تكشفه له أضواء الخبرة النفسية.
وبهذا القدر كان أبو العلاء قريبا من البيئات العربية - بل الشرقية أو غير الشرقية أيضا - قربا لا يقصر درسه على أبناء بيئته.
وبعد ...
فمن أجل المنهج الأدبي الداخلي واستكماله ، حاولت درس أبي العلاء وفنه على أساس نفسي ... وأدعو إلى درس أدبائنا جميعا على مثل هذا الأساس؛ لنفهم فنهم من أرواحهم لا من ألفاظهم فحسب.
أمين الخولي
على الدهر
وخامل ما نأت عنه نباهته
كأنه الجمر غطى ضوءه اليبس
هكذا قال المتوحد الحبيس أبو العلاء، ولعله عنى نفسه، فما نأت عنه قط نباهته رغم انكماشه واستتاره ... وفي هذا العصر الحديث كان أبو العلاء موضع العناية الدائمة، فمنذ بضعة وخمسين سنة كان يقارن بينه وبين ملتن الشاعر الإنجليزي ...
1
ومنذ قرابة ثلاثين عاما كان يقابل بشوبنهاور الفيلسوف الألماني ...
2
ومن ربع قرن مضى كان يدرس في الجامعة المصرية الأولى
3
حينما كان أحد أبناء الشام
4
يبعثه من مرقده ليطوف به في بلاد اليونان وإيطاليا وفرنسا، يلقى معه آلهة الحكمة والفنون ورءوس الفلاسفة وعظماء الرجال، ثم ما زال هذا الحديث حتى اليوم متصلا.
انتهى المحدثون إلى أن أبا العلاء كان فيلسوفا حقا،
5
وأن المسلمين لم يعهدوا بينهم في قديمهم وحديثهم فيلسوفا مثله، قد جمع بين الفلسفة العلمية والعملية،
6
إلى أقوال تشبه ذلك.
ولكن هذه الشخصية القوية العنيفة التي صدر عنها ذلك الأدب الغزير، واختلجت جوانح صاحبها بأشتات الخواطر والمعاني في جميع فروع المعرفة، وأقسام الفلسفة، لا تزال موضعا للدرس، ومجالا للبحث، وهذه محاولة جديدة لفهم الكيان النفسي لأبي العلاء، وإدراك العوامل المؤثرة في حياته وتوجيهها، وتقدير شخصيته العامة على أساس من الواقع الجسمي والنفسي للرجل دون إسراف في الفروض، ولا ذهاب في الاعتبارات الادعائية إلى حد بعيد ... وكأنما اطلع أبو العلاء بظهر الغيب إلى هذه المحاولة الجديدة في فهمه يوم قال:
يكررني ليفهمني رجال
كما كررت معنى مستعادا
سقط الزند 1: 158
وإذ قد ولع المحدثون بوصف الرجل بالفلسفة، ودعوه الشاعر الفيلسوف، وحكيم الشعراء، وشاعر الحكماء، وإمام الحكماء وأشباه ذلك، فإنا ندير القول على أساس من التقسيم الفلسفي فنتحدث عن:
مسألة المعرفة عند أبي العلاء
وهو في سعة من القول، وفكاك من قيود النظم. يقول في الفصول والغايات:
7 «يدرك العلم بثلاثة أشياء: بالقياس الثابت، والعيان المدرك، والخبر المتواتر.» كما يقول: «العقل نبيء، والخاطر خبيء، والنظر ربيء، ونور الله لهذه الثلاثة معين.»
8
فالمعرفة عنده ممكنة وسبيلها العقل، والمشاهدة، والخبر، وهو يؤيد ذلك في شعره ويكرره، إذ يقول:
خذوا في سبيل العقل تهدوا بهديه
ولا يرجون غير المهيمن راج
ولا تطفئوا نور المليك فإنه
ممتع كل من حجى بسراج
1: 169
9
فاسأل حجاك إذا أردت هداية
واحبس لسانك أن يقول مجازا
2: 6
تفكر، فقد حار هذا الدليل
وما يكشف النهج غير الفكر
1: 357
فيطمئن إلى هدى العقل، ويرى التفكير الصحيح سبيل الوصول، ويقول:
إذا تفكرت فكرا لا يمازجه
فساد عقل صحيح هان ما صعبا
1: 83
ولم يتناول درة الحق غائص
من الناس إلا بالروية والفكر
1: 305
ولو صفا العقل ألقى الثقل حامله
عنه ولم تر في الهيجاء معتركا
2: 133
وحسن ظنه في ذلك فقال:
إذا قرن الظن المصيب من الفتى
بتجربة جاءا بعلم غيوب
1: 102
ورأى في الاستدلال مخلصا من الحيرة:
تحير مسترشد
فوفق لما استدل
2: 217
وتحدث عن القياس حديث الواثق المطمئن، فكان من قوله في ذلك:
وقس بما كان أمرا لم تكن تره
فالرجل تعرف بعض الموت بالخدر
1: 311
أيها الملحد لا تعص النهى
فلقد صح قياس واستمر
1: 353
وفي تصديق الخبر يقول:
فاعرف لصادقك الأنباء موضعه
واجز الكذوب على ما قال تكذيبا
1: 88
ويرى تكذيب الصادق رزأ:
ومما أدام الرزء تكذيب صادق
على خبرة منا وتصديق كاذب
1: 97
وهو يمضي قدما فيحذر مما يفسد هذه المدارك للمعرفة، ويدخل الخطأ عليها فينصح بأن يتقي الحاكم بالعقل هواه وعاطفته، ولا يدع لهما سبيلا على حكمه ونظره:
ومن كان في الأشياء يحكم بالحجى
تساوى لديه من يحب ومن يقلي
2: 184
وأن يرجع مستمع الأخبار إلى عقله:
وخبره صادق بالحديث
فإن شك في ذاك فليختبر
1: 359
والحديث المسموع يوزن بال
عقل فيضوي إليه عرف ونكر
1: 281
وأما تمجيده للعقل ومقدرته فشيء يوفر الثقة التامة به، فمن قوله في ذلك يخاطب الروح:
تركت مصباح عقل ما اهتديت به
والله أعطاك من نور الحجا قبسا
2: 27
والعقل أولى بالإكرام والتصديق:
نكذب العقل في تصديق كاذبهم
والعقل أولى بإكرام وتصديق
2: 126
وعليك العقل فافعل ما رآه جميلا:
عليك العقل وافعل ما رآه
جميلا فهو مشتار الشوار
1: 326
والعقل خير مشير ضمه النادي:
فشاور العقل واترك غيره هدرا
فالعقل خير مشير ضمه النادي
1: 229
والعقل قطب المدار:
اللب قطب والأمور له رحى
فبه تدبر كلها وتدار
1: 267
ومن اهتدى بسوى العقل هلك:
من اهتدى بسوى المعقول أورده
من بات يهديه ماء طالما تبلا
2: 169
والعقل أفضل أنصاره وأعوانه:
لا أشرب الراح أشري طيب نشوتها
بالعقل أفضل أنصاري وأعواني
2: 315
والفكر حبل يناط بالثريا:
الفكر حبل متى تمسك على طرف
منه ينط بالثريا ذلك الطرف
2: 89
والعقل بحر لا يغيض:
والعقل كالبحر ما غيضت غواربه
شيئا ومنه بنو الأيام تغترف
2: 59
والعقل يحيل ليلك نهارا مشمسا:
وإنك إن تستعمل العقل لا يزل
مبيتك في ليل بعقلك مشمس
2: 33
ولا إمام لأبي العلاء سوى العقل:
كذب الظن لا إمام سوى العق
قل مشيرا في صبحه والمساء
فإذا ما أطعته جلب الرح
مة عند المسير والإرساء
1: 19
وسيرحل عن الدنيا ولا إمام له سوى العقل:
سأتبع من يدعو إلى الخير جاهدا
وأرحل عنها ما إمامي سوى عقلي
2: 183
وهذا العقل الإمام المتبوع نبي عنده:
أيها الغر إن خصصت بعقل
فاسألنه فكل عقل نبي
2: 361
وقد سمعناه ناثرا يقول: العقل نبيء ... وهو حين يطمئن إلى المعرفة هذا الاطمئنان، ويمجد العقل هذا التمجيد يشاجر السفسطة ويخالفها، ويقول:
وقال أناس ما لأمر حقيقة
فهل أثبتوا أن لا شقاء ولا نعمى
وشكك في الإيجاب والنفي معشر
حيارى جرت خيل الضلال بهم سعما
10
فنحن وهم في مزعم وتشاجر
ويعلم رب الناس أكذبنا زعما
2: 242
هذا الفتى أوقح من صخرة
يبهت من ناظره حيث كان
ويدعي الإخلاص في دينه
وهو عن الإلحاد في القول كان
يزعم أن العشر ما نصفها
خمس وأن الجسم لا في مكان
2: 333 •••
تسمع ذلك كله ومثله معه فتقول: إن المعري رجل عقلي لا يؤمن إلا للعقل وحده، وهو يرى رأي الفلاسفة النظريين من اليونان والمسلمين في الاعتماد على العقل خاصة.
11
لكن رويدك واستمع إليه، فإنه بعدما أدرك العلم بالخبر المتواتر شعر بخطر النقل على الأخبار وإفساده إياها.
والنقل غير أنباء سمعت بها
وآفة القول تقليل وتكثير
1: 259
أتاني بإسناده مخبر
وقد بان لي كذب الناقل
2: 211
فاتهم الأخبار لهذا وتساءل:
هل صح قول من الحاكي فنقبله
أم كل ذاك أباطيل وأسمار؟!
1: 257
خبرتني أمرا فقل راشدا
من أين هذا الخبر الشارد
1: 212
والشهادة يؤديها العدول بين يدي القاضي متهمة عنده:
ورب شهادة وردت بزور
أقام لنصها القاضي عدوله
2: 175
وهاجم الخبر الديني:
أتتني أنباء كثير شجونها
لها طرق أعيى على الناس خبرها
صفا دونها قس النصارى وموبذ ال
مجوس وديان اليهود وحبرها
وخطوا أحاديثا لهم في صحائف
لقد ضاعت الأوراق فيها وحبرها
1: 251
وعاب اعتماد الأديان على الأخبار:
وإذا غلبت مناضلا عن دينه
ألقى مقالده إلى الأخبار
أقسام لفظك ستة وجميعها
لا مين يلحقه سوى الإخبار
1: 342
آليت ما الحبر المداد بكاذب
بل تكذب العلماء والأحبار
ووجدت أصناف التكلم ستة
بالمين منها أفرد الإخبار
1: 270
وتعقب ذلك بما يستوفى في الكلام عن رأيه في الدين، وهو لا يقف عند مهاجمة الخبر الديني وحده بل يجاوز ذلك إلى الخبر كله، ويرى الافتراء عملا متوارثا في الناس:
وجدت أباك مفتريا حديثا
فأنت على مقص الشيخ تفري
3: 324
وتنتهي به تجربته إلى ألا يصدق خبرا:
لقد جربت حتى لم أصدق
حديثا عن قريب مدى نقيلا
2: 174
فيخرج الخبر من أن يكون عنده سبيل معرفة؛ إذ يقول:
لم تعطنا العلم أخبار يجيء بها
نقل ولا كوكب في الأرض مرصود
1: 201 •••
وندع الخبر إلى القياس الذي سمعت تقريره له، فإذا هو يبغيه فلا يستطيعه:
قد نفضت السهام أبغي المقايي
س فلم يثبت الرمية نفضي
2: 62
وإذا المقاييس قد عيت بأمور الناس:
لعمري لقد أعيا المقاييس أمرنا
فحندسنا عند الظهيرة مظلم
2: 221
وإذا هذا القياس لم يثبت للناس شيئا:
رموا فأشووا ولم يثبت قياسهم
شيئا سوى أن رمي الموت تسديد
1: 203
وهكذا هو يتهم قياسهم:
وقد بالغوا في قياس بان زخرفه
يوهي العيون ولم تثبت له عمد
1: 197
وهو لا ينكر قياس الناس لخطئهم فيه؛ بل لأن القياس نفسه عمل خاطئ؛ إذ إن أحكام الحوادث لا تقاس:
غنى زيد يكون لفقر عمرو
وأحكام الحوادث لا يقسنه
2: 297
وليست هناك نواميس ثابتة ولا أصول لهذا النظام مضطردة، فالقياس ضلال:
تروم قياسا للحوادث ضلة
وتلك أصول ليس يجمعها حصر
1: 247 •••
ولعل هذا التضليل للقياس لم يجئ إلا متأخرا، وقد سبقته مراحل أخرى نستخلصها في سهولة من شعره؛ فأبو العلاء يتشوق للمعرفة التي سمعنا إلحاحه في تقريرها، فهو يقول متلهفا في وصف الإنسان:
ويجهل حتى يسأل الفلك الذي
يدور عليه كيف بدء مداره
يحاور نجم الليل جهلا كأنه
على طول نأي طامع في انحداره
1: 310
وهو يجد الحق في دار حريزة يطوف بها متلصصا، ولا يفيده التطواف في سبيل الحق شيئا، بل هو في حندس مظلم لم يلف من يهديه إلى معلم:
طوفت في الآفاق عصرا فما
أسفرت من حندسك المظلم
سألت أقواما فلم تلف من
يهديك من رشد إلى معلم
2: 270
والجهل أغلب على الناس:
والجهل أغلب غير علم أننا
نفنى ويبقى الواحد القهار
1: 274
فهو يصرخ من الحيرة، فيقول ناثرا: يا مقبس، ويا مقتبس، إن أمرنا لملتبس.
12
ويقول: وبعلمه - أي الله - أرخيت السجوف دون المنجوف - المستخرج - وثبت القتر في الكتر
13 - أي النصل في السنام - وهكذا فالعالم حائر:
عالم حائر كطير هواء
وهواف تضمها الدأماء
14
1: 43
كأننا في قفار ضل سالكها
نهج الطريق وما في القوم خريت
1: 130
تحيرت العقول وما أساءت
دوائب في التقى متهجدات
1: 134
فالنفس قد شكت في يقين الأمر:
والنفس شكت في يقين الأمر وال
كفان إن رمتا قنيصا شكتا
1: 143
وكأنما ساد الشك عصره كله لا هو وحده:
وقد عدم التيقن في زمان
حصلنا من حجاه على التظني
2: 317
وما العلم إلا ظن فحسب:
ومن عجب دعواك علما وحكمة
وعلمك شيء قيل بالظن أو حزي
2: 368
بل قد اختلط العالم فلا تطلب لبابا صريحا:
ولا تطلبن اللباب الصريح
فقد سيط عالمنا وامتزج
1: 276
وهكذا ينفي أبو العلاء اليقين:
أما اليقين فلا يقين وإنما
أقصى اجتهادي أن أظن وأحدسا
2: 28
نعم، إنه ينفي يقين علمه بالغد في هذا الموضع الأخير، فهل تراه لا ينفي اليقين إلا في الأمور الغيبية، ولكنه لا ينفيه في عالم الشهادة ولا يبسط ظل الشك على هذا العالم ...؟
15
إن حسبت ذلك فاستمع إليه؛ إذ ينفي العلم في الظواهر الطبيعية وتعليلها فيقول:
لا يعلم الشري ما ألقى مرارته
إليه والأري لم يشعر وقد عذبا
16
سألتموني فأعيتني إجابتكم
من ادعى أنه دار، فقد كذبا
1: 82
وإذ يعلن أنه لم يلق جوابا لسؤاله عن الحقائق - مطلقا - إلا حرف جحد:
سألت عن الحقائق كل قوم
فما ألفيت إلا حرف جحد
1: 231
فعنده أن لا سبيل إلى المعرفة:
ليل بلا نور أجن بمهمه
حبس الأدلة ليس فيه منار
1: 276
والناس في تيه بلا أمر
والله يفصل عنده الأمر
17
1: 277
وهو يقسم أنه لا هو يدري ولا عالمه يدري - مطلقا:
آليت ما أدري ولا عالمي
من كوكبي في الحندس الداجي
1: 174
وقد قدر ألا تسير الأمور ولا تختبر، فتلك طبيعتها:
الليل والإصباح والقيظ وال
إبراد والمنزل والمقبره
كم رام سبر الأمور من قبلنا
فنادت القدرة: لن تسبره
1: 301
والرأي عنده ما قال (في الفصول 271)، والعقول ضالة في ملك الله أشد ضلال. •••
ولكن أهذا هو العقل الذي بلغ لدى أبي العلاء من الشأن ما بلغ ومجده هذا التمجيد كله ...؟! نعم، إنه ليس سلس القياد وهو غير عليم ينقاد حينا وينفر حينا:
وأشعر أن العقل يصحب تارة
وينفر أخرى وهو غير عليم
2: 255
وأن الطبع يحاربه فيفله، كالشمس يسترها الغمام وظله:
يتحارب الطبع الذي مزجت به
مهج الأنام وعقلهم فيفله
ويظل ينظر ما سناه بنافع
كالشمس يسترها الغمام وظله
2: 160
وها هم أولاء الناس لم يغنهم طول إعمال عقولهم:
وقد أعمل الناس أفكارهم
فلم يغنهم طول إعمالها
2: 213
إذن فهي سفسطة، وليس ما أصلوه من أصول إلا وهما توهموه:
كبار أناس مثل جلة سائم
يربون أطفالا كما ارتضع البهم
توهم بعض الناس أمرا فأصلوا
يقين أمور بات يتبعها الوهم
2: 219 •••
هكذا قال المعري في مسألة المعرفة: فمن أي المفكرين نعده ...؟
هل نعده في السفسطائيين؛ لأنه نفى المعرفة وأقسم على نفيها، ونفاها في الدينيات والدنيويات وفي الغيب والشهادة ؟ لا، لن نعده في السوفسطائيين؛ لأن المتفلسف السوفسطائي رجل يطمئن إلى عجز العقل عن المعرفة، ويلتزم ذلك ولا يحيد عنه، فلا يبتغي الحقائق ولا يلتمس القياس ولا يجعل العقل ندا، وصاحبنا - على ما سمعنا - قد أثبت إمكان الوصول إلى الحقيقة وعدد وسائطها، وشاد بذكر العقل على نحو ما رأينا، وأكثر في ذلك كله إكثارا واضحا ...
فهل نعد المعري لا أدريا شكاكا؟
18 ... لا أيضا، لن نعده في الريبيين ... لأن المتفلسف اللاأدري رجل لا يرى طريقا للتثبت ولا سبيلا للاستيقان، ويلتزم ذلك فلا يستيقن حينا ما، ويأتم بالعقل حينا ما، كما فعل أبو العلاء وشهدنا ما قال في ذلك ...
هلا نعده عقليا؛ لأنه رفع من شأن العقل هذه الرفعة وجعله نبيا، وابتغى علم الغيوب بالظن والتجربة ودفع الحيرة بالاستدلال ... و... وإلخ مما قدمنا قريبا؟ ولكن لا أيضا، لن نعده في العقليين؛ لأنهم ثابتون في مكانهم، لا يثبون من طرف إلى طرف بين يوم وآخر، ولا يرون العالم مجموعة غير قابلة للتعليل حتى في مرارة المر وحلاوة الحلو وفي القيظ والإبراد، ولا يقرون سيطرة الشك واضطراب النواميس وحكم القدر بألا نسبر الأشياء ولا نختبر، كما سمعنا أبا العلاء ينادي ...
فماذا يكون أبو العلاء إن لم يكن سفسطائيا ولا شكاكا ولا مستيقنا؟
هذا سؤال نرجئ الجواب عنه الآن ... نرجئه حتى نفرغ من الإجابة عن سؤال أسبق منه، وهو:
هل لأبي العلاء آراء ثابتة؟
أمن الممكن أن يكون أبو العلاء قد تنقل في مسألة المعرفة هذا التنقل ولكنه فيما وراء ذلك - من أبحاث الفلسفة في شئون العالم والإنسان - قد التزم آراء بعينها وثبت عليها حياته كلها أو دهرا منها؟ هذا ما نريد النظر فيه.
ولا نقصد من ذلك إلى مشكلات الإلهيات ومغيباتها ولا معقدات الرياضيات وغوامضها، وما إلى ذلك من دقائق الفلسفة، نلتمس فيها للمعري رأيا ثابتا ... بل نؤثر أن ننظر في الفلسفة العملية من الشئون الإنسانية التي تمس حياة الرجل من حيث هو إنسان مفكر، لا بد أن يتأثر سلوكه بتفكيره كما هو الأصل في الفيلسوف دائما ... وعلى هذا سننظر فيما عرف وشاع من زهد أبي العلاء وتحريم الحيوان ومجافاة المرأة وكراهة النسل، وما إلى ذلك، نتتبع فيه رأيه واحتجاجه، ونرى مقدار ثباته على رأيه والتزامه له، ومتى وكيف كان منه ذلك ...؟
زهد أبي العلاء
وننظر إلى الزهد والنسك بعامة، فنسمع أبا العلاء يقول ناثرا: «انسك وفي مشيك فسك - امش هونا - فعل جائع وجد فترك لا مضطر أكل فأبرك، وأعان الله رجلا كالعود الهرم لا حلب عنده ولا طلب.»
19
وأما في الشعر فهو المفضل عيش الفاقة على عيش الغنى، وزي الراهب على زي الملك:
وأفضل من عيش الغنى عيش فاقة
ومن زي ملك رائق زي راهب
1: 980
ويأمر بالارتياح إلى النسك وأصحابه:
إلى النسك ارتح وأصحابه
إذا فاتك القوم لم يرتح
1: 187
ويجعل النسك فوزا يأمر به:
ففوزوا بنسك في الحياة وثبتوا
لأقدامكم في الأرض قبل انهيارها
1: 130
وعصا النسك عنده أحمى من رمح عامر العامري وأشرف من قوس حاجب بن زرارة:
عصا النسك أحمى ثم من رمح عامر
وأشرف عند الفخر من قوس حاجب
1: 96
وهو يبين هذا النسك، فيرى أن الحق منه ما كان عن يسر في صحة واقتدار، وذلك هو الدين عنده:
الدين هجر الفتى اللذات عن يسر
في صحة واقتدار منه ما عمرا
1: 295
ويكون النسك والمرء شارخ، أما التنسك بعد سن الأربعين فضرورة:
تنسكت بعد الأربعين ضرورة
ولم يبق إلا أن تقوم الصوارخ
فكيف ترجى أن تثاب وإنما
يرى الناس فضل النسك والمرء شارخ
1: 188
ولا قيمة عند هذا الزاهد لكل ما تعطى وتملك من حطام:
وتضن بالشيء القليل وكل ما
تعطى وتملك ما له مقدار
1: 267
وأهون بالمال عنده:
والمال كالتابع أهون به
ورب يسر في قوام العدم
2: 277
وعنده أن الغنى أصناف ثلاثة: فالغنى الأكبر هو الموت، والغنى الأوسط القناعة، وثالثهما غنى المال، فاستغن عن المحظور بالمباح.
20
وهو يسوي بين الغنى والفقر
وإن الغنى والفقر في مذهب النهى
لسيان بل أعفى من الثروة العدم
سقط الزند 3: 51
الفقر أروح في الحياة من الغنى:
والفقر أروح في الحياة من الغنى
والموت يجعل خائلا كمخول
21
2: 201
والفقير أقل الناس هموما وحسرة كفاقد الرشد:
أقل بني الدنيا هموما وحسرة
فقيد غنى للمال والرشد عادم
2: 226
وقد احتقر أصحاب التنعم وعدهم نعاما:
كأن ذوي التنعم في البرايا
نعام راح يلتقط الهبيدا
1: 218
وهتف المعري هتفة أشبه بهتاف المسيح - عليه السلام: من شاء التخلص من أذى الدنيا فليحط أثقاله وليتبعني:
حياة وموت وانتظار قيامة
ثلاث أفادتنا ألوف معان
فلا تمهرا الدنيا المروءة إنها
تفارق أهليها فراق لعان
ولا تطلباها من سنان وصارم
ضراب بيوم أو بيوم طعان
وإن شئتما أن تخلصا من أذاتها
فحطا بها الأثقال واتبعاني
2: 310
لو أن كل نفوس الناس رائية
كرأي نفسي تناءت عن خزاياها
وعطلوا هذه الدنيا فما ولدوا
ولا اقتنوا واستراحوا من رزاياها
2: 350
وحول بلباقته اللفظية أسماء الجواهر والمعادن إلى ألم وإيذاء، فقال في ذلك ناثرا:
الفضة تفض خاتم الديانة، والدر يدر المعصية، والنضار يترك الأوجه غير نضرات
22
كما يقول شاعرا:
وما نلت مالا قط إلا ومال بي
ولا درهما إلا ودر بي الهم
سقط 2: 51
ما فضة الإنسان إلا فضة
والتبر تتبير وجدك ظاهر
والدر در للهموم تسره
إن الجواهر بالأذاة جواهر
1: 265
وحصلت من ورق على ورق
بيض يشق متونها الحبر
فضت نهاك بفضة سبكت
ولقد قضى بتبارك التبر
1: 278
وطالما هون أبو العلاء من أمر الملك:
لكون خلك في رمس أعز له
من أن يكون مليكا عاقد التاج
الملك يحتاج آلافا لتنصره
والميت ليس إلى خلق بمحتاج
1: 170
فعنده أن المليك هو الفقير المحتاج:
والملك فينا هو الفقير لما
يلزمه من معونة الخدم
2: 273
وهو يحرض على ترك لذات الملوك لهم:
فاترك لأهل الملك لذاتهم
فحسبنا الكمأة والأحبل
23
1: 162
وكره لنفسه أن يكون ملكا وجهر بذلك مرارا:
وما أختار أني الملك يجبى
إلي المال من مكس وخرج
1: 171
أسر أن كنت محمودا على خلق
ولا أسر بأني الملك محمود
لا كانت الدنيا فليس يسرني
أني خليفتها ولا محمودها
1: 208
محمودنا الله والمسعود خائفه
فعد عن ذكر محمود ومسعود
1: 230
فمن مبلغ عني المآلك معشرا
عليا ومحمودا وخانا وآلكا
فما أتمنى أنني كأجلكم
ولكن أضاهي المقترين الصعالكا
2: 132
ويرى رفض السيادة على الناس ولو سودوا الشخص لأنهم أشرار:
لا خير في الناس إن ألقوا سيادتهم
إليك طوعا فخالفهم ولا تسد
1: 277
وينهى عن ولاية الشئون العامة إمارة أو إمامة أو خطابة:
أنهاك أن تلي الحكومة أو ترى
حلف الخطابة أو إمام المسجد
وذر الإمارة واتخاذك درة
في المصر تحسبها حسام المنجد
تلك الأمور كرهتها لأقارب
وأصادق فابخل بنفسك أو جد
1: 234
ويرى أن العلا جملة يجلب الشر:
والشر يجلبه العلاء وكم شكا
نبأ علي ما شكاه قنبر
1: 263
ويحذر من لصوص الأماني وويلات النفس بها:
فاحذر لصوص الأماني فهي سارقة
ردت عن الدين قلب المرء منقوبا
1: 86
فويح النفس من أمل بعيد
لأية غاية في الأرض تجري
1: 322
ويحرض على أعمال النسك ومظاهر الزهد؛ من مشاركة الفرس الشعير إذا غلا البر، والتحلية بالزبيب، والائتدام بالزيت، والشرب في الفخار، والاكتفاء بالساتر من الثياب، وما إلى ذلك، وترى هذا في نثره إذ يقول: «بلغة من المأكل وحاجب من السترات ومذهب للظمأ من الأفواه خير من مال غمر ونهي وأمر وعسل وخمر.» فصول 391.
كما تقرؤه في شعره:
وإذا غلا البر النقي فشارك ال
فرس الكريم وساو طرفك تمجد
واجعل لنفسك من سليط ضيائها
أدما ونزر حلاوة من عنجد
24
وارسم بفخار شرابك لا ترد
قدح اللجين ولا إناء العسجد
يكفيك صيفك من ثيابك ساتر
وإذا شتوت فقطعة من برجد
25
1: 234
جشب كفاك مطاعما وعباءة
أغنتك أن تتخير الأوبار
1: 270
وأنت إذا استعملت أكواب عسجد
أسأت ويجزيك الإناء من الصفر
1: 308
قض الزمان بأجمال وتمشية
للأمر إن وراء الروح مغولها
والورد يكفيك منه شربة حملت
في الركب إن منعتك الأرض جدولها
2: 171
وإن طلب الرزق طالب فليطلبه في الروض لا في الوغى بأسنة ومناصل، وليتشبه بالطير تغدو خماصا وتعد اليسار ملء الحواصل:
واطلب الرزق بالمرور من الشجراء
لا من أسنة ومناصل
وتشبه بالطير تغدو خماصا
وتعد اليسار ملء الحواصل
2: 216
ولا يتطلع المتنسك لجمال فهذا مفسد لنسكه:
إذا قيل إن الفتى ناسك
ورام الجمال فلا نسك له
2: 181 •••
وحين يرشد إلى ذلك لا يترك أن يصف أمر نفسه في النسك وأنه فعل مثل هذا الذي نصح به، فأبو العلاء في قوله رجل لا يحب ولا يكره، عاش من أيسر حل وتشبه بظل:
يا صاح ما أهوى وما أقلي
ثقلي علي فلا تزد ثقلي
2: 206
عشت من أيسر حل
وتشبهت بظل
2: 206
يفرح باليسير ويقنع:
من مذهبي ألا أشد بفضة
قدحي ولا أصغي لشرب معوج
لكن أقضي مدتي بتقنع
يغني وأفرح باليسير الأروج
هذا ولست أود أني قائم
بالملك في ثوبي أغر متوج
1: 173
فيقنعه ستره ودفئه قد شرب بالخزف وتغنى في الأمور، فنابت قدماه عن المركب:
مقنعي من الزمان ستري ودفئي
من لباس راق العيون وفرش
قد شربت المياه بالخزف الوخ
ش فأغنى عن محكمات بخرش
26
وتغنيت في الأمور فنابت
قدماي عن ركوب دهم وبرش
2: 54
قوته غناه، وطمره ساتره، والتقى كنزه:
قوتي غناي وطمري ساتري وتقى
مولاي كنزي وورد الموت موعودي
2: 230
لباسه ليس بالملون، وقوته يأبى مثله الفصيح والألكن:
لباسي البرس فلا أخضر
ولا خلوقي ولا أدكن
27
وقوتي الشيء أبى مثله
فصيح هذا الخلق والألكن
2: 287
قد ترك أعمال الدنيا لا يحفر بئرا ولا يعرش نخلا ولا ولا ...
ما أنا بالواغل يوما على الش
رب ولا مثلي بالوارش
28
لا أعرش الجفر ولا النخل في ال
دنيا وما تبقى يد العارش
2: 53
تحريم الحيوان
وإذا نظرنا إلى النسك والزهد نظرة خاصة تفصيلية، فسنجد أبا العلاء يكره الذبح والدم؛ إذ يقول ناثرا: إذا غمس القوم أيديهم في الدم؛ فاغمس يدك في ماء الغدير. فصول: 129.
وعنده أن لا نسك للأسد ما دامت تخافه النعم والوحش:
ما دامت الوحش والأنعام خائفة
فرسا فما صح أمر النسك للأسد
1: 227
ويكفيه إدام الزيت، لم يرق له دم ولا مس الروح بسبب جريه ألم:
يكفيك أدما سليط ما أريق له
دم ولا مس روحا إذ جرى ألم
2: 229
فهو يعيب على الناس أكل أكباد الحيوان وطلبهم الممنع من هذه الأكباد:
ولم تكفكم أكباد شاء وجامل
ووحش إلى أن رمتمو كبد الضب
1: 95
ولو أنصفوا لأعفوا لحوم السوام من الطبخ والإغلاء والإنضاج:
لو أنصفوا نزهوا سوامهمو
عن غليان الكسور في البرم
1
2: 272
وهم بأكلهم اللحوم يجعلون أجوافهم مقابر، ويصونون دماءهم ويجعلون دماءها جبارا:
قد صير الإنسان في أحشائه
قبرا لغانية عن الإقبار
ما جاد من دمه المصون بقطرة
وأجاد وصف دمائها بجبار
1: 342
وهو ينهى عن إرهاف المدى للاعتباط نهيه عن سل السيف للأقران:
ولا ترهف مدى لعبيط نحض
ولا تشهر على قرن صقيلا
2
2: 174
ويعلنها رقة حس، كره معها مظاهر العنف في هذه الدنيا، فنهى عن طلب الدنيا والعيش بالسيف:
ولا تطلباها من سنان وصارم
بيوم ضراب أو بيوم طعان
2: 310
ونهى عن سل السيف مطلقا:
ولا تشيمن حساما كي تريق دما
كفاك سيف لهذا الدهر ما غمدا
1: 215
كفتك حوادث الأيام قتلا
فلا تعرض لسيف أو لرمح
1: 186
وكره الحديد حتى المرود يسبر به الجرح إذ اقترن عنده بالسيف، فنهى عن استعماله:
فإن ترشدوا لا تخضبوا السيف من دم
ولا تلزموا الأميال سبر الجرائح
1: 184
وهكذا أمن الحيوان والطير كما أمن السمك إذ نهي عن أكله كغريض الذبائح:
فلا تأكلن ما أخرج الماء ظالما
ولا تبغ قوتا من غريض الذبائح
ولا تفجعن الطير وهي غوافل
بما وضعت فالظلم شر القبائح
1: 184
ولم يقف التحريم عند ذبحها، بل رأى أبو العلاء أن الحيوان إنما يعمل لنفسه، فما خلقت الخيل إلا لتركض في حاجاتها:
لم تخلق الخيل من عر ومصمتة
إلا ليركض في حاجاته الفرس
2: 21
وما جمعت إلا لأنفسها النحل، ولو علمت بمشتارها ما عسلت:
خف الله حتى في جنى النحل ذقته
فما جمعت إلا لأنفسها الدبر
3
1: 245
تق الله حتى في جنى النحل شرته
فما جمعت إلا لأنفسها النحل
2: 148
فما أحرزته كي يكون لغيرها
ولا جمعته للندى والمنائح
1: 184
لو تعلم النحل بمشتارها
لم ترها في جبل تعسل
2: 164
وهكذا نهى عما يعطي الحيوان فنهى عن اللبن إذ قال:
ولابيض
4
أمات أرادت صريحه
لأطفالها دون الغواني الصرائح
1: 184
وكره مشاركة الجدي في لبن أمه:
لا أشرك الجدي في در يعيش به
ولا أروع بنات الوحش والضان
2: 316
لا أفجع الأم بالرضيع ولا
أشرك هذا الفرير في اللبن
2: 324
كما نهى عن البيض:
فلا تأخذ ودائع ذات ريش
فمالك أيها الإنسان بضنه
2: 295
كما نهى عن عسل النحل:
ودع ضرب النحل الذي بكرت له
كواسب من أزهار نبت فوائح
1: 184
قد غدت النحل إلى نورها
ويحك يا نحل لمن تكسبين؟
يجيء مشتار بآلاته
فيلسب الأرى ولا تلبسين
5
أتحسبين العمر علما به؟
لا بل تعيشين ولا تحسبين
2: 332
ولم يقف الأمر عند الذبح، ولا أخذ الثمار الحيوانية بل كره أبو العلاء كل ترويع للطير والحيوان ونهى عنه:
لا ترع الطائر يغذو بجه
يلتقط الحب لكي يمجه
6
1: 168
وبكى الطائر يضربه فتى فيقتله، أو تنصب له الحبالة فيقع فيها، وهو المغني الهاتف:
وابك على طائر رماه فتى
لاه فأوهى بفهره الكتفا
أو صادفته حبالة نصبت
فظل فيها كأنما كتفا
بكر يبغي المعاش مجتهدا
فقص عند الشروق أو نتفا
كأنه في الحياة ما فرع ال
غصن فغنى عليه أو هتفا
2: 94
ووصف في تفصيل مصرع حمامة في اللزوميات 1: 252.
وقال عن نفسه: إنه لا تخافه الظبيات ولا الطير؛ لأنها تشبهه في الضعف:
فيا طائر ائمني ويا ظبي لا تخف
شذاي فما بيني وبينكما فرق
2: 103
وما الظبيات مني خائفات
وردن على الأصائل أو ربضنه
2: 295
لقد أمنتني الأدماء أضحت
تراعي في مراتعها طليا
3: 363
وآلمه ضرب الجمل واعتده ظلما له وطلب الرفق به:
يا ضارب العود البطيء وظهره
لا وزر يحمله كوزر الضارب
ارفق به فشهدت أنك ظالم
في ظالمين أباعد وأقارب
1: 116
كما رابه ضرب العير بغير ذنب وعده جهلا، ووصف عناء هذا العير وما يلقاه:
لقد رابني مغدى الفقير بجهله
على العير ضربا ساء ما يتقلد
يحمله ما لا يطيق فإن ونى
أحال على ذي فترة يتجلد
يظل كزان مفتر غير محصن
يقام عليه الحد شنعا فيجلد
تظاهر أبلاد الرزايا بظهره
كشجيه فاعذر عاجزا يتبلد
1: 191
بل لم تقف شفقته عند المستأنس من الحيوان إنما تجاوزته إلى الوحش والهوام، فنهى عن طرد الوحش نفسه:
لا تطرد الوحش فما يلبث ال
مطرود في الدنيا ولا الطارد
1: 212
وكره قتل البرغوث (فصول 356) وعد تسريحه إياه خيرا من درهم تعطيه لمحتاج، وسوى بينه وبين الملك في حب الحياة:
تسريح كفي برغوثا ظفرت به
أبر من درهم تعطيه محتاجا
لا فرق بين الأسك الجون أطلقه
وجون كندة أمسى يعقد التاجا
كلاهما يتوقى والحياة له
حبيبة ويروم العيش مهتاجا
1: 168
هذا زهد أبي العلاء وطعامه وصلة ما بينه وبين الحيوان أعلاه وأدناه، وإحساسه لآلامه فكيف نظره هو إلى الحياة؟
كراهته الحياة
لقد انصرفت نفس أبي العلاء عن الحياة وبرم بها ناثرا وشاعرا، فقال: إني بالحياة لبرم
1 ... ما البقاء إلا طول شقاء، والحياة ظلمة ليس فيها إياة
2
وفي شعره يقول: إن البقاء رزء:
بقائي في الدنيا على رزية
وهل أنا إلا غابر مثل ذاهب
1: 100
والدعاء له بطول البقاء إنما هو دعاء عليه:
دعا لي بالحياة أخو رداد
رويدك إنما تدعو عليا
2: 363
وحب الدنيا غرور:
وحب الأنفس الدنيا غرور
أقام الناس في هرج ومرج
1: 171
وحبها أس إمامة الجهل:
وحبك هذي الدار أس إمامة
لجهلك والبادي على باطن ستر
1: 245
ومحبها رهين ذلة وصغار:
ومن هوي الدنيا الكذوب فإنه
رهين بثوبي ذلة وصغار
1: 311
وتفنن في التنفير من المعيشة والبقاء، فالعيش علة، والردى هو البرء منها:
وما العيش إلا علة برؤها الردى
فخلي سبيلي أنصرف لطياتي
1: 146
والعيش حرب يضع الحمام أوزارها:
والعيش حرب لم يضع أوزارها
إلا الحمام وكلنا أوزار
1: 273
وهو في الحياة عان تفك المنية إساره:
ومن العجائب أنني عان بها
أرجو المنية أن تفك إساري
1: 340
وقد طال بالحياة وقوفه وراء الجسر ينتظر العبور:
طال وقوفي وراء جسر
وإنما ينظر العبور
1: 261
عبر الناس فوق جسر أمامي
وتخلفت لا أريد عبورا
1: 302
والحياة صوم ويوم الممات عيد:
صمت حياتي إلى مماتي
لعل يوم الحمام عيد
1: 205
أنا صائم طول الحياة وإنما
فطري الحمام ويوم ذاك أعيد
1: 208
طال صومي ولست أرفع سومي
ووفودي على المنية فطر
1: 280
وكم تمنى في الحياة حال الجماد لا يحس ولا يشتهي:
عز الذي أعفى الجماد فما ترى
حجرا يغص بمأكل أو يشرق
متعريا في صيفه وشتائه
ما ريع قط لملبس يتخرق
متجلدا أو خلته متبلدا
لا دمع فيه بفادح يترقرق
لا حس يؤلمه فيظهر مجزعا
إن راح يضرب ملطس أو مطرق
3
لم يغد غدوة طائر متكسب
وافاه يلقط أجدل أو زرق
4
2: 109
أما الجماد فإني بت أغبطه
إذ ليس يعلم إما زاد أو محقا
لا يشعر العود بالنار التي أخذت
فيه ولا الأصهب الداري إذ سحقا
2: 115
أجسما فيه هذي الروح هلا
غبطت لفقدها الألم السلاما
2: 349
تمنيت أني من هضاب يلملم
إذا ما أتاني الرزء لم أتلملم
2: 252 •••
وأبو العلاء لم يفته التفكير في الانتحار، فهو يقول: لو أمنت التبعة لجاز أن أمسك عن الطعام والشراب حتى أخلص من ضنك الحياة، ولكن أرهب غوائل السبيل (ف360).
وذكر مثل هذا في الغفران (124) فقال: قد كدت ألحق برهط العدم من غير الأسف ولا الندم، ولكنما أرهب قدومي على الجبار ولم أصلح نخلي بإبار ... ويذكر بعد ذلك رأي بعض الحكماء في مخالفة هذا، وحكمة الله في حجز الرجل عن الموت؛ لئلا يرغب كل من احتدم غضبه في الموت، (انظر 124، 125).
ويعود إلى فضل الموت بعد يسير (ص127) فيقول: وإن رمس الهالك لبيت الحق وإن طرق بالملم الأشق على أنه يغني الثاوي به بعد عدم، ويكفيه المؤنة مع القدم، وإن الجسد لمن شر خبء يبعد من سبي وسبء، قال الضبي:
ولقد علمت بأن قصري حفرة
ما بعدها خوف علي ولا عدم
فأزور بيت الحق زورة ماكث
فعلام أحفل ما تقوض وانهدم
2: 277
وما زالت العرب تسمي القبر بيتا، وإن كان المنتقل إليه ميتا، قال الراجز:
اليوم يبني لدويد بيته
يا رب بيت حسب بنيته
ومعصم ذي برة لويته
لو كان للدهر بلى أبليته
أو كان قرني واحدا كفيته
هذا من حديثه عن كره الحياة، أما حديثه في ذم الدنيا وبيان مساوئها فشيء لم أعرض له، وهو يوزن في الكثرة بما قيل في كرهها ويتصل به. •••
وإذا زهد أبو العلاء هذا الزهد وكره الحياة هذه الكراهية فكيف نظر إلى جماعات الناس في صورها الصغرى أو الكبرى ...؟ كيف نظر إلى الأسرة والمرأة ...؟ وكيف نظر إلى الشعب والأمة ...؟
الأسرة والمرأة
كره أبو العلاء الأسرة فكره المرأة ودعا إلى مجانبتها، فقال: إياك والجنب إلى زينب، ولا يغرينك النقاب بما تحت الحقاب، فإن النفس موكلة بالضلال
1 ... وبين في شعره مساوئ المرأة كثيرا فهي تارة عنده كالعقرب:
وإنما الجود في مساربها
كربة السم في تسربها
1: 117
وتارة حبل غي:
ألا إن النساء حبال غي
بهن يضيع الشرف التليد
1: 207
والنساء كالأسود يجب توقيهن:
توقوا سبيل الغانيات فكلها
كليث الشرى والطيب فيها فرانق
2
2: 105
وهن عنده مثال ضعف العقل:
في الحرب عقل رجال إن همو قتلوا
وفي الحجا عقل نسوان لها مسك
3
2: 129
كما أنهن أذى وكيد:
ولولا أنهن أذى وكيد
لما أصبحن في كلل حبسته
والنساء من جميع الأديان سواء في ذلك:
وساو لديك أتراب النصارى
وعينا من يهود ومسلمات
1: 155
وصاحبنا يرثي لمن يلد الإناث ويعدد متاعبهن:
وإن تعط الإناث فأي بؤس
تبين في وجوه مقسمات؟
يردن بعولة ويردن حليا
ويلقين الخطوب ملومات
ولسن بدافعات يوم حرب
ولا في غارة متغشمات
وقد يفقدن أزواجا كراما
فيا للنسوة المتأيمات
يلدن أعاديا ويكن عارا
إذا أمسين في المتهضمات
يرعنك إن خدمن بغير فن
إذا رحن العشي مخدمات
1: 152
ودفنهن إحدى المكرمات والدفن أوفى لهن من الكلل والخدور، وزيارة قبر الأوانس خير من أن يقال عرائس:
ودفن والحوادث فاجعات
لإحداهن إحدى المكرمات
1: 125
ودفن الغانيات لهن أوفى
من الكلل المنيعة والخدور
1: 352
إن الأوانس أن تزور قبورها
خير لها من أن يقال عرائس
2: 26
وإذ كان هذا شأنهن فبدء السعادة أن لم تكن خلقت امرأة:
بدء السعادة أن لم تخلق امرأة
فهل تود جمادى أنها رجب
1: 65
وهو يذكر عن فتنتهن ما شاء الله أن يذكر، فهن ظالمات فوارس فتنة أعلام غي:
أولات الظلم جئن بشر مظلم
وقد واجهتنا متظلمات
فوارس فتنة أعلام غي
لقينك بالأساور معلمات
1: 151
وسواس حليهن كوسوسة إبليس:
أبلست من وسواس حلي خلته
إبليس وسوس في صدور الناس
2: 43
والمعصرات منهن عواصف صنيعها الإعصار:
والمعصرات من الخراد عواصف
كالمعصرات صنيعها إعصار
1: 267
وعلى هذا الأساس جاءت آراؤه في تعليمهن وعبادتهن واختلاطهن وحجابهن ونظام حياتهن حتى انتهى إلى أن خدر العروس المحببة أدهى وأفتك من عريسة الأسد:
4
خدر العروس وإن كانت محببة
أدهى وأفتك من عريسة الأسد
1: 227
وأرى العروس تحجبت في خدرها
كمعرس الآساد في الأخدار
1: 345
فقبح الزواج والزوجة:
تزوجتها وهي فيما تظن
شمس الضحى بأواق ونش
5
ينوش بها القلب أوطاره
فليت مآربه لم تنش
عروسك أفعى فهب قربها
وخف من سليلك فهو الحنش
2: 54
فلو وفق المرء لم يتزوج والمرأة لم تزف:
لو وفق المرء لم يبهش إلى امرأة
أو الغريرة لم تزفف إلى رجل
6
2: 192
بل نهى عن الزواج إن لم يملك المرء فراق الدنيا سريعا:
فإن أنت لم تملك وشيك فراقها
فعف ولا تنكح عوانا ولا بكرا
1: 283
وأمر بمقاومة الغريزة والكف عن الزواج:
فازجر غريزتك المسيئة جاهدا
واستكف أن تتخير الأصهارا
1: 274
وجعل الخصاء خيرا من زواج الحرة فكيف بغيرها، وقسا في ذلك لفظه:
خصاؤك خير من زواجك حرة
فكيف إذا أصبحت زوجا لمومس
وإن كتاب المهر فيما التمسته
نظير كتاب الشاعر المتلمس
فلا تشهدن فيه الشهود وألقه
إليهم وعد كالعاثر المتشمس
2: 32
النسل
ومهما يكن رأي أبي العلاء في الزواج فإنه يرى الأمر الأحزم عدم النسل، فيقول: أظعن عن الدنيا وما أترك فيها عرسا تأيم ولا ولدا ييتم وذلك الأمر الأحزم، إما يترك الإنسان ولده للشقاء إما ضعيفا يظلم وإما قويا اهتضم وكلا الرجلين لا يسلم (فصول 271).
وهو يذكر هذا الحزم في شعره إذ يتسمح في الزواج لمن خاف المأثم فينصح له بألا ينسل:
نصحتك لا تنكح فإن خفت مأثما
فأعرس ولا تنسل فذلك أحزم
2: 220
كل على مكروهه مبسل
وحازم الأقوام لا ينسل
2: 164
وليست تلك نصيحته للإنسان فحسب بل إن هديت الورقاء لا تبني وكرا لفراخها كالإنس:
إن كنت يا ورقاء مهدية
فلا تبني الوكر للأفراخ
1: 190
والطيور كلها لو علمت علمنا وشعرت بما هو كائن لما اتخذت لأفراخها أوكارا:
هل تعلم الطير الغوادي علمنا ؟
أم لا يصح لمثلها أفكار؟
لو أنها شعرت بما هو كائن
لم تتخذ لفراخها الأوكار
1: 275
وهو يأمر الطير بألا تفعل:
يا طائر اظعن من الدنيا ولا تكر
للفرخ واعتش للأرزاق وابتكر
1: 315
فالإنسان بذلك أولى ولذا أمره بترك النسل:
دع النسل إن النسل عقباه ميتة
ويهجر طيب الراح خوفا من السكر
1: 305
وقد عد أبو العلاء النسل ذنبا لا إقالة له فيقول:
أرى النسل ذنبا للفتى لا يقاله
فلا تنكحن الدهر غير عقيم
2: 256
وعده جناية على الأولاد مهما يكن مركزهم في الحياة:
على الولد يجني والد ولو انهم
ولاة على أمصارهم خطباء
وزادك بعدا من بنيك وزادهم
عليك حقودا أنهم نجباء
يرون أبا ألقاهمو في مؤرب
من العقد ضلت حله الأرباء
1: 31
ومن هنا كانت خير النساء العقيم:
إذا شئت يوما وصلة بقرينة
فخير نساء العالمين عقيمها
2: 227
والعقم خير للمرأة نفسها لو رشدت:
قد ساءها العقم لا ضمت ولا ولدت
وذاك خير لها لو أعطيت رشدا
ما يأخذ الموت من نفس لمنفرد
شيئا سواها إذا ما اغتال واحتشدا
1: 215
وسبب ذلك عنده - على ما كرره - أن النسل فرش لهموم الفتى:
والنسل فرش لهموم الفتى
والعقل مسلوب من الفارش
1
2: 53
والنسل أذى للأم:
أحاضنة الغلام ذممت منه
أذاك فأرضعي حنشا وضمي
فلو وقفت لم تسقي جنينا
ولم تضعي الوليد ولم تهمي
لهان على أقاربك الأداني
قيامك عن خديج غير تم
2: 265
وهو مع ذلك شقاء للوليد حتى لو أن الابن عق أباه لكافأه على جرمه ضده:
جنى أب دفع ابنا للردى غرضا
إن عق فهو على جرم يكافيه
2: 356
ويقول أبو العلاء: إنه لو كان كلبا لما هان عليه أن يلقى جروه ما يلقى الناس في الحياة:
لو اني كلب لاعترتني حمية
لجروي أن يلقى كما لقي الإنس
2: 13
وما دامت النهاية الموت والنسل عبثا وتربية الأولاد لريب المنون غلط فاشتغل بما عساه ينفع لا بالنسل:
فدونك شغلا ليس هذا لعله
يعود بنفع لا كشغلك بالنسل
أبوك جنى شرا عليك وإنما
هو الضب إذ يسدي العقوق إلى الحسل
2: 184
وتفنن في بيان هذه المعاني فتمنى عقم حواء ولم يهج تفكيره إلا لوم آدم، وما إلى ذلك من بيان شر النسل وخطأ الناسلين.
الوحدة
وكذلك كان رأيه في المجتمع الكبير - وهو الأمة - رأي النفرة منه والهرب، فقال: «واهرب إلى الفضاء الإمليس من شر الجليس، والله ثاني المنفردين.» (فصول ص152).
وأعلن في الشعر أن شعاره «قاطع» إذا كان شعار تنوخ في القديم «واصل».
فر من هذه البرية في الأر
ض فما غير شرها لك حاصل
فشعاري «قاطع» وكان شعارا
لتنوخ في سالف الدهر «واصل»
2: 216
فالرأي عنده هجران الدنيا وساكنيها:
فالرأي هجرانك الدنيا وساكنها
فأنت من جود هذي النفس منجود
1: 201
وبالغ في العزلة حتى طلبها حيا وميتا فتمنى ألا يشهد الحشر في الناس:
فيا ليتني لا أشهد الحشر فيهم
إذا بعثوا شعثا رءوسهم غبرا
1: 284
وطلب أن يوسد بموضع لم يحفر فيه قبر لأحد وجعل هذا رتبة لقبره حسبها من رتبة:
إذا حان يومي فلأوسد بموضع
من الأرض لم يحفر به أحد قبرا
1: 284
يا جدثي حسبك من رتبة
أنك من أجداثهم معزلا
2: 177
وود لو مات في مهمه لتتهيأ له هذه العزلة:
وددت وفاتي في مهمه
به لامع ليس بالمعلم
أموت به واحدا مفردا
وأدفن في الأرض لم تظلم
وأبعد عن قائل لا سلمت
وآخر قال: ألا يا اسلمي
أحاذر أن تجعلوا مضجعي
إلى كافر خان أو مسلم
إذا قال ضايقتني في المحا
ل قلت أساءوا ولم أعلم
2: 273
وهو ينصح للورقاء بالعزلة إن هديت، ولا يقتصر على الإنسان:
وانفردي في بلد عازب
عنا وعيشي ذات بال رخي
1: 190
وهكذا رأى وحدته أنسا واجتماعه بغيره وحشة:
إذا حضرت عندي الجماعة أوحشت
فما وحدتي إلا صحيفة إيناسي
طهارة مثلي في التباعد عنكمو
وقربكمو يجني همومي وأدناسي
2: 31
ونفى أن في الوحدة وحشة وحبذها وذكر مزاياها عنده، وعللها تعليلات مختلفة متنوعة دينية تارة ونظرية طورا ونفسية حينا، وسنعرض لهذا في موضعه.
نظرة في هذه الآراء
هذه آراء لأبي العلاء لعلها هي التي بها اشتهر، وهي خطوط صورته عند الناس، وإنها - كما قدمنا - لآراء في الفلسفة العملية الإنسانية متصلة بحياة الإنسان أشد الاتصال وأقواه، فهل ثبت أبو العلاء على هذه الآراء؟
لننظر قبل الإجابة عن هذا السؤال إلى صورة الرجل من جانب آخر على الترتيب الذي اتبعناه في عرض جانبها الأول ... فأما:
زهد أبي العلاء
فقد أرانا فيه أكثر مما يرينا ناسك في شعاف جبل، وأشهدنا أفضل ما وصفت به أوائل الرهبان ورءوس المتصوفة، فلنجل معه قليلا نقلب من دواوين أدبه صحفا أخرى ... فهذا هو في الغفران (167) ينتقص الزهد فيقول: «وما علمنا هذا
1
النسك موفيا ولا في الأسباب الرافعة مرقيا، والعالم بقدر عاملون أخطأهم ما هم آملون ...» وفي موضع آخر من هذه الرسالة - 182 - يعلن يأسه من النسك إذ يقول: «ولا عنده عن الجبلة، يريد المتنسك أن يصرف حبه عن العاجلة وليس يقدر على ذلك، كما لا تقدر الظبية أن تصير لبؤة، ولا الحصاة أن تتصور لؤلؤة، يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين.» كما أنه في شعره يعلن أنه لا يجد النسك فيبغيه ويقول:
والنسك لا نسك موجود فنبغيه
فعد عن فقهاء اللفظ مراق
2: 122
وما في عالم الأرض زاهد ولا الرهبان أهل الصوامع:
لعمرك ما في عالم الأرض زاهد
يقينا ولا الرهبان أهل الصوامع
2: 82
ويتهم من يظهر الزهد فيرى بعض هذا مما سببه ضعف العقول، وبعضه مما سببه بعد الهمم:
رأيت بني الدهر في غفلة
وليست جهالتهم بالأمم
فنسك أناس لضعف العقول
ونسك أناس لبعد الهمم
2: 280
وهذا هو زهد أولئك الذين طمعوا وعملوا فخذلوا، وعز عليهم الحرمان فتركوا الدنيا ترفعا، وهو يشير بهذا إلى معنى نفسي دقيق، وقد يكون هذا النسك لبعد الهمم هو ما عناه بقوله:
دنياك دار قد اصطلحنا
فيها على قلة الديانه
كأنها قينة خلوب
ما عرفت قط بالصيانه
من لم ينلها أراك زهدا
ومن لعير بصليانه
2
2: 295
ومثله:
خوى دن شرب فاستجابوا إلى التقى
فعيسهمو نحو الطواف خوادي
1: 224
والمعري يحمل عصا النسك كما أسلفنا، ويراها أحمى من رمح عامر، وأشرف من قوس حاجب، لكنه هو الذي يرى أن العلا حظ الأقوياء:
وقد علمت وغيري عن مشاهدة
أن العلا إلف قوم في الوغى ليس
3
2: 37
وأنه فاز الجسور وخاب من لم يجسر:
والعيش جسر نال من هو جاسر
أو كاد فيه وخاب من لم يجسر
1: 331
ولا ينال العلا إلا بأطراف القنا وكعوبه، وضرب الهوادي بالحديد المسمم وما هو من ذلك بسبيل:
زممت المطايا للوجيف ولم تكن
تنال المعالي بالمطي المزمم
ولكن بأطراف القنا وكعوبه
وضرب الهوادي بالحديد المسمم
وجذب رداء يدرج النمل فوقه
لتعميم رأس الهبرزي المعمم
4
2: 253
ومن يكتحل بالسهد في طلب العلا فجائز أن يرى منهاجها:
ومن يكتحل بالسهد في طلب العلا
يجز أن يرى منهاجها باكتحاله
2: 187
وعنده أن السؤدد للشجاع والخطيب حتى في الطير:
ومتى رزقت شجاعة وبلاغة
أوطنت من ربع العلى بمشيد
فالطير سؤددها الرفيع وعزها
قسما على خطبائها والصيد
1: 235 •••
وإن ير النسك لا يكون إلا عن صحة واقتدار، نسك شارخ لا من فات الأربعين، فلكم بكى الشيخ شبابه آسفا في حسرة وحن إليه في لوعة كقوله:
ظمئت إلى ماء الشباب ولم يزل
يغور على طول المدى ويغيض
تراه مع الإخوان لا تستطيعه
حبيب متى يبعد فأنت بغيض
2: 59
إذا ما خبت نار الشبيبة ساءني
ولو نص لي بين النجوم خباء
1: 29
إلى كثير من ذلك قوى، وهو الحاض على اغتنام الشباب:
إن الشبيبة نار إن أردت بها
أمرا فبادره إن الدهر مطفئها
1: 36
بل هو الحاض على الأنانية وإيثار النفس على غيرها:
إن ترد أن تخص حرا من النا
س بخير فخص نفسك قبله
2: 180
وإذا لم يكن لشيء عنده قيمة، وقد هون من شأن المال وسوى الفقر بالغنى أو فضله، ورأى الفقير أقل هما، فهو هو الذي قال: «نعم الشيء الثراء لمن كسا العاري وأطعم السغبان.» (ف282) وهو الذي يرى العز في الثروة والعيش في الحيرة:
والعز في الثروة والعيش في
الحيرة والحرفة في المحبرة
1: 311
وهو القائل: إن كل قلب جبل على حب الغنى:
تبغي الثراء فتعطاه وتحرمه
وكل قلب على حب الغني جبلا
لو أن عشقك للدنيا له شبح
أبديته لملأت السهل والجبلا
2: 169
والمال عنده خدن النفس والفقر موت:
والمال خدن النفس غير مدافع
والفقر موت جاء بالإهمال
أوما ترى حكم النجوم مصورا
بيت الحياة يليه بيت المال؟
2: 205
والفقر موت يرجى النشور منه بالمال:
والفقر موت غير أن حليفه
يرجى له بتمول إنشار
1: 266
والناس يحترمون الغني ويعيبون الفقير:
أجلوا مكثرا وتنصفوه
وعابوا من أقل وأنبوه
2: 341
يخدمون الغني لا الفقير:
من يغن يخدمه قوم على طمع
ولا يرون لمن أخطا الغنى خدما
2: 248
لبى الغني بنو حواء من طمع
ولو دعاهم فقير ما أجابوه
2: 338
والمعري نفسه يألم للزوم الفقر له، كأنه دعوة ناسك استجيبت:
وأن أخا نسك دعا لك بالذي
ملكت بضد من غناك دعا لي
ويعد نفسه صعلوكا إذ خرج من الدنيا بغير مال:
بلا مال عن الدنيا رحيلي
وصعلوكا خرجت بغير مال
2: 117 •••
وإن هتف المعري هتفة المسيح بمحبي التخلص من أذى الحياة أن يحطوا أثقالهم ويتبعوه، فهو يصارح بأن الحياة قائمة على الكد:
ولا بد في دنياك من نصب لها
وهل وضع الأثقال دهرك عن شفر؟
أليس هزبر الغاب وهو مملك
على الوحش يبغي الصيد بالناب والظفر
1: 308
وأهاب بالناس أن يعملوا للحياة عمل الباقين، وكاد ينظم الحديث أو الأثر المعروف بنصه: اعمل لدنياك ... إلخ فقال:
اعمل لأخراك شروى من يموت غدا
وادأب لدنيا فعل الغابر الباقي
2: 121
وإن أدين الناس من يسعى ويحترف لا يروم الرزق بالتوكل:
تقوى فيهدى إليك الزاد عن عرض
وتقتري الأرض جوالا فتقترف
تروم رزقا بأن سموك متكلا
وأدين الناس من يسعى ويحترف
2: 89
وحينما أعجبه الترهب عقب على ذلك بأن السعي الحلال أطيب من الترهب:
ويعجبني دأب الذين ترهبوا
سوى أكلهم كد النفوس الشحائح
وأطيب منهم مطعما في حياته
سعاة حلال بين غاد ورائح
فما حبس النفس المسيح تعبدا
ولكن مشى في الأرض مشية سائح
1: 185
والرزق يهتف بالناس: أن اعملوا وكلوا وبالظبي رد وبالطائر التقط:
فالرزق يهتف يا إنس اعملوا وكلوا
يأيها الظبي رد يا طائر التقط
2: 67
والمعري يدعو إلى عدم الأنفة من الاحتراف والتكسب:
لا تأنفن من احترافك طالبا
حلا وعد مكاسب الفجار
1: 324
وهو يأمر بالجد قائلا: من سهر في الليالي السود فأحر به أن يسود، والله مالك السائد والمسودين (ف237).
وأبو العلاء الذي يدين بالحظ ويكثر جد الإكثار من ذكر سلطانه الجائر يذكر أن الحظ كامن في العمل:
ونال بنوها ما حبتهم جدودهم
على أن جد المرء في الجد كامن
2: 281 •••
ولئن حول المعري بخلابته اللفظية واشتقاقه البديعي أسماء المعادن والجواهر إلى آلام وخسائر، فإنه لهو الذي وصف الذهب فقال في الغفران - 203 و204: لله در الذهب من خليل، فإنه يفيء بظل ظليل، وإن دفن لم يبال؛ ما هو كغيره بال، أعطي نفيس المقدار فما هم شرفه بانحدار، والدر إذا كسر ذهبت قيمته ولم يحفظ أن تتحطم كريمته، ورب ذهب في سوار غبر زمانا غير متوار، ثم جعل في خلخال، تختال بلبسه ذات الخال، ثم نقل إلى جام أو كاس، وهو بحسنه كاس، ما تغير لبشار النيران، ولا غدر بوفي الجيران ... إلخ ما قال.
وهو الذي يفرح لصاحبه بالدنانير في الغفران (195) ويقول: «وسرتني فيئة الدنانير إليه، فتلك أعوان تشتبه منها الألوان، ولها على الناس حقوق، تبر أن خيف عقوق ...»
كما يقول في وصف الدينار الذهبي من الفصول والغايات (288 و289): «... اعتمد على ذي وجهين ما عرف قط بالمين، لو كان رجلا لكان ناصح الجيب قلما خشي منه العيب ... ومتى بعث في المآرب قضاها، والله بلطفه أمضاها، له منزل ما دخله الهم ولا سكنه الخال ولا العم ... تلقاه معلما بالتوحيد وليس بالعالم ولا البليد، ولكن الله أنطق بعظمته كل جماد.» •••
ولئن هون أبو العلاء من أمر الملك وكرهه ونهى عن ولاية الشئون العامة، فلقد تمنى أن يكون الله قد صاغه ملكا أو ملكا مؤيد المن يريق ما يشاء من دم هدرا:
لو شاء ربي لصاغني ملكا
أو ملكا ليس يعجز القدر
أيد مني وقال: أي دم
أرقت فهو الجبار والهدر
1: 282
وهو هو الذي يريد عليا المراتب:
أريد عليات المراتب ضلة
وخرط قتاد الليل دون عليان
2: 307
وهو الذي طلب العز ووالى المطايا التي تسعفه عليه:
متى ما تبت خوص المطايا مواليا
بنا في ابتغاء العز فهي موال
2: 189
ورهين المحابس قد أغرم بالفروسية غراما، إذ يرى العز في رمح وترس، أظهر منه في قلم ودرج، وحلفاه قتب وسرج:
وإن العز في رمح وترس
لأظهر منه في قلم ودرج
فدع إلفيك من عرب وعجم
إلى حلفيك من فرس وسرج
سراجك في الدجنة عين ضار
وإلا فالكواكب خير سرج
1: 171
ويؤثر الموت بضربة يوم حرب على الموت في الفراش:
لضربة فارس في يوم حرب
تطير الروح منك مع الفراش
أخف عليك من سقم طويل
وموت بعد ذاك على الفراش
2: 52
ويؤسفه أن يخرج من الدنيا لا يبكيه مهند ولا جواد:
وإنك لا باك عليك مهند
ولا مظهر حزنا، جواد مطهم
2: 231
وهو مع ذلك كله صاحب الكتاب المفرد في الخيل عنوانه: «خطب الخيل»، تكلم فيه على ألسنتها.
5 •••
وإن يحذر الشيخ من لصوص الأماني فهو الذي تدب عقارب المنى على لسانه:
عقارب قاتلة من منى
على لساني وضميري دببن
2: 210
وله أمل فرقانه محكم:
لي أمل فرقانه محكم
أقرؤه غضا كما أنزلا
2: 177
وخانته الأماني مرارا ثم ما زال يتعلل:
وخانتني الدنيا مرارا وإنما
يجهز بالذم الغواني الخوائن
أعلل بالآمال قلبا مضللا
كأني لم أشعر بأني حائن
2: 280
وهو يرى أنه لو قيل: لم يبق من العمر إلا ساعة لأملت ما تعجز عنه سنة:
والأمل المبسوط قرن إزا
ء الليث لا يترك أن يلسنه
لو قيل لم يبق سوى ساعة
أملت ما تعجز عنه سنه
2: 302
وهو الذي اتسعت آماله حتى لم يف بها العمر وقد طال عمره:
حاجي نظيم جمان والحياة معي
سلك قصير فيأبى جمعها القصر
أما المراد فجم لا يحيط به
شرح ولكن عمر المرء مختصر
1: 255 •••
ولئن حض أبو العلاء على أعمال النسك، فلقد حض على التنعم:
ألا فانعموا واحذروا في الحياة
ملما يسمى مزيل النعم
2: 279
وهو القائل نثرا: واستقامة العالم لا تكون ولذة الدنيا منقطعة (ف358)، وهو الذي قرر أن النفوس تنافر الجد، وتهوى اللهو:
وديدن الجد مملوك تنافره
كل النفوس وتهوى اللهو والددنا
2: 290
وهو الذي يرى أن الفتى حين يكره الغواني ويتقي المرض ويحتمي من الطعام يكون قد طوى الحياة، وكاذب من يقول: إنه منعم:
وإذا الفتى كره الغواني واتقى
مرضا يعود وضره ما يطعم
فقد انطوت عنه الحياة وكاذب
من قال عنه يبيت وهو منعم
2: 236
وهو المدافع عن إصابة اللذات؛ إذ يقول في الغفران (193): وأما ما ذكره من ميله في مصر إلى بعض اللذات فهو يعرف الحديث: أريحوا القلوب تع الذاكرة. وقال أحيحة بن الجلاح:
صحوت عن الصبا واللهو غول
ونفس المرء آونة ملول •••
وإذا كان أبو العلاء قد وصف نسكه هو نفسه، فكم له مع ذلك من أسف على الدنيا، منه ما في الفصول (366): «لا أكتمك ما أنت به عليم، إن أسفي لطويل، نفد عمري وغيري المصيب.» وإنه ليعلن غير مرة أن نفسه تنازعه إلى الشهوات:
تنازعني إلى الشهوات نفسي
فلا أنا منجح أبدا ولا هي
2: 356
ويبدي إعجابه بالخفض والصحة:
أريد ليان العيش في دار شقوة
وتأبى الليالي غير بخل وليان
6
2: 307
وهو يؤثر العافية وسلامة جسمه، ويعتبر السن خيرا من درة، ويوصي بالمحافظة عليها:
سنك خير لك من درة
زهراء تغشى أعين الناظرين
عجبت للضارب في غمرة
لم يطع الناهين ولا الآمرين
يكسر باللؤلؤ من جهله
خشبا عتت عن أنمل الكاسرين
2: 333
وهو يجهر بأن النفس لا تزال ذليلة لحب طعام وحب شراب، ويوبخ هذه النفس:
تميلين عن نهج اليقين كأنما
سرى بك أعمى أو عراك تعامي
فبعدا لنفس لا تزال ذليلة
لحب شراب أو لحب طعام
2: 257 •••
وهو يقرر أنه جاهد لتحسين حاله في الحياة أو إحسان ذكره فيها:
قد ركبت الوجناء في جوشن الحن
دس أكرى في رحلها وهي تكر
راجيا حسن حالة إن تخطت
ني فأعمالها ليحسن ذكر
1: 280
فهو كما يقول: قد قطع الحزن إلى السهل ابتغاء اليسار:
قطعنا إلى السهل الحزونة نبتغي
يسارا فلم نلف اليسير ولا السهلا
2: 168
ونبل فلم يصب فمن له بالسهام الصائبات:
حابي كثير وما نبلي بصائبة
وكيف لي في مراميهن بالحابي
1: 105
وأرسل دلوه يبغي الماء فخانه الرشاء:
أرسلت غربك تبغي الماء مجتهدا
وما على الغرب لما خانك المرس
2: 20
وبعد هذا الفشل والعجز ما زال آملا راغبا. يقول: «أحب الدنيا وآلتها ليست في، وقد يئست من بلوغها واليأس مريح، فإلام التشوف إلى الضلال؟! لو كنت مؤديا - كامل الأداة - لها لثقل علي أمرها.» (ف358).
كما يقول:
ولي أمل قد شبت وهو مصاحبي
وساودني
7
قبل السواد وما هما
2: 240
وما أصرحه بعد ذلك حين يفسر ما يمكن أن يكون منه زهدا، ويبين سببه النفسي في شجاعة، فيقول: إنه لا يؤثر خمود مصباحه ولكن خانه الزيت:
ولم أوثر لمصباحي خمودا
ولكن خان موقده السليط
2: 63
وأنه لم يطلق الدنيا بل هي التي طلقته:
فما طلقت هي بل طلقت
ولست بأول من طلقا
2: 117
وما أعرض عن اللذات إلا لأن أطايبها قد مالت عنه:
ولم أعرض عن اللذات إلا
لأن خيارها عني خنسنه
2: 299
ويكمل التفسير حين يقول: إن الناس أرخصوه فأغلى قدره بالصبر:
لما رأيت سجايا العصر ترخصني
رددت قدري إلى صبري فأغلى بي
1: 105
ولعل هذا من النسك الذي ذكر هو قريبا أنه نسك لبعد الهمم، وهو في الحقيقة متشه راغب يريهم رياء وفي الفؤاد أوار:
إني أواري خلتي فأريهموا
ريا وفي سر الفؤاد أوار
1: 271
هذا زهد أبي العلاء بعامة. وأما:
تحريم الحيوان وثماره
فإن يكن قد قرر ألا نسك للأسد مع خوف الوحش والنعم من فرسه، فهو يقدر الواقع الطبيعي قدره، ويقول: إنه لم تخلق للأسد أظفار إلا ابتغاء الظفر:
وما جعلت لأسود العرين
أظافير إلا ابتغاء الظفر
1: 357
ولو لم يقدر خالق الليث فرسه
لمطعمه لم يعطه الناب والظفرا
1: 286
وهو يدافع عن افتراس الأسد بأنه على هذا جبل، وصير قوته مما يدمي:
وما ذنب الضراغم حين صيغت
وصير قوتها مما تدمي
فقد جبلت على فرس وضرس
كما جبل الوقود على التنمي
2: 264
وفي الفصول (410) يقول عن الذئب: والله جعل رزقه في البضيح فعلام يقتل إذا افترس فريرا منزربا؟!
8
ويقول في شعره:
ولولا حاجة في الذئب تدعو
لصيد الوحش ما قنص الغزال
1: 118
وشيخنا المشفق على حيوان الأرض هو الذي يخاف ويخوف من الحيوان:
وخف حيوان هذي الأرض واحذر
مجيء النطح من روق وجم
2: 264
ويشبه الناس بضاري الحيوان، ويرى أن الشر قد تفرق في حيوان الأرض:
والشر في حيوان الأرض مفترق
والإنس كالوحش من ضار ومنتقل
2: 191
ولئن كان يجزي الحيوان عن هذا الشر إحسانا فيكره ذبحه ويحرم على نفسه لبنه، فإنه لينسى ذلك فيذكر إيثاره اللبن على اللحم:
أعرض عن الثور مصبوغا أطايبه
بالزعفران إلى ثور من الأقط
2: 67
ويفضل اللبن على الخمر ليغري الناس بالاستعاضة عن الخمر:
أفضل من حمر السلاف ومن
كميتها ناصع من اللبن
2: 322
كما أنه وقد بلغت به الرقة أن طلب اتخاذ حذائه من الخشب لا من الجلد حتى لا يذبح الحيوان قد نسي ذلك وأعلن أنه يشرب الماء من الجلد:
شربت بالعسجد عن عزة
ومشربي من خزف أو أدم
2: 77
وأكثر من ذلك كله أن أبا العلاء وقد دفعته رقة القلب إلى تحريم الذبح فكره السيوف والسكاكين والمدى، بل كره الحديد يتخذ منه المرود لسبر الجرح، فنهى عنه، هو أبو العلاء الذي يمجد السيف ويتعشقه، ويحبذ القوة تحبيذا يضعه في صف الشعراء الفرسان - إن شئت - وقد أسلفنا قريبا بعض الشيء عن حبه الفروسية وهو يشيد بالسيف في نثره فيقول في الفصول (297 و298) وصفا للسيف: يهابه الفتى والكهل، وهو لأن يهاب أهل يستنصر به أرباب العقول، وليس بصاحب معقول، وفي شعره يعد السيف الشر النافع كل حين:
وجدت الشر ينفع كل حين
ومن نفع به حمل الحسام
2: 233
والسيف أبلغ واعظ يتكلم:
كلم بسيفك قوما إن دعوتهمو
من الكلوم فما يصغون للكلم
ذو النون إن كان سيف الهند أبلغ من
ذي النون في الوعظ بل من نون والقلم
2: 261
وبالسيف يماط الأذى:
وكم من حسام قد أميط به الأذى
ومارن سمر فيه رغم لمارن
2: 309
وبالسيف تنال المنى:
منى صل حرب نالها بالمناصل
فواصل وقاطع بالرقاق الفواصل
2: 186
وأبو العلاء رام المآرب سفها ولم تكن تنال إلا بالسيف:
رمنا المآرب بالسفاه ولم تكن
لتنال إلا بانتضاء شفار
1: 341
وفي بيض السيوف بياض عيش، هكذا قال الحكيم:
فوارس خيلكم تعطى مناها
إذا دمى نواجذها الشكيم
وفي بيض السيوف بياض عيش
بذلك فاعلموا نطق الحكيم
2: 333
والسيف أصل المكرمات:
فيا هند، وان عن المكرما
ت من لا يساور بالهندواني
2: 328
وهذا الرقيق القلب يصف وقع السيف، ويراه إنما يفرج الضيق بوقوعه في المضيق:
والسيف لا يفرج المضايق أو
يوقعه في المضيق من صقله
2: 178
والعجب أن أبا العلاء صاحب الكلمات في الأديان والعقائد يرى أن السيف هو الذي يثيب الملاحدة إلى الرشد:
تمادوا في العتاب ولم يتوبوا
ولو سمعوا صليل السيف تابوا
1: 70
وهذا المتفلسف المفكر يأمر بقتال الملحدين:
إذا ما ألحدت أمم بجهل
فقابلها بتوحيد السيوف
2: 99
ولو أخذهم السيف ما ألحدوا، فإنما الإلحاد إلحاد السيف عن أن يأخذهم:
رويدك لو لم يلحد السيف لم تكن
لتحمل هام الملحدين هواد
1: 224
وفسدت الشام في عهده كذلك بسبب إلحاد السيف في رأيه:
إذا دنوت بشأم أو مررت به
فنكبيه وراء الظهر أو حيدي
قد غير الدهر منه بعد مبتهج
وألحد السيف فيه بعد توحيد
1: 231
ورابه من السيف هذا الإلحاد وأنه لم يفجع الملحدين برءوسهم منذ أزمان:
هل ألحد السيف أو قلت ديانته
أو كان صاحب توحيد وإيمان
ورابني منه ترك الجاحدين سدى
لم يفجعوا برءوس منذ أزمان
2: 316
وإذا ذكر القتل والقتال في الحديث عن ناسك: المتحوب من الجرح والدم، المبتغي نعلا من خشب لئلا يسلخ الجلد، فاسمعه إذ يقرر أن العيش نهاب ويأمر بالمناهبة:
تناهبت العيش النفوس بغرة
فإن كنت تسطيع النهاب فناهب
1: 100
ويرد المطاعين وهم المطاعون:
رب الجواد قرى عينا لمأكله
فعد من رهط أقوام فراعينا
قل للمطاعيم تعصبهم ضيوفهمو
إن المطاعين يمسون المطاعينا
2: 393
وفارسنا الحبيس لا يكفيه أن يؤثر الموت في الحرب على الموت في الفرش بل هو يعد ميتة الميدان سعادة:
9
من السعد في دنياك أن يهلك الفتى
بهيجاء يغشى أهلها الطعن والضربا
فإن قبيحا بالمسود ضجعة
على فرشه يشكو إلى النفر الكربا
1: 80
وإذا كان له من الشعر ما يعد به بين الشعراء الفرسان حينا فإن له من تحبيذ القوة ما يجعله بين المعدودين من أنصارها، وهو الموصوف بالبرهمة، والقول بعدم إفساد الصورة، وبتحريم ذبح الحيوان، فاستمع لقوله في تمجيد القوة:
ما أوصل السيف قطاعا لحامله
وأبلغ الذابل الموصوف بالخطل
قد وافياك بتاج الملك عن عرض
وأثرياك بحلي الكاعب العطل
وأحرزاك بمقدار إلى أمد
وأنجزا لك وعد الكذب المطل
والسيف إن قال أبدى نبأة عجبا
في وزن حرفين لم يكثر ولم يطل
سلمان تفهم عنه فارسيته
فدع سليمان والمعنى ردى البطل
2: 191
ويذكر التقنع عن عظائم لا تبلغ بالوناء فيعد هذه العظائم في إطالة وحماس:
ويكفيك التقنع من قريب
عظائم ليس تبلغ بالتوني
صرير الرمح في زرد منيع
ووقع المشرفي على المجن
وحمل مهند يسطو بعير
وفور ليس بالأشر المرن
ولا شلال عانات خماص
ولكن خيل جيش مرجحن
يرى عذم الأوابد غير حل
ويعذم هامة البطل الرفن
10
وما ينفك محتملا ذبابا
أبى التغريد في الخصر المغن
تذوب حذاره زرق الأعادي
ويسخى بالحياة حليف ضن
وينفث في فم الحيات سما
ويملأ ذلة أنف المصن
11
2: 318
وهو ينفر من التغاضي على التثريب ويحتكم إلى القوة:
وخير للفؤاد من التغاضي
على التثريب نصل يثربي
فإن يلحق بك البكري غدرا
فلم يتعر منه التغلبي
2: 361
ويحبذ نفع السيف وحده:
ما أنفع السيف لمن شامه
أخضر ما روضته ذاوية
ذبابه إن يشد يحدث له
جد يوازي لعب الغاوية
12
يقتسر الدنيا لأخلافه
محتلبا أخلافها الصاوية
ألوى نبات الأرض وهو الذي
لم يلو بل ألوت به اللاوية
2: 365
والمعري في إعجابه العنيف المسرف بالقوة قد قامر بحياته في سبيل هذا وقال:
وإن أنا قلت لا تحمل جرازا
فهز أخا السفاسق واضربني
فنصل السيف وهو اللج يرمي
غريقا فوق سيف مرفئن
13
وضاحيه يزيل غضون وجه
ويبسط من وداد المكبئن
14
فما حملت يداه به خئونا
ولا نبراته نبرات ون
15
2: 319
فيا ليت شعر أبي العلاء أكان هذا آخر ما قال، فهو عنده القول الفصل في الشهادة للقوة والسيف، أم تراه عاد فنقض ذلك وبه استحق بالنهي عن حمل السيف أن يهز أخو السفاسق ليضرب به؟ ما أحسبه إلا قد خسر في هذا التحدي حياته؛ إذ طالما قال: لا تحمل سيفا ولا تمسه، وما إخال تلك النغمة القوية هي آخر نغماته.
وفي كل حال فهذا التحدي الثائر المسرف في الدعوة إلى السيف صادر من ذلك الذي حرم الحيوان شطرا من عمره، واحتج لذلك مجادلا في الرسائل المتبادلة بينه وبين أحد أبناء عصره: هبة الله بن موسى بن أبي عمران داعي الدعاة بمصر، فكانت حجته في شعره هي حجته في نثره متدافعة متقابلة.
فقد احتج في شعره لما رأى من تحريم الحيوان - بما أسلفنا - من أمر صحته ونظام طعامه وقال:
أفدت لهجران المطاعم صحة
فما بي من داء يخاف ولا حبن
16
2: 324
ولعله لهذا قد تمنى ترك الأكل جميعا فقال:
من لي بترك الطعام أجمع إن
الأكل ساق الورى إلى الغبن
2: 324
كأن هذا التحريم الصحي حجته، ثم هو في غير هذين الموضعين يذكر تحريم الحيوان وشفقته عليه على نحو ما قدمنا. وكذلك نراه في حجاجه النثري عن هذا التحريم، وهي المسألة التي كانت مدار مراسلاته مع داعي الدعاة، فهو تارة يظن اقتناعه بالنبات يثبت له جميل العاقبة، وحينا يقول: إن اللحوم لا توصل إليها إلا بإيلام حيوان، ويتحدث عن هذا الألم وحس الحيوان به، وآونة يقول: إن الذي حثه على ترك أكل الحيوان قلة ماله.
فهل أبو العلاء الذي سمعت منه ما سمعت هو أرفق الناس بالحيوان وأرحمهم به وله في ترك أكله فكرة تعبر عن مذهب فلسفي؟ سنرى. وأما ...
كراهته الحياة
فليس أبو العلاء فيها أثبت رأيا، فهذا البرم بالحياة الذي يرى البقاء شقاء يقول ناثرا في الفصول (44):
أنا تحت حب الدنيا محب - بارك - أثقلني فأنا مكب، كما يقول (348):
وشنفت - أبغضت - ولو أنصفت لعفت ما استوبله، فما نثفت - أصبت - إلى غير ذلك، والذي يعد البقاء طول شقاء يقول: الموت ربذ - سريع - فأين أنتبذ ليس منه وزر ولا حام (ف242).
والذي عد حب الدنيا غرورا وأسى لإمامة الجهل و... إلخ. هو الذي عد حبها طبعا قد مني منه بقرن غلاب:
وحب دنياك طبع في المقيم بها
فقد منيت بقرن منه غلاب
1: 105
وحبها غريزة فينا فلا يترك ولو جر المهالك:
ولو لم يكن فينا هواها غريزة
لكان إذا جر المهالك يترك
2: 126
وحبها كحب ليلى ولبنى وكل ابن ملوح وابن ذريح:
أما وفؤاد بالغرام قريح
ودمع بأنواع الهموم سريح
لقد غرت الدنيا بنيها بمذقها
وإن سمحوا من ودها بصريح
أليلى؟ وكل أصبح ابن ملوح
ولبنى وما فينا سوى ابن ذريح
1: 185
وكلنا دنف بحبها فوق ما يجب:
نحن البرية أمسى كلنا دنفا
يحب دنياه حبا فوق ما يجب
1: 66
وهي المنتهى وهي المشتهى ومع السها منها أماني:
أبى القلب إلا أم دفر كما أبى
سوى أم عمرو موجع القلب هائم
هي المنتهى والمشتهى ومع السها
أماني منها دونهن العظائم
2: 225
وكأن عشقها وصية المهيمن:
كأن المهيمن أوصى النفو
س بعشق الحياة وأحبابها
1: 119
والنفس تدمع عند فراق الدنيا؛ إذ ليست خلة أعز منها:
والنفس آلفة الحياة فدمعها
يجري لذكر فراقها منهله
ما خلة بأعز منها والفتى
يبكي إذا ركب الصريمة خله
2: 160
حتى الراهب المسجون لفرط العبادة مدله بحبها:
الراهب المسجون فرط عبادة
من حب دنياه الكذوب مدله
أعرفتمو أصحابكم بحقيقة
أم كلكم عنهم غبي أبله
2: 344
معشوقة مشقية والعشق أبدا شقاء:
ودنيانا التي عشقت وأشقت
كذاك العشق معروفا شقاء
سألناها البقاء على أذاها
فقالت عنكمو حظر البقاء
1: 38
ولا ينسى أبو العلاء أن يكذب المتحدثين بكرهها بعدما يقرر تولهه بها، وعدم استطاعة نسيانها حتى حين يقول غير ذلك:
نفسي بها ونفوس القوم ملهجة
ونحن نخبر أنا لا نباليها
أمرتني بسلو عن خوادعها
فانظر هل انت مع السالين ساليها؟
ولا ترى الدهر إلا من يهيم بها
طبعا ولكنه باللفظ قاليها
2: 346، 47
ولن يخرج هو من الدهر ومن فيه! •••
وأبو العلاء يحدثنا بأصرح من ذلك عن حبه هو لها خاصة بعدما قرر من تأصل ذلك في الناس وغريزيته، فيقول :
أحبك أيها الدنيا كغيري
وأشراني قلاك ولست أشري
ونهوى العيش فيك مع الرزايا
وما طولت من خمس وعشر
1: 323، 24
ورغم خداعها قد أشرب حبها لا ينفيه عن جسده إلا الثرى يتشربه:
دنياي لا كنت من أم مخادعة
كم ميسم لك في وجهي وأقرابي
1
أشربت حبك لا ينفيه عن جسدي
سوى ثرى لدماء الإنس شراب
1: 106
وأحبها حبا خالصا كحب غيره، وقد صادته رغم الحذر:
وحبي للدنيا كحبك خالص
وفي عنقينا من هوى جعلت ربقا
حذرنا فصادتنا الخلوب كغيرنا
وأي غراب ما أجادت به طبقا؟
2: 113
وهي ربة دل لم يتسل عنها وإن ظن التسلي:
أيها الدنيا لحا
ك الله من ربة دل
ما تسلى خلدي عن
ك وإن ظن التسلي
2: 207
إلى كثير كهذا. •••
وهذا الذي انتظر أن تفك المنية إساره، وأن يعبر الجسر إلى الأخرى، و... هو الذي يقول: «... قلتني دنياي فما قليتها، قد كرهت المنية وأبيتها.» (ف233) كما يقول في شعره:
أهاب منيتي وأحب ستري
وخوف الشيخ من هرم وهتر
1: 320
ويضاعف همه أن يموت قبل تحقق أمنيته:
تضاعف همي أن أتتني منيتي
ولم تقض حاجي بالمطايا الرواقص
وما عالمي إن عشت فيه بزائد
ولا هو إن ألقيت منه بناقص
2: 57
وهذا الذي سمعناه وقد فكر في الانتحار بالإضراب عن الطعام والشراب هو الذي ذكر الموت وألا مهرب له منه، فقال: ولو شاء الله لجعل عباده مخلدين (ف242) بل كاد يتمنى الخلود في قوله:
كم أراد الخلد قوم فرأوا
مسلكا إن يلتمس لا يستطع
2: 85
وقال: إن طول العيش يحمد على ضد طول القول:
والعيش ضد القول يحمد طوله
ويذم هادي القوم في الإكثار
1: 342
وهو في كل حال قد أكثر من ذكر أنه جاء الحياة كارها ويفارقها كارها، والله شاهد على ذلك:
خرجت إلى ذي الدار كرها ورحلتي
إلى غيرها بالرغم والله شاهد
1: 192
جئنا على كره ونرحل رغما
ولعلنا ما بين ذلك نجبر
1: 262
وما يترك الإنسان دنياه راضيا
بعز ولكن مستضاما على قسر
1: 304
وردت إلى دار المصائب مجبرا
وأصبحت فيها ليس يعجبني النقل
2: 149
وكل من حل بها يكره ال
رحلة عنها وهي تستوبل
2: 164
وأبو العلاء يعد أشد خطب يتقى هو فراق الروح للجسد:
أشد خطب يتقى
فراق روح لجسد
1: 239
أفيلقب أبو العلاء بعد ذلك «كاره الحياة»، ويقال: إن أبا العلاء كان للدنيا قاليا؟!
وأما ...
المرأة
فإن يكن المعري قد دعا إلى اجتنابها فإنه لهو الذي يهنئ بالزفاف فيقول في الزوجة:
خير أيدي الزمان عند بني الدن
يا أتت في أوان خير الشهور
سقط 1: 71
ويهنئ بالزفاف مرة أخرى فيقول في وصف ساعة الأعراس:
لم يزل الليل مقيما يرى
ما لا رأت عاد ولا جرهم
في ساعة هشت إلى مثلها
مكة وارتاحت لها زمزم
سقط 1: 239
وأن تظن أن ذلك من شعره قبل التفلسف فإنه في اللزوميات ليعد النعم ومن بينها الإعراس بالفتاة قد عده نعمة بين المطعم والمشرب والملبس وسائر ملاذ الحياة:
طاعم أنت وارد عذب ماء
معرس بالفتاة حاذ وكاسي
فاتق الله لا تؤمن ما يق
بح من ريبة ومن شرب كاس
2: 47
ويصف الرجل الممتع في الفصول (429) فيقول: يكون الرجل كاسيا بمثل ريش الأخيل، وشبابه كروضة الوسمي وعيشه أوسع من الموماة، وعرسه الصالحة الحسناء ... إلخ، كما يصف بعد ذلك الرجل غير الممتع فيقول: ويلبس أخلاق الثياب كلباس الرأل، ويفارق العرس، إما أن يهلك وإما أن تختار سواه، وتكون روضة شبابه هشيما ... إلخ (ف430) فالعرس الصالحة الحسناء عنده متعة وفراقها شقوة. •••
وهذا الذي جعل النساء أسودا تتقى هو الذي جعلهن قوارير يرفق بها:
زجاج إن رفقت به وإلا
رأيت ضروبه متفصمات
1: 155
والذي جعل المرأة كالعقرب هو الذي أجلها وعدها مكان الثريا في المكارم ومكان الشمس، إذ يقول:
إذا ما «غضوب» غاضبت كل ريبة
وكانت «لميس» لا تقر على اللمس
فقد حازتا فضل الحياة وعدتا
مكان الثريا في المكارم والشمس
2: 30
والذي جعلهن أذى وكيدا وحبل غي، وما إلى ذلك، هو الذي يجعلهن الجنات:
جنان ورضوان الذي هو مالك
لها عنك ينفي مالكا وجهنما
حلمن وجن الحلي من فرط لهجة
فوسوس من تحت الثياب وهينما
2: 243
والذي رأى بدء السعادة أن لم تخلق امرأة، جعل الزوجة جنة هذه الدنيا:
وجنتك الأولى عروسك وافقت
رضاك فإن أجنتك فاجن ثمارها
1: 290
وهو الذي جعل المرأة الحصان نعمة يحسد بين القوم زوجها:
إذا كانت لك امرأة حصان
فأنت محسد بين الفريق
فإن جمعت إلى الإحصان عقلا
فبورك مثمر الغصن الوريق
2: 123
والذي قبح الزواج والزوجة ونهى عن الزواج هو الذي رأى أن النساء لا يصونهن سوى أزواجهن أحد:
وما حفظ الخريدة مثل بعل
تكون به من المتحرمات
يحوط ذمارها من كل خطب
ويمنعها مصاعب مقرمات
1
1: 155
ما صانكن سوى الأزواج من أحد
وأول الدهر أعييتن هماما
2: 248
وهو الذي يأمر الرجل بأن يطلب لبنته زوجا ويخوف ابنه من الزواج والنسل:
واطلب لبنتك زوجا كي يراعيها
وخوف ابنك من نسل وتزويج
1: 171
وهو يناقض نفسه لا في قولين بعيد وقريب، بل في شطري هذا البيت ويفسد معناهما، فإنه لو كلف كل رجل أن يخوف ابنه من الزواج لما وجد رجل لابنته زوجا كي يراعيها كما طلب هو!
على أنه وراء ذلك كله قد عاد فأباح الزواج، وقال: تزوج إن أردت. واختار للمتزوج فتاة صدق مستترة كمضمر نعم:
تزوج إن أردت فتاة صدق
كمضمر نعم دام على الضمير
إذا اطلع الأوانس لم تطلع
إلى عرس تمر ولا أمير
1: 325
وأقر أنها تكون حياطة لزوجها واعترف بفائدة الزواج والتعاون فيه على الحياة؛ إذ قال:
قد حاطت الزوج حرة سألت
مليكها العون في حياطتها
غدت ببرس إلى مرادنها
أو خيط غزل إلى خياطتها
أماطت السوء عن ضمائرها
فلاقت الخير في إماطتها
1: 157
وأبو العلاء لم ينس الخيرات من النساء ولم ييأس من خيرهن. لقد وصف هؤلاء الخيرات الغازلات غير العازفات ولا المغنيات ولا شاربات الخمور، ولم تخل الدنيا في رأيه منهن وهو يجيبهن ويحيي رجالهن الذين يمضي عمرهم في الجد فيقول:
رعى الله قوما مضى دهرهم
وما فيهمو أحد يهزل
تضاهي العناكب نسوانهم
فتنسج للنفع أو تغزل
وما عرفت مزهرا في الحيا
ة ولا الدن يفتح أو يبزل
جهلن الغناء وصوتا يقا
ل غناه دحمان أو زلزل
2: 176
وهو يدعو الله بالمغفرة لهؤلاء النساء المجاهدات العاملات ويقول:
والله يغفر في الحساب لنسوة
جاهدن إذ، فقد الحيا بمغازل
فكسبن منها ما يقوم بأنفس
والصبر يبدن في الزمان الهازل
أتصدقت بالخيط ثم هوت إلى ال
حمراء فاعتصمت بخيط الغازل
وأنالت المسكين أكلة جائع
فغدت كرضوى في المقام الآزل
2
2: 203
وأبو العلاء يقدر للمرأة فضلها الكبير بوظيفتها الإنسانية الكريمة، وظيفة الأمومة التي تسدي بها الفضل لكل مولود، ويراها أولى بالإكرام حين يعد فضل الوالدين:
العيش ماض فأكرم والديك به
والأم أولى بإكرام وإحسان
وحسبها الحمل والإرضاع تدمنه
أمران بالفضل نالا كل إنسان
3: 314
كما يقول:
وأعط أباك النصف حيا وميتا
وفضل عليه من كرامتها الأما
2: 240
وبين فضلها في النسل:
أقلك خفا إذ أقلتك مثقلا
وأرضعت الحولين واحتملت تما
وألقتك عن جهد وألقاك لذة
وضمت وشمت مثلما ضم أو شما
2: 240
وأبو العلاء آمل خير في المرأة، حين يكتب الكتب الخاصة في وعظها؛ ككتاب تاج الحرة في عظات النساء نحو أربعمائة كراسة. •••
ولا ندع الحديث عن المرأة وآراء أبي العلاء فيها قبل أن ننظر في أمره بزجر الغريزة المسيئة والكف عن الزواج، فإنه ليقول في الغفران ما قدمناه من أنه لا سبيل للتغلب على الفطرة ولا معدى عن الجبلة، ويكمل ذلك بما نصه: وقول القائل اللهم اجعل وصعي - طائر أصغر من العصفور - بازيا، يكون للسفه موازيا:
لقد علمت ولا أنهاك عن خلق
ألا يكون امرؤ إلا كما خلقا
3
وصاحبنا قد أحس سلطان الغريزة على الإنسان في أشياء كثيرة، وله الكثير الجم من التشهي لا نستوفيه هنا ولا يسمح المقام به، وحسبنا من ذلك كلمة متحرقة في الفصول (316) إذ يقول: إنما أنا كرجل بلي بالصدى (العطش)، لا يجد وردا ولا موردا، فهو ظمآن أبدا، إن ورد عزوفا (بئر يؤخذ منها باليد)، وجده مضفوفا (كثر وارده)، وإن صادف نزوعا (بئر تنتزع منها الماء)، أعوزته الآلة والمعين، فبينا هو كذلك هجم على رجل ينزع بغرب، فشكا إليه فرط الكرب، فقال: ريك إن شاء الله قريب، فأعني على انتزاع المروية، فلما كان الغرب بحيث يريان، غدرت الوذم (عرى الدلو أو السيور)، وخان العناج (الحبل يشد على خشب الدلو، أو يشد من تحته ليقويه).
وحسبنا من قوله عن المرأة قولته المكشوفة التي يقر فيها أن:
أركان دنيانا غرائز أربع
جعلت لمن هو فوقنا أركانا
والمرء ليس بزاهد في غادة
لكنه يترقب الإمكانا
1: 301
ولنا إلى هذه المسألة بخاصتها عود قريب. فشأن أبي العلاء في المسألة الجنسية يستحق القول المفرد.
وفي كل حال فما سمعنا من أقوال لأبي العلاء يجعلنا نسأل: أكان رأي أبي العلاء في المرأة قبيحا؟ أله في المرأة رأي ثابت يوصف بذلك؟ فكر أيها القارئ وقدر.
هذا ما عنده في المرأة، وأما ...
النسل
فاسمعه يهنئ بمولود فيقول ناثرا: قد سرت الجماعة بالمولود القادم أجزل الله حظه من اسمه، وأعطاه الغاية مما كني به. ويشتد به الفرح حتى يقول في ختام رسالة هذه التهنئة: وكان ينبغي ألا نهنئ به؛ لأنا شعرات في جسده وحصيات من أرضه، ولكن الجذل غلب فاستفز.
1
وإن لم نعرف متى كانت هذه التهنئة بالمولود أكانت قبل عزلته أم بعدها؟ فإنا لنقرأ له تهنئة أخرى بمولود في قصيدة يصرح فيها بأنه الآن في صبر واعتزال،
2
ومنها يقول في التهنئة بالمولود:
هنيئا والهناء لنا جميعا
يقينا لا يظن ولا يخال
بمنتظر مراقبة السواري
يهش لبرقها عصب نهال
ويرجو للمهنأ المزيد من النسل والولد فيقول:
أهل فبشر الأهلين منه
محيا في أسرته الجمال
بإخوته الذين همو أسود
على آثار مقدمه عجال
ويصف كثرة الولد وأثرها فيقول:
وهل يثق الفتى بنماء وفر
إذا لم تتل أينقه فصال
هذا قول الذي رأى أن الحزم عدم النسل، بل رآه ذنبا لا إقالة منه، والذي رأى النسل فرش هموم الفتى وأذى للوالدين هو القائل من القصيدة السابقة في التهنئة مخاطبا أبا الوليد:
بأن الله قد أعطاك سيفا
عدوك من مخايله يهال
كما يقول:
ستركز حول قبتك العوالي
وتكثر في كنانتك النبال
فإن مناي أن يثري حصاكم
ويقصر عن زهائكم الرمال
وكما هنأ الإنسان بالمولود، دعا للطير العابد لله بسلامة الولد، فقال: وإن كنت عابدا لله فأث ريشك وسلم ولدك (ف429).
وهو في اللزوميات يقدر نفع النسل ويقول: إن خير النسل ما نفع:
خير النساء اللواتي لا يلدن لكم
فإن ولدن فخير النسل ما نفعا
2: 79
ويقدر فضل الابن في حمل العبء عن أبيه ويأمر الولد بذلك:
تحمل عن أبيك الثقل يوما
فإن الشيخ قد ضعفت قواه
والذي رأى خير النساء العقيم هو الذي بارك النسل من المرأة الحصان العاقلة التي عدها نعمة يحسد عليها زوجها؛ إذ قال:
فإن جمعت إلى الإحصان عقلا
فبورك مثمر الغصن الوريق
2: 123
والذي يذكر جناية الأب على الولد حتى لو عقه الولد لكان قد كافأه بسوء صنيعه هو هو الذي يذكر عطف الوالدين على الولد، ويذم منه سوء معاملته لهما، ويضيف صنيعهما الحسن معه، فيقول: وأحسن وأجمل بالذي فعلاه:
ولو بمشار العين يوحى إليهما
لوشك اعتزال العيش لاعتزلاه
يودان إكراما لو انتعل السها
وإن حذيا السلاء وانتعلاه
يذم لفرط الغي ما فعلا به
وأحسن وأجمل بالذي فعلاه
2: 337
والذي عد الاشتغال بالنسل اشتغالا بما لا ينفع هو الذي يعنف من يمن على أبنائه بالنزر، ويلفته إلى صنيع الطير لأبنائها وإعطائها إياها ما في حواصلها:
مننت على أبنائك النزر آسفا
فأنت عليهم كالألد المفاصل
ولم تسع فيهم ليلة سعي متعب
إلى أن يبين الصبح شيبة ناصل
ألم تر زغبا أدلجت أمهاتها
فألقت لها ما حصلت في الحواصل
2: 186
وهو يتحدث عن صنيع القطا في هذا فيصفه في موضع آخر قائلا:
عجبا للقطا من الكدر والجو
ن غدت في عنائها المتواصل
لقطت حبة وجاءت بها الأف
راخ ثم استقت لها في الحواصل
2: 215
وأخيرا فإن أبا العلاء الذي يظن أنه صمم على عد النسل جناية، واختار هذا الرأي من آرائه ليحمله شاهد قبره، ويعرفه به الخالفون بعده من الملمين بمثواه، فطلب - فيما يروى - أن يكتب على قبره البيت المشهور :
3
هذا جناه أبي علي
وما جنيت على أحد
أبو العلاء هذا هو الذي يعد النسل أفضل عمل في هذه الدنيا، ويعد السعي له عملا معقولا، ويقول:
دنياك دار كل ساكنها
متوقع سببا من النقل
والنسل أفضل ما فعلت بها
وإذا سعيت له فعن عقل
2: 206
فهل آثر أبو العلاء العدم، ورأى من الواجب اتقاء الوجود والاجتهاد في قطع سلسلته؟ هذه آراؤه في المجتمع الصغير وهو الأسرة.
وأما ...
العزلة
ومجانبة المجتمع الكبير، فلم يخلف فيها عادته، فهو يعد المختلط بالناس البر السعيد، ويقول ناثرا: من اختلط بالعالم، وصبر عليهم، وكف نفسه عما يستحسن سواه، فهو البر السعيد (ف270)، كما يشير إلى ضرر العزلة، فيقول: إذ كانت الوحدة تغير المعقول، وتصرف قائلا أن يقول
1
فهو يرخص لمن لا يطيقها أن يزور غبا فيقول:
وإن لم تطق هجران رهطك دائما
فمن أدب النفس الزيارة عن غب
1: 96
والشيخ الذي شعاره «قاطع» هو الذي قال:
ولو أني حببت الخلد فردا
لما أحببت بالخلد انفرادا
فلا هطلت علي ولا بأرضي
سحائب ليس تنتظم البلادا
سقط 1: 159
فإن يكن هذا ليس من متأخر شعره، فإنه لهو القائل في اللزوميات:
وتدير الأوطان حب وطالما
قنص الحمام على الغصون الميد
1: 235
والذي يأمر بالفرار من الناس هو الذي يرى أن يساعد المرء ضده، ولا خير في الإخوان إن لم تساعد:
إذا جل خطب ساعد المرء ضده
ولا خير في الإخوان إن لم تساعد
والذي يطلب التوحش في بيداء تخلصا من الناس هو الذي يأمر بالمشاركة العاملة في إصلاح الجماعة، ويقول:
غير وأنكر على ذي الفحش منطقه
إذا أجاز خنا زير خنازير
1: 260
ويشتد في هذا حتى يقرر وجوب تعزير الملك على أخطائه:
يعزر الملك توقيرا وحق له
على المآثم تأديب وتعزير
1: 260
تقابل آراء أبي العلاء
1
ذلكم جانب آخر من صورة أبي العلاء، أو صورة ثانية غير مألوفة لشخصه ولآرائه في أمور إنسانية بعيدة عن المسألة الدينية، وعن خفيات الفلسفة، وله هو فيها سلوك خاص. قيل: إنه التزمه وأخذ نفسه به.
عرضنا هذا الجانب الثاني من آراء الرجل لنستطيع على هديه الإجابة عن السؤال الذي سبق أن وجهناه، بعدما رأينا موقف أبي العلاء في مسألة المعرفة، وتنقله بين الآراء المختلفة فيها جميعا. وهذا السؤال هو: هل لأبي العلاء آراء ثابتة؟ ولعلنا بعد هذا العرض نسمع إجابة أبي العلاء نفسه عن هذا السؤال بقوله:
فقارب وباعد واحب واعل ولا تقل
وقولن وجاهر بالمراد وكاتم
2: 254
فليس لأبي العلاء فيما عرضنا له من الموضوعات رأي ثابت مع أنها أولى ما يثبت له فيه رأي. وليس لأبي العلاء - فيما يثبت الاستقراء المطمئن - رأي ثابت، لا فرق في ذلك بين دين ودنيا، وفن وحكمة وأدب وعلم، وكل الفرق أنه في الشيء الواحد قد يتعادل إثباته ونفيه في كثرة ما يرد منهما، وقد يكون الإيجاب كثيرا والنفي قليلا أو العكس، وليس لهذه القلة في جانب، والكثرة في آخر قيمة في تقدير آراء أديب متفنن؛ لأنه فيما رأينا يطلق القول مثبتا، ثم يطلقه نافيا، فيهدم نفيه المطلق إثباته المطلق، سواء أنفى خمسين مرة وأثبت مرة، أم أثبت مائة مرة ونفى خمسين، فنحن لا نحصي عدد النافين والمثبتين من أشخاص يقترعون، بل نرصد النفي والإثبات من شخص واحد يظن أنه فيلسوف انتهى به بحثه إلى شيء، وأجرى حياته على وفقه، وهو شأن الفيلسوف - على ما سنعرض له بعد - كما أنا لا نحاسبه على أخطاء ارتكبها لنعاقبه، أو نعفو عنه، فتكون القلة أو الكثرة عاملا في تقدير هذه الأخطاء. وإنما نحصي آراء توافقت وتخالفت، على أنك بعد ذلك كله قد قرأت فيما عرضناه من آرائه في المسائل الإنسانية موافقة كثيرة تخالها الأصل، ثم قرأت مخالفة كثيرة تخالها الأصل، فما تدري بأيهما قال، وبأيهما معه تقول؟! وهكذا يستطيع المستقرئ لأقوال أبي العلاء أن ينضد منها ثبتا وجريدة متقابلة، جانب منها للإثبات وجانب للنفي. •••
ولشد ما يعنيني أن أوجه النظر هنا إلى أني إنما عرضت ما عرضت من آراء أبي العلاء في أمس الأشياء به؛ لأبين أن التناقض ظاهرة عامة شاملة في آراء أبي العلاء جميعا، وإنما يعنيني هذا لأن القدماء ثم المحدثين معهم عند النظر إلى تناقضه، والبحث في تعليله، إنما وقفوا عند تناقضه في المسألة الدينية فقط، أو لم يذكروا غيره، فلم يعللوا غيره. ثم لم يتصدوا في التعليل إلا لاعتبارات دينية لا غير!
فقد أثبت تناقضه داعي الدعاة في مناظرته له حول تحريم الحيوان، فقال: إن نظم أبي العلاء في هذا المعنى يناقض نثره، ونثره يناقض نظمه، فكيف الحيلة؟
1
وذكر الباخرزي في الدمية (ص50) اضطرابه بين التدين والإلحاد، وساق الذهبي ذلك وزاد عليه أشياء أخرى كلها ديني.
2
وذكر الصفدي تناقضه عندما تحدث عن المعاد واختلاف أقواله فيه.
3
كما أن من عرض لتناقضه من المحدثين نظر إليه في الأفق الديني، ورجع في تعليله إلى اعتبار ديني لا غير، فلاحظ أنه كثيرا ما يثبت البعث وكثيرا ما ينفيه، وكثيرا ما يثبت الجبر، ولا يكره أن يثبت الاختيار، وكثيرا ما يهزأ بالدين، ثم لا يكره أن يحث عليه، ويعلل ذلك بأنه كان تناقضا مقصودا من غير شك قد ذهب به مذهب اللبس والتعمية قصدا إلى التقية، وهي مذهب معروف.
4
ولكنا قد رأينا تناقضه في حب الدنيا وكراهيتها، ولو أحبها أبدا وكان من أنشط طلابها - كما كان كذلك حينا ما - ما أنكر عليه ذلك أحد، ولو كرهها أبدا ما كفره أحد. وقد تناقض في المرأة فعدها شرا وضرا، وعدها نعمة وجنة، ولو أخذ بأحد هذين الرأيين أبدا ما قاتله أحد. وتناقض حتى في اختيار الميتة التي يموتها؛ فقد عد موت الوغى بضربة السيف سعادة، ثم عد أحسن ميتة الرجل ما كان على فراشه تشتد به العلة ... إلخ. وليس لمثل هذا الرأي يغضب الناس ويحاكمون أحدا حتى يلجأ إلى التقية!
لقد تناقض في كل شيء مما للناس فيه اعتقاد وقول يحترمونه، أو ليس لهم فيه رأي يلتزمونه، فكيف تكون التقية تعليلا لتناقض أبي العلاء فيما لا موضع فيه لتقية أبدا؟ بل إني لأرى التقية لا تصلح أبدا علة لاختلاف أقوال أبي العلاء حتى في الأمور الدينية؛ لأن التقية - كما يصفها المعللون بها - إنما هي اختلاف ظاهر وباطن، طاعة ظاهرة وقلب مخالف، وتوافق ظاهر، وإضمار خلاف، وهذا من التقية مفهوم؛ لأنه إخفاء ما يكره الناس ويغضبون من أجله، أما حين يقول الرجل قولين متخالفين ويعلنهما على السواء، ويجهر بهما معا فإن الناس سيأخذونه بالقول السوء ولا بد، ولن يشفع له عندهم أنه قال قولا حسنا، وبخاصة إذا كانت المسألة مسألة العامة والجماهير، أو مسألة المتعصبين من الفقهاء المرتزقين بفقههم، وهل ترى الناسك الزاهد المعتقد المتبرك به حين يظهر منه الكفر الصراح، ويجهر به سيغفر له الناس هذا ويعتذرون له بخيره الأول؟ كلا. ولعلنا نذكر أنه في محاكمات الزنادقة قد كانت توجه أقوالهم غير الصريحة، وتفسر إشاراتهم غير الواضحة تفسيرا متهما يؤخذون به ويقضي عليهم، فكيف يكون صنيع أبي العلاء من التقية، وقد ظهر منه القول الصريح الكافر الهازئ؟!
وفي كل حال، فسواء أكانت التقية لا تعلل مطلقا تقابل آراء أبي العلاء الدينية أم كانت تصلح لأن تعلل التقابل في الدينيات فحسب، فستظل وراء ذلك تناقضات أخرى وتقابلات كثيرة تحتاج إلى التعليل. وهذا موضع الرأي الذي رمناه في أبي العلاء.
وإني لأحسب أن أبا العلاء نفسه قد شعر بهذا التناقض حين قال:
جهل مرامي أن تكون موافقي
وشكوك نفسي بينهن تعادي
1: 237
وكأنما أراد الاعتذار لهذا التناقض منه أكثر من مرة؛ كقوله:
تناقض في بني الدنيا كدهرهمو
يمضي المقيظ وتأتي بعده القرر
1: 254
أو قوله:
وعالم فيه أضداد مقابلة
غنى وفقر ومكروب ومقرور
5
1: 259
أو قوله:
والملك لله والدنيا بها غير
خير وشر وإعدام وإيجاد
1: 204
أو قوله:
وإن أخا دنياك أعمى يرى السها
عليل معافى ظالم يتظلم
2: 221
فالرجل يحس تناقض الدهر في فصوله المختلفة، وتضاد العالم، وتقابل الأضداد فيه، واختلاف أحوال بني الدنيا، ويشتد عليه الاشتباه فيشكو تضاد الأشياء في الحس قائلا:
ولكل ما أصبحت تدرك حسه
ضد وكبرة من ترى كصغار
1: 343
وكأنه حينما يؤثر هذا التضاد في العقل أثره يقول:
ويعتري النفس إنكار ومعرفة
وكل معنى له نفي وإيجاب
1: 68
وسواء أكان هذا دليلا على أن أبا العلاء قد شعر بهذا التقابل في آرائه، فقصد الاعتذار بمثل هذه الأبيات من قوله ، أم لم يكن قد أراد الاعتذار عن شيء منه، فإن التقابل في آراء أبي العلاء - دينية وغير دينية على السواء - ظاهرة واضحة لا تعللها التقية ولا القصد إلى الاستخفاء، ظاهرة واضحة تحتاج إلى تعليل متسق، ولكنا لا نعرض لهذا التعليل إلا بعد أن ننتهي إلى رأي بشأن ...
تفلسف أبي العلاء
لنعرف أكان صنيع الرجل فيما دون من آثاره صنيع متفلسف، فنخضع عمله لمنطق العقل، ونحتكم إليه في فهمه ودفع تناقضه، أم كان صنيع متفنن أديب متأمل، فنخضع ذلك كله لمنطق العاطفة والوجدان، ونقدر فيه أثر العوالم النفسية المختلفة؟
وقد لهج المحدثون بتفلسفه، وأسلفنا بعض وصفهم له بذلك، بل إنهم عدوه فيلسوفا إيبيقوريا، ولمحوا نواحي التشابه بين أشياء عنده، وأشياء في المدرسة الإيبيقورية،
1
فلنعرض صنيع أبي العلاء على الفلسفة كما يعرفها إيبيقور هذا حين يقول: إنها هي الحكمة العملية التي توفر السعادة بالأدلة والأفكار.
2
وهو قول لا يفترق كثيرا عن الفكرة العامة في الفلسفة، وأنها دائما هي البحث الحر عن الحقيقة مهما تختلف الاعتبارات في تعريفها.
فإذا ما عرضنا صنيع أبي العلاء في آثاره المختلفة على الفلسفة كما عرفت تبين لنا ما يأتي:
أولا:
ليس لأبي العلاء بحث بالمعنى الصحيح عن الحقيقة، وليس هنالك إلا خواطر منثورة في جملة، أو فقرة قصيرة، أو منظومة في بعض شطر، أو في شطر من بيت، أو في بيت، أو بيتين، أو أكثر من ذلك قليلا، فليس من الإنصاف لتاريخ الفلسفة ولجهد الفلاسفة أن يسمى مثل هذا الصنيع فلسفة وبحثا، مهما تتناول هذه المنثورات أو المنظومات من آراء وفكر فلسفية، ومهما يكن نوع الفلسفة التي تشير إليها هذه الفقر والمعاني الإجمالية إشارات مبهمة، أو لامحة مجملة لا أكثر ولا أقل، وإنما قول أبي العلاء في كل ذلك هو أشبه شيء بالمثل العامي ينتظم فكرة، قد تكون رأس فلسفة، وخلاصة مذهب، وما هي في حساب قائلها الأول أو ضاربها الثاني إلا مغزى حكاية، وثمرة ممارسة؛ وملحظا واقعيا لحادثة أو عمل كان، وذلك شيء غير البحث الفلسفي والتأمل الدارس، الذي يجرد المتفلسف قواه له، ويصطنع له منهجه، ويأخذ نفسه بطريقته في المعرفة؛ ليعرف حقائق الأشياء على ما هي عليه كما يقول الأقدمون، وليفكر ويقدر، ويسبب ويعلل.
ثانيا:
أن مسألة المعرفة - وهي شطر الفلسفة - لم نستطع أن نعرف لصاحبنا فيها اتجاها، ولا منهج تفكير، فهو فيما عرضنا - أول الحديث - من شعره ونثره في أدوار حياته المختلفة، ومراحل سنه المتباعدة، يثبت إمكان المعرفة ويذكر وسائطها، وينكر إمكان المعرفة، ويهدر تلك الوسائط واحدة واحدة، فهو يوقن، وهو يشك، وهو يحار، وهو يطمئن، وهو ينفي، وهو يثبت، وهو لا يثبت، ولا ينفي، فلا يسع المدقق إلا أن يعد ما نظمه أبو العلاء في المعرفة ومذاهبها ضربا من الشعر التعليمي يمكن اتخاذ عناوين منه لمختلف الآراء في المناهج التفكيرية الفلسفية، أو يمكن اتخاذ عناوين له من تلك المذاهب التفكيرية. وأما أن يكون شيء من ذلك النظيم والنثير مذهبا في المعرفة خاصا فما أحسب هذا يهون ولا يقبل! وكما لا نطمئن إلى أن لهذا المتحدث عن الفلسفيات دستورا للتفكير أو البحث.
ثالثا:
إذا ما كانت الفلسفة هي الحكمة العملية بالأدلة والأفكار كما في تعريف إيبيقور الذي احتسبوا أبا العلاء صديقا لفلسفته، فلئن كنا قد نتسمح بأنه يسوق في آثاره فكرا فإنه لا يستدل لها إلا بالتشابه اللفظي بين الكلمتين، أو بالملاحظة الساذجة، أو المناسبة المستملحة على ما يشعر به المتصل اتصالا ما، بشعره ونثره، ولا حاجة بنا إلى الاستكثار بسوق الشواهد المجتمعة عليه هنا؛ لأنه واضح مستبين يجده القارئ في كل ما يصيب من آثار صاحبنا، ومثل هذا من المجانسة أو المشاكلة أو المشابهة أو المناسبة وما إليها في لفظ وتعبير لن يعد في حساب الفلسفة استدلالا ولا شبيها به، وإلا فقل لي بربك: كيف يدل اتخاذ الكلل للنساء على أنهن أذى وكيد يحبسن فيها؟ وكيف يدل اتفاق النعش والانتعاش في لفظهما على فضل الموت ووجوب التخلص من الحياة؟ وكيف وكيف مما يعرفه من قرأ آثار أبي العلاء؟! وهل هان الاستدلال الفلسفي إلى هذا الحد فصارت الصنعة اللفظية التي يمقتها الأدب وينكرونها أو ينكرون الكثير منها على أبي العلاء عملا فلسفيا عقليا يسلك به الرجل في زمرة الحكماء إذا جودل في احتسابه من الشعراء؟
رابعا:
أنا إذا ما تساهلنا في كل ذلك، فعددنا هذه المرسلات المتفرقة آراء فلسفية، وتركنا الأدلة والاستدلال جانبا، ورحنا نعرف مذهب أبي العلاء، والوحدة الفلسفية التي تعنون مذهبه، فماذا نجد؟ إنك لتجهد في أن تعرف مذهب أبي العلاء فيما عرضت عليك من كثير قوله في الشئون الإنسانية؛ كالزهد، والجد، وحب الحياة، وكرهها، والمرأة، والزواج، والنسل، والعزلة وو ... إلخ، فلا تستطيع أن تخرج بشيء معين، فهو - كما رأينا وسمعنا - زاهد وكادح، منكر للزهد، وحاض على التنعم، وهو ناسك يتحسر على الشباب، وهو محرم النسل، يعده أفضل ما عملت في الدنيا، وهو معتزل منفرد، لو حبي الخلد فردا لما أحب في الخلد انفرادا وهو ... ثم هو ... فأين نضع بين الفلاسفة صاحب هذه المتقابلات التي شملت كل شيء تعرض له؟ وما مذهبه من هذه المتقابلات؟
3
خامسا:
إن الفلسفة إنما تتميز بتأثيرها على سلوك الفيلسوف، وعدم اختلاف قوله عن فعله، وهي بذلك تفترق عن العلم؛ إذ تطبع فلسفة الفيلسوف سلوكه، ولا كذلك يفعل العلم؛ فالفيلسوف الذي انتهى به الدرس الباحث إلى كذا من الرأي في الخلق والعمل، لا تجده يخالف هذا الذي ذهب إليه وانتهى به درسه، على حين ترى العالم الرياضي أو الميكانيكي مثلا، بوهيمي السلوك، مشوش العمل، مضطرب التناول، رغم ما وقف عليه حياته من دقة وضبط، وتحديد ونفاذ. وإنما نعني بالفيلسوف والعالم الأصيل منهما صاحب الصفة الكاملة فيهما؛ فالفيلسوف هو المفكر المتأمل الأصيل الذي يسخر قواه لمعرفة الوجود، ويتبع عمله رأيه، وليس هو متعاطي الفلسفة قراءة أو تعليما أو ترجمة أو نحو ذلك من اتصال قد تبعث عليه أناقة، أو طرافة، أو تلهية، أو تكاثر، أو نحو ذلك مما يقع للمتصلين بالفلسفة، والواصلين أنفسهم بها، أو الذين وصلتهم ظروف الحياة بها، فهؤلاء هم من لا نعنيهم إذا أشرنا إلى تأثير التفلسف على السلوك، وطبعه له، وتوجيهه إياه، فلا يشتبه الأمر في ذلك.
وهذا التأثير للفلسفة على السلوك مما لحظه مفلسفو أبي العلاء في هذا العصر؛ فعقد الأستاذ الدكتور طه حسين بك في كتابه «ذكرى أبي العلاء» فصلا عنوانه: هل أبو العلاء فيلسوف؟ أورد فيه تعريف الفيلسوف، وبين تحققه في أبي العلاء، وإليك قوله بيانا لفكرة تأثير الفلسفة على السلوك، فهو يقول:
مهما كان أصل هذا اللفظ في اليونانية، ومهما كانت معانيه عند المسلمين، فإنا نفهم منه رجلا درس
4
العلوم الطبيعية والإلهية والخلقية درسا علميا متقنا، وبسط سلطانها على حياته العلمية وسيرته الخاصة، فلم يكن تناقض بين هذه العلوم وبين أعماله، وكذلك كان الأقدمون من فلاسفة اليونان يفهمون هذا اللفظ؛ فالرجل الذي أتقن هذه العلوم، ولكن حياته تناقضها، فهو يعرف الفضيلة ويناضل عنها، ولكنه لا يصطنعها في سيرته، ليس بالفيلسوف عندنا الآن، وإنما هو عالم بالفلسفة، والرجل الخير يؤثر الفضيلة ويحرص عليها؛ لأن نفسه قد فطرت على ذلك من غير أن يكون متقنا لهذه العلوم ليس بالفيلسوف عندنا الآن. أيضا، وإنما هو رجل خير فحسب، فإذا جمع بين هذين الطرفين فأجاد الحكمة علما وعملا - أي بحث عن حقائق هذا العالم - وكانت حياته موافقة لنتائج بحثه، فهو الذي نفهمه في هذا الكتاب من لفظ الفيلسوف أو الحكيم.
وهذا الذي فهمه الأستاذ، وانتهى إليه من أن الفيلسوف بحث عن حقائق هذا العالم، وكانت حياته موافقة لنتائج بحثه، هو ما نريده هنا من الفيلسوف أو الحكيم، لكن الأستاذ تقدم بعد ذلك فيما يلي من هذا الفصل لإثبات هذه الصفة لأبي العلاء فقال:
إذا صح هذا فما قدمنا في المقالة الثانية من سيرة أبي العلاء وأخلاقه وحياته في منزله وبين الناس، ومن درسه للفلسفة في أنطاكية وطرابلس وبغداد، يدلنا على أنه قد كان فيلسوفا حقا، كما سيدلنا على ذلك درسنا «للزوميات». ا.ه. من (ذكرى أبي العلاء ص329-330، من الطبعة الأولى).
ونرجع إلى المقالة الثانية فنقرأ أنه: كانت بأنطاكية مكتبة عربية تشتمل من نفائس الكتب على عدد غير قليل، فحفظ منها أبو العلاء ما شاء الله أن يحفظ، (الذكرى ص154، ط أولى)، وأن أبا العلاء وصل إلى طرابلس، وكانت بها مكتبة كبيرة، وقفها أهل اليسار، فدرس أبو العلاء منها ما شاء، ثم عاد إلى معرة النعمان (الذكرى، ص157، ط أولى)، وأما في بغداد «فمما لا شك فيه أنه لم يجلس مجلس التلميذ من أحد (الذكرى، ص190، ط أولى)، ولم يكن في بغداد أستاذا ولا تلميذا، وإن كان قد زار مكتبتيها، وقرأ ما فيهما من كتب الحكمة، وحضر المجمع الفلسفي بدار عبد السلام البصري (المصدر السابق، ص192)، وإذا ما كان درس أبي العلاء للفلسفة في أنطاكية وطرابلس وبغداد أيضا هو الحفظ من المكاتب، فإنك لن تطمئن إلى أن هذا هو البحث عن حقائق العالم الذي عرفنا أنه شطر عمل الفيلسوف، على أنك تجاوز هذا، وتفرض أن أبا العلاء أجاد الحكمة علما وعملا - أي بحث عن حقائق هذا العالم - وتسأل: أكانت حياته موافقة لنتائج بحثه كما يجب أن يكون الفيلسوف في تقرير مفلسفي أبي العلاء أنفسهم»؟
وهنا يبدهك في الإجابة عن هذا السؤال ما قرأته لأبي العلاء من نتائج بحث - إن تساهلت فسميتها كذلك - فلا تعرف له نتيجة ثابتة لم يخالفها، ولم يقرر غيرها، فإلى أي نتائج بحثه كان يستند سلوكه، وقد قال الشيء وضده دائما، أو على الأقل، فيما قرأت هنا من أمور الحياة العملية؟! وإذا لم تعرف إلى أي نتيجتي بحثه، وأي عبارتي قوله استند فعله، فقد بقي أن فعله لا يستند إلى شيء من قوله، ولعل هذا ما نستطيع القول به حين نتحدث عن «أبي العلاء بين قوله وفعله» فيما يلي من هذا الرأي.
فلو كانت العزلة والوحدة - كما دعا إليها وحبب فيها أحيانا - لوجب أن يلتزم العزلة دائما. ولكنه لم يفعل هذا - كما سترى - ولو كانت العزلة غير محبوبة، والاختلاط والتعاون والسعي في الأرض خيرا لوجب أن يكون ذلك عمله، ولكنه كذلك لم يفعل هذا دائما، أو لم يفعله على وجهه؛ فقد حاول العزلة، وأعلن أنه صمم عليها ، ولكنه ظل يختلط ويدرس ويتثقف، ويلقى الناس كثيرا أو قليلا!
ولو كانت الحياة كما كرهها، وكره فيها، لحرص على التخلص منها، ولكنه رغب في هذا التخلص ولم يفعل.
ولو كانت الحياة محببة بالغريزة وهو يحبها، كما قال، لأقبل عليها واطمأن إليها، ولكنه لم يفعل ذلك خالصا ولا متسقا. وفي كل حال فإن صلة ما بين قوله وعمله لم تجر على دستور الفلاسفة المعروف، الذي قرأت تقريره في قول مفلسفي أبي العلاء أنفسهم. وقد فعل أشياء وافقت بعض قوله، ولكنها خالفت كذلك بعض قوله، فمال إلى الإقلال والقناعة، وكف عن التكثر والتمتع وترك الزواج، وبذلك لم ينسل، وأنت غير مستطيع أن تجعل هذا موافقة لقوله، أو لنتيجة بحثه؛ لأنه يوافق بعض القول حين يخالف بعضه، فبقي أن تلتمس مرجحا آخر غير هذا القول المتفلسف، أو التفلسف الباحث. قد كان سبب ما جنح إليه أبو العلاء في أمر حياته ونظامها، وهو ما وعدناك أن نعود إليه بعد الانتهاء إلى وجه الرأي في تفلسفه الذي رأينا منه حتى الآن: أن أبا العلاء لا يظهر فيلسوفا بالمعنى المعروف لهذه الكلمة، ولا له فلسفة خاصة تقوم على منهج تفكير، وأسلوب بحث، ومذهب في المعرفة، وتقرر آراء واضحة معينة، وإننا لهذا لا نجد حتى الآن ما يدلنا على أنه قد كان فيلسوفا حقا، بل إنا لنجد غير قليل مما يدلنا على ...
إخلال أبي العلاء بمنهج الفلسفة
فمن ذلك:
أولا:
أن هذه الفلسفة ليست إلا البحث الحر، لا يحد نظر المفكر فيه حد، ولا يحتكم في عقله غير منهجه، فهو لا يعترف بأسرار محجبة، ولا يسلم بوجود مناطق في الكون محرمة على العقل، وذلك جلي في طابع التفلسف لا يحتاج إلى فضل بيان أو تأييد، ولكن صاحبنا يخل بهذا في مثل قوله بعد حديثه عن الروح:
وروم الفتى ما قد طوى الله علمه
يعد جنونا أو شبيه جنون
2: 310
فيجعل في موضوع البحث والتفكير ما طوى الله علمه، ويرد العقل عنه، بل يقسو في رده، فيعد رومه معرفة هذه المطويات جنونا أو شبيه جنون! وإنك لتقرأ هذا في حديث من سموه فيلسوفا عن الروح، فتذكر حين تقرؤه أن الغزالي - وهو رجل قد عادى الفلسفة وناهضها، ووقف في وجه حريتها العقلية بكل ما يستطيع - يسمع قول القرآن كتاب دينه عن الروح:
قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ، فلا يمنعه ذلك من تقرير إمكان التحدث في الروح، وتفسير كونها من أمر ربه تفسيرا لا يجعل رومها جنونا، ولا شبيه جنون، كما يقول أبو العلاء المتفلسف الموصوف بالجرأة.
وإني إذ أقرر ذلك لأذكر أن أبا العلاء - كدأبه - قد قال ما يغاير هذا المعنى حين رأى أن الظن والتجربة كافيان لمعرفة الغيوب:
إذا قرن الظن المصيب من الفتى
بتجربة جاءا بعلم غيوب
فلم يثبت على رأيه حتى النهاية، وإن كان هذا القول الأخير لا يناقض المعنى الأول تماما؛ إذ قدرة العقل بالتجربة على علم غيوب لا تنفي أن في الغيوب مناطق قد طوى الله علمها فلا ترام، ورومها جنون أو شبيه جنون ...!
وكذلك يخل أبو العلاء بأصول التفلسف إخلالا يزيد ظهوره ووضوحه حين تعرف من أمره:
ثانيا:
أن الفلسفة إنما هي فهم العالم فهما عقليا يقوم على تقرير أن المسبب يترتب على سببه، والنتيجة تتلو مقدمتها؛ لثبات النواميس الكونية، والسنن الفطرية، وارتباط المسببات بأسبابها، وإنكار التخلف، ونفي الصدفة، وما إلى ذلك. ولعل الخلاف في مسألة الأسباب والمسببات، وما يتصل بها، هو أكبر ما بين الدينيين والحكماء من خلاف؛ فالدينيون - على اختلافهم - ينكرون هذه السببية، واطراد السنن، ويقولون بلسان الغزالي - وهو من أكثرهم تنورا - حين عرض لهذه المسألة في تهافت الفلاسفة
1
فقرر: أن الاقتران بين ما يعتقد في العادة سببا، وما يعتقد مسببا ليس ضروريا عندهم - أي المليين - وأن مثل الري والشرب، والشبع والأكل، والاحتراق وملاقاة النار، والنور وطلوع الشمس، والموت وجز الرقبة، والشفاء وشرب الدواء، وهلم جرا، إلى كل المشاهدات من المقترنات في الطب والنجوم، والصناعات والحرف، فاقترانها لما سبق من تقدير الله سبحانه لخلقها على التساوق لا لكونها ضروريا في نفسه، غير قابل للفرق، بل في المقدور خلق الشبع دون الأكل، وخلق الموت دون جز الرقبة، وإدامة الحياة مع جز الرقبة، وهلم جرا، إلى جميع المقترنات. وفاعل الاحتراق عند ملاقاة النار هو الله تعالى، إما بواسطة الملائكة أو بغير واسطة. وأما النار فهي جماد لا فعل لها، وليس لهم - أي الفلاسفة - إلا مشاهدة حصول الاحتراق عند ملاقاة النار، والمشاهدة تدل على الحصول عنده، لا على الحصول به.
وهذا هو ما ينكره الفلاسفة ويرون استحالته، ويقول ابن رشد بلسانهم في الرد على الغزالي فيما قال سابقا:
2 ... أما إنكار وجود الأسباب الفاعلة التي تشاهد في المحسوسات فقول سوفسطائي، والمتكلم بذلك إما جاحد بلسانه لما في جنانه، وإما منقاد بشبهة سوفسطائية عرضت له في ذلك ...
حتى يقول:
فالعقل ليس هو شيئا أكثر من إدراكه الموجودات بأسبابها، وبه يفترق من سائر القوى المدركة، فمن رفع الأسباب، فقد رفع العقل. وصناعة المنطق تضع وضعا أن ها هنا أسبابا ومسببات، وأن المعرفة بتلك المسببات لا تكون على التمام إلا بمعرفة أسبابها، فرفع هذه الأشياء هو مبطل للعلم ورافع له.
وفي مناقشة ابن رشد لما يسميه المليون في حصول هذه الأشياء «عادة» يذكر الفيلسوف اطراد النواميس، ويحتج لها بأن الله عز وجل يقول:
فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا .
تلك هي مسألة من أهم ما فرق بين الفلسفة والدين، وأساسها كما قرأنا من قول ممثلي الطرفين هو تحكم أصحاب الدين في توسيط قدرة الله بين السبب الطبيعي والمسبب، وجعلها الفاعلة باختيار لكل شيء، وإنكار أن يكون لهذا السبب المشاهد فعل، وأن يتقرر بذلك ناموس ثابت لا يتخلف لرغبتهم في أن تبقى الكلمة للقدرة الإلهية حتى تحول بين المؤثرات والأثر، فتكون نار ولا إحراق، ويكون إحراق بلا نار، ويكون قطع رقبة ولا موت ...
ولو رحت ترقب حرية الفكر في المليين، لاستطعت أن تجعل هذه المسألة مقياسها، وأنه بقدر ما يقبل الديني من هذه السببية وثبات الناموس يكون حر الفكر، أو يكون محافظا، وهكذا تجد المعتزلة مثلا يقررون هذه السببية ويوفقون بينها وبين فعل الله لكل شيء، وقدرة الله على أن ينشئ الأجناس كلها بلا أسباب ولا مواد، كما أنشأ نفوس الأسباب والمواد
3
حين تسمع أهل السنة يقررون مثل الذي قرأت من تحكم قرره الغزالي في نص التهافت السابق.
وتجد المتجددين من الدينيين في العصر الحديث يحرصون على تقرير: أن ثبات السنن إرشاد لم يعهد في غير القرآن، وينكرون على المليين في جميع الأجيال أن تكون أفعال الله كأفعال الحاكم المستبد تستند إلى المشيئة المطلقة، وتقرأ عن هذا قطعة طريفة للأستاذ الإمام رحمه الله في تفسير المنار.
4
وحيث كانت المسألة من الأهمية على ما رأيت حتى بسطنا القول فيها نوعا ما، فمن البين أن نعرض أبا العلاء على الآراء فيها؛ لنستبين قربه أو بعده من الروح الفلسفية أو الدينية، فماذا يرى أبو العلاء في القدرة الإلهية والأسباب والسنن الكونية؟
نحن نعرف من آثاره أنه عرض لهذه المسألة الكبيرة الأثر في بيان الفرق بين الأصلين: الديني والحكمي، فهل كان يفكر فيها تفكير متفلسف له الشخصية الحرة التي يدعيها له مفلسفوه؟ سنسمع من قوله الإجابة عن ذلك.
إن أبا العلاء قد أحس حينا ما ثبات الفطرة، وجنح نوعا ما إلى استقرار النواميس، فتسمع له مثل قوله في بعض رسائله.
وقد ذكر من حاله فقد أسباب العلم بآفته، ونشأته في بلد لا عالم فيه، وأنه ليس صاحب الثروة فكيف الحداء بغير بعير؟ فقال: فإن بلغ سيدي الشيخ أن ساري الليل قبض على سهيل، وأن الأرض أنبتت وشيا وحريرا، والسحاب أمطر مداما وعبيرا، فهو أعلم برده على المبطلين، حسب الأرض أن تعتو بخلة وحمض، وعادة السحاب المرتفع في السماء أن يأتي بري الظماء ... إلخ.
5
فهو - كما ترى - يعد مخالفة طبائع الأشياء من قول المبطلين، ويطلق القول بذلك الثبات للنواميس لا يستثني ولا يقيد. لكن أبا العلاء، كما عرفته في هذا البحث، لا يكفيك في فهمه بعض قوله دون بعض، فامض قدما، تسمعه حينا آخر يقرر ثبات النواميس لكن في تحوط واستعداد للانسحاب - كما يقول الحربيون الآن - فاقرأ قوله في الفصول:
6 «... والشيء كما فطر حتى يأذن له خالقه بالتغيير، فإن قيل: إن الديمة مطرت مداما، وإن الأرض أنبتت أهداما - جمع هدم، وهو الكساء الخلق - وإن البرة - الخلخال ونحوه من الحلي - صيغت من الكعبرة - واحدة الكعابر، وهو شيء يخرج في العضاه، وكل عقدة صغيرة مثل الجوزة ونحوها، فهي كعبرة، وكعابر الرأس عقده - وإن حضنا - جبل بنجد - غار، وتهامة أتت حجرا - وهي قصبة اليمامة - فقد كذب القائلون، إنما يتنزل من السماء غريض الماء، وتعنو الأرض بالنبات الغض، وتجود السمرة - شجرة ترعاها الإبل - بمر الثمرة، ولا تنتقل تهامة أبدا، ولا يوجد حضن إلا منجدا، فاستغفر الله.»
فهو كما قرأت يكذب القائلين بإخلاف الطبيعة وتغير أوضاعها، لكنك تلمح في صدر الكلام هذا الاستعداد الذي أشرنا إليه؛ إذ يقول: «الشيء كما فطر حتى يأذن خالقه بالتغيير.» فيجعل للثبات غاية هي الإذن الإلهي بالتغيير.
ومثل ذلك قوله في احتياط:
7 «أن رضوى لا يخاف أبدا من ضوى - صغر - الجسم حتى يأذن رب الجبال»، فبقاء جبل رضوى على حاله مرهون بإذن رب الجبال! وبذلك ومثله تحس اهتزاز يقين صاحبنا بتلك السنن، وسببية الأسباب، فإذا ما مضيت تقرؤه وجدته ينفي السببية في قوة، حين يقول:
وقد يأمر الله الكهام إذا نبا
فيفري وقد ينهى الحسام فيكهم
2: 221
ويقول:
لو ينطق السيف نادى ليس لي عمل
إذا قضى مالك الأفلاك أنضاني
متى أراد فصفحاي اللذان هما
بحرا الردى من حياض الموت حوضان
وإن كهمت فأمر الله أكهمني
وإن مضيت فأمر الله أمضاني
2: 316
فقوله هذا في نداء السيف: ليس لي عمل، وأن كهامه يفري بأمر الله، وأنه إن مضى فبأمر الله، وإن كهم فبأمر الله؛ كاف في أنه ينفي بذلك الأسباب نفيا لا هوادة فيه، وأنه لا يرى لهذا الكون نواميس طبيعية، وإنما هي القدرة الإلهية والأمر الإلهي. وأبو العلاء بسيفه هذا أمضى في قول الدينيين وأبلغ؛ فالري ليس من الشرب، ولا الشبع من الأكل، ولا الموت من جز الرقبة، ولا قطع بضرب الحسام؛ لأنه قد ينهاه الله فيكهم. وقد بعد الرجل عن ميدان الفلسفة بهذا التقرير بعدا تاما، ومضى يمعن في بعده هذا، حتى لتحس إذا تابعت قراءته أن هذا الذي فلسفوه حقا يسلط القدرة الإلهية والمشيئة الربانية على الكون وشئونه، ويعرض من ذلك لما يلتحق بالمعجزات طورا وبالكرامات تارة، ويأمل تحقق ذلك من غير طرائقه ومعتاد أمره، تارة لنفسه التي يبدو حبها للحياة والقوة في مثل ما قرأت أول هذا البحث، وحينا يأمل هذه الخوارق لغيره، أو يمجد الله لقدرته المطلقة ومشيئته النافذة في إمكان تحقيقها قائلا: لو شاء ربنا وهو القادر لا يعجزه شيء.
ثم هو فيما يورده من ذلك تجري على لسانه عبارات واصطلاحات تتصل بمقررات لأصحاب علم الكلام الإسلامي، أو أصحاب الفلسفة العامة، فتكون حينا وفق ما قرروها، وحينا غير ما عرف عنهم؛ ولهذا كله سبب قوي من عوالم الشيخ النفسية - أو مما يكشفه الدرس غير ذلك - وفي كل حال لا يحسن أن نعرض لصنيعه في حديث القدرة والمشيئة قبل أن نذكر القارئ بالمهم من هذه الاصطلاحات ليقضي برأيه في صنيع أبي العلاء عن بينة، ويرى رأيه في مكانه بين الفلسفة والدين على أساس صحيح. •••
فأصحاب الكلام يذكرون المستحيل ويريدون به ما لا يمكن وجوده بل يستحيل وجوده في الخارج؛ لأنه إذا تصورت ذاته مجردة من كل اعتبار لم تكن إلا مستحيلة الوجود بحكم العقل القاطع لا بحكم العادة؛ فالذهن لا يستطيع أن يتصور له ماهية كائنة، والعدم من لوازم ماهيته. وذلك هو المستحيل العقلي كاجتماع النقيضين الوجود والعدم، فإن الذهن لا يستطيع أن يتصور كون الشيء موجودا وغير موجود في آن واحد، وكخلو الجرم عن الحركة والسكون معا؛ فإن العقل يجزم في مثل هذين بعدم تحقق أحدهما لذاته؛ إذ لا يمكنه تصوره.
وإذا كان هذا هو المستحيل العقلي الذي انتفى فيه الوجود، واستحال التحقق بحكم العقل القاطع فهناك مستحيل سموه: المستحيل العادي، تحكم بعدم وجوده في الخارج العادة والإلف، وما عهده الناس من شئون الكون، لكن العقل يتصوره ويجده ممكنا، وله بهذا وجود ذهني، لا خارجي، ثم قد يكون له هذا الوجود الخارجي في حال خاصة من تقدم علم الناس بقوانين الكون ومعرفتهم قانونا جديدا مما يسير عليه الوجود، كما قد يوجد في الخارج بمعجزة كان يمكن أن تجري في عصر المعجزات على يد أحد المرسلين،
8
ومثال ذلك المستحيل العادي الذي لا يمكن عادة وجوده وإن أمكن عقلا وجوده: مشي الإنسان على الماء، أو طيرانه في الهواء وصعوده السماء، وما إلى ذلك مما تحقق بالمعجزة فيما مضى، ويتحقق اليوم بالأجهزة أو بتقدم معرفة الناس بالنواميس، فهو قبل هذا لا يقبل الوجود عادة، وفيما عهد الناس من الوجود وعرفوا من قوانينه، ثم يصبح ممكنا واقعا كالطيران وسماع من في أقصى الأرض، وما إلى ذلك مما علم الناس بعد تقدمهم أنه من سنن الكون ونظم الوجود. فالمستحيل الأول العقلي هو مخالفة النواميس الفطرية النظرية، أي الخاصة بما لا يتوقف على المادة في تصوره كالمنطقيات والرياضيات،
الطبيعية الواقعية العملية، أي الخاصة بما يتوقف تصوره على المادة كالطبيعيات وما إليها، ويزيد هذا بيانا أن أذكرك بتقسيم القدماء للعلوم: إلى ما يتوقف على المادة في تصوره ووجوده، وهو العلم الطبيعي، وما لا يتوقف على المادة في تصوره وإن احتاج إليها في وجوده، وهو العلم الرياضي، وما لا يتوقف على المادة لا في تصوره ولا في وجوده، وهو العلم الإلهي. وقد كان هذا التقسيم مما نظن أبا العلاء قد قرأه أو حفظه فيما ألم به من التحصيل الفلسفي. كما نرجح أنه عرف من قول الكلاميين هذين المستحيلين: العقلي والعادي. وسنرى تناوله الفني لهذه المعاني، وأين يقع من الصواب فيها؟
وإذا أشرنا مضطرين إلى هذه المقررات الفلسفية والكلامية لإكثار صاحبنا من التعرض لها تعرضا يحتاج إلى الرأي، فإننا نستطيع أن نلم بعد ذلك بقدر من أقواله في هذا الشأن، ولعل أكثرها مما أشار إليه في تسبيحه الله وتمجيده بما كتب في الفصول والغايات؛ إذ للعالم النفسي المسيطر عليه ديني واضح.
وقد أشرت إلى أن أبا العلاء يذكر تمكن هذه القدرة من تحقيق أشياء تمناها لنفسه وفيها الأدلة على خوالجه؛ كألا يستبعد على مشيئة الله أن تجعله في حال خير من حاله، فيقول:
9 «... الملك لك، غالب الغالبين، لو شئت لجعلتني راعي فرق
10
أرقب ثرته
11
والعزوز
12
وأميز الشطور
13
والثلوث
14
أو صاحب هجمة
15
أتلكد
16
بها أنوف
17
الكلأ، همتي في المنغرة
18
والمخزاب
19 ...» ويبدو في الصيغة روح التمني، لا تقرير أن ذلك في متناول قدرة الله فحسب. ومثل ذلك قوله:
20 «الحوج على ذات عوج، وهي على سواي سهلة كالأنفاس، ولو شاء الخالق جعلني مثل الناس ...» وما ابتغاه من الثروة والقوة والاضطلاع بأعمال الأقوياء الأصحاء مهما يكن قريب التحقق أو بعيده، فإنه أمنية من يطمع في تغير واقع الكون، حتى يبصر ويفعل ويفعل ... على أن الرجل يبعد في ذلك ويكثر، فيقرر اقتدار الله على تحقيق أشياء لعلها لو تحققت لناله منها أيضا خير كثير؛ كقوله:
21 «يقدر ربنا أن يجعل الإنسان ينظر بقدمه، ويسمع الأصوات بيده، وتكون بنانه مجرى دمعه، ويجد الطعم بأذنه، ويشم الرائحة بمنكبه، ويمشي إلى الغرض على هامته، وأن يقرن بين النير وسنير
22
حتى يريا كفرسي رهان، وينزل الوعل الزعل
23
من النيق
24
ومجاوره السوذنيق
25
حتى يشد فيه الغرض، وتكرب عليه الأرض، وذلك من القدرة يسير، سبحانك ملك الملوك وعظيم العظماء ...» وتسمع في هذه القطعة الأخيرة مع تغيير القوى ونظام التكوين الإنساني، تقريب البعيد من الأرض، ومجاورة القاصي للداني، وقد أكثر الشيخ من هذا، مقررا قدرة الله على تغيير ما جرى عليه الأمر من شأن السماء والأرض والكواكب وغيرها ينقلها من أماكنها، أو يجريها في غير ما أجريت فيه ونحو هذا مما تقرؤه في مثل صفحات: 264، 364، وسواها من الفصول والغايات، كما أورد من ذلك ما هو من صنف ما عرف من معجزات للرسل ؛ كقوله:
26 «إن الله إذا أذن، روى الشعب من القعب.»
وأماني الشيخ لنفسه أو لغيره، وإخضاعه مختلف الكائنات لتغيير القدرة، وتوجيه المشيئة الإلهية مما يخالف ثبات السنن، ويدفع في استقرارها، ويهون من سببية الأسباب، ويؤخرها عن مسبباتها، فهو من مخالفة القانون الطبيعي العملي المعروف لعهده، ثم منه ما قد كشفت بعد قوانين طبيعية أخرى صيرته واقعا مألوفا لا يلتحق بالمستحيل العادي، كما كان في مألوف الشيخ وعصره، حين قال:
27
إن شاء الملك قرب النازح وطواه حتى يطوف الرجل في الليلة الدانية بياض الشفق من حمرة الفجر، طوفه بالكعبة حول قاف، ثم يئوب إلى فراشه، والليلة ما همت بالأسحار، ويسلم بمكة فيسمعه أخوه بالشام ويأخذ الجمرة من تهامة فيوقد بها ناره في يبرين وقاصية الرمال ويجأز
28
بأكيلته في قصور فرغان، فيعتصر
29
بماء المضنونة أو جراب.
30
وأكثر هذا الذي ذكره من الانتقال السريع، أو الاستماع من النائي، أو الإيقاد من بعيد؛ قد تحقق اليوم عملا، بعدما كان الشيخ يعده من العجائب التي لا تنالها إلا قدرة الله. ودعك من أن يكون أبو العلاء بهذه المقالة قد استشرف لما كدت في سبيله الإنسانية فبلغته بعد أجيال طويلة حين كشفت نواميس فطرية مكنتها من هذا الانتقال الطائر، أو الاستماع العجيب، أو الإيقاد النائي، دعك من اعتداد قول هذا شيئا لأبي العلاء؛ فإن ذلك من التعلات الطفلة التي لا تليق بالشيخ، ولا يحتسبها لنفسه لو بعث اليوم فرآها. •••
والآن وقد شرحنا إلى حد ما مسألة ما بين الدين والفلسفة في الأسباب والنواميس، وقد أشرنا إلى ما تناول أصحاب الكلام والحكمة من اصطلاحات حول القوانين الطبيعية النظرية والعملية ومخالفتها، وسمعنا مقالات صاحبنا فيما يتصل بالأسباب والنواميس، وقدرة الله على تغيير قوانين الوجود العملية الآن أدركنا ما يأتي: (أ)
أن أبا العلاء لم يسلم في هذه المسألة وما اتصل بها من تناقضه المعروف. (ب)
أن أبا العلاء وإن ألم بثبات النواميس وسببية الأسباب لم يلبث أن أخل بالمنهج الفلسفي إخلالا واضحا، وجافى الروح الفلسفية مجافاة بينة، وأخلد إلى منهج ملي ينكره أصحاب الفلسفة قديما، وينكره متجددو الدينيين اليوم؛ لأنه يرفع الثقة بالمنطق والعقل، ويوسع الشقة الخلافية بين العلم والدين، على حين يبدو نفور القرآن منه واطمئنانه إلى تحرير العقل، وتقرير النواميس بقوة. وتلك هي النتيجة التي قصدنا إليها في هذا الفصل، وتكلفنا شرح ما شرحناه من مقررات دينية أو فلسفية؛ لأن الدوائر الجامعية
31
في تفهمها لأبي العلاء قد تعلقت بمسألة العقل والقدرة المعجزة، وأدارت حولها كثيرا من القول. وما زلت من أجل هذا أوثر العناية بما بقي من جوانب المسألة، فأتناول بالقول ما ذكره أبو العلاء من أمر المستحيلات، ومن أي الأنواع هي؟ أعقلية أم عادية؟ فلهذا الاهتمام أتابع القول فيها ثم لما وراء ذلك من فهم الشخصية العقلية لأبي العلاء فهما يجلي وجه الرأي الذي نطمئن إليه في أمر صاحبنا.
أي المستحيلات؟
لم يذكر أبو العلاء هذه الأماني وهاتيك المقدورات التي تنالها القوة الإلهية، وتستطيع أن تتجه إليها المشيئة الربانية ذكرا مجردا عن الوصف، بل نعتها أحيانا بما تقف عنده لنرى صحته أو فساده، ثم لنرى دلالته على حظ صاحبنا من الثقافة العقلية والمقررات الفلسفية.
وهو يقول
32
في هذا الصدد: «... إن سمعت أن الرقيع
33
أمطر جندلا، وأبنت البقيع
34
مندلا، فقل: أما في المعقول فلا، وأما في القدرة فبلى ... العادات بإذن الله متغيرات ...» فهو كما تقرأ يمنع هذين الأمرين في المعقول فتخالهما بعبارته هذه من المستحيل العقلي، على أنه ما لبث أن عقب بقوله: العادات بإذن الله متغيرات، فآذن قوله هذا، بأنهما من المستحيل العادي، ثم تنظر أنت وراء هذا كله فتجد أن إمطار السماء جندلا قد دعا به الكفار في قول القرآن
وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم
وهذه هي السماء تقذف بشهب وصواعق هي من الحجارة وما إليها، فليس الأمر حتى من غير المعتاد، فيعد مستحيلا عاديا، وأما أن تنبت الأرض عودا مهما يكن حالها أو يكن فيها من أصول الشجر، فذلك ليس ببعيد أيضا، فكيف جعلهما أبو العلاء من العادات المتغيرات بإذن الله؟! ثم كيف جعلهما مما ليس في المعقول، فقال: أما في المعقول فلا ...؟! أما إنه لو قال: أما في المعهود فلا، لاتسقت هذه مع قوله: العادات بإذن الله متغيرات. وإن لم يظهر لنا أن هذا من المستحيل العادي فليكن من غير المعتاد أي من غير المألوف مثلا. وفي كل حال فعبارة صاحبنا ليست سليمة.
وتدع هذا إلى قوله في وصف القدرة الإلهية فترى منه أولا ما يستقيم؛ كقوله: «ولا عجب من أمر الله ولمشيئة الله النفاذ.»
35
أو قوله: «رحمتك مكون المعجزات.» أو قوله: «الله القادر على كل بعيد.» فإنه لا بأس به، لكنك ترى إلى جانبه قوله: «لا يعجزك ممتنع في العقول.»
36
مع قوله:
37 «يقدر الله على المستحيلات، رد الفائت، وجمع الجسمين في مكان؛ إذ كان لا ينسب إلى عجز ولا انتقاص، فإذا مررت بعود بال، فاعلم أن الله يستطيع أن يكسوه أخضر كخضرة الحسام حتى يورق ورقا كعدد الرمال.» فتقرأ أن القدرة تنال الممتنع في العقول وما لا تحتمله الألباب. وبين هذين قوله: «يقدر الله على المستحيلات.» فتشعر أنه يريد المستحيلات العقلية، ويجهر بتحكيم هذه القدرة في هذه المستحيلات العقلية!
38
ولكن كيف والمتكلمون يقررون أن قدرة الله لا تتعلق بهذا المستحيل العقلي، كما لا تتعلق بالواجب؛ لأن ذلك المستحيل - كما عرفت قريبا - ممتنع في العقل وجوده، ممتنع ثبوته. ولا يقال: إن الله قادر على كذا من المستحيلات عقلا، وإلا كان عاجزا كما يقول الشيخ: «إذ كان لا ينسب إلى عجز ولا انتقاص.» فقوله في هذه المواضع خطأ عند الكلاميين الدينيين بعدما استسلم إليهم في نفي الأسباب وتغير النواميس، وكأن الشيخ بعدما أخل بأصول التفلسف قد أخل مع ذلك بمقررات التدين. وما أحسبه إلا في غمرة من النشوة الوجدانية في عالم التقديس والتمجيد الذي ردد فيه تسبيحات الفصول والغايات، قد اندفع اندفاع المتفنن، لا يرعى حرمة المصطلحات، ولا يلتزم تدقيق المتفلسفين حتى ولو كانت فلسفتهم لاهوتية دينية! ما أحسبه من الناحية النفسية إلا كذلك، ومن هنا كان يذكر الممتنع في العقول وما لا تحتمله الألباب، ثم إذا به يقفي باخضرار العود البالي، وليس ذلك مما يمتنع في المعقول، وليس مما تحتمله الألباب، بل هو عادي قريب، والشجر يخرج من الشتاء باليا، بل محترقا في البلاد التي يسقط فيها الجليد، ثم إذا هو أخضر مزهر ومثمر في الربيع ...!
وكذلك يعطينا حديث أبي العلاء عن القدرة والمشيئة الإلهيتين الفكرة عن إخلاله بالمنهج الفلسفي، ثم يقدم لنا الشاهد على ضعف ثقافته الكلامية الإسلامية التي تتصل بالتفلسف اتصالا وثيقا. ويرحم الله الشيخ؛ فقد كان وجدانيا أكثر مما كان شيئا آخر.
وإذ ألممنا بما خاضت فيه الدوائر الجامعية من حديث القدرة الإلهية والعقل الإنساني، وحررنا معاني ما ساقه أبو العلاء من قول فيه، فمن الوفاء بالموضوع أن نسوق كلمة مجملة عن:
مسألة المعرفة والقدرة الإلهية
فنجيب عن السؤال التالي وهو: هل حديث أبي العلاء عن العقل والقدرة حديث يمس مسألة المعرفة، ويتصل برأيه في عجز العقل، أو اقتداره حتى يعلل به اضطرابه في مسألة المعرفة؟ وإنك لتجد من تفصيل ما مضى وجملته، أن صاحبنا فيما قاله من هذا واعظ مستهو، يمجد ويقدس، وقد غمره عالم روحي ديني مسيطر، كما تجد أنه فيما أورده من قول عن العقل والقدرة، لا يذكر من أمانيه لنفسه أو للناس، ولا من مظاهر تصرف القدرة شيئا عقليا من مشكلات الحياة الإنسانية أو الكون، بل يذكر من ذلك أشياء حسية مادية هي كما قلنا من القوانين الطبيعية العملية، ومما يتوقف تصوره ووجوده معا على المادة. وليس هذا في شيء من الصعوبة، ولا هو من عقد الإلهيات أو الرياضيات وما إليها. ألم تر أنه فيما قرأت من أمثلة يتحدث عن الأرض والبقاع، أو عن السماء والأفلاك والكواكب، أو عن النبات والحيوان ومظاهر حياتهما، أو الحواس الإنسانية وأطوار الوجود! وأنه حين صرح بما يمتنع في العقول، وما لا تحتمله الألباب إنما مثل بالعود البالي وخضرته. ومن هنا نستطيع القول في طمأنينة مجيبين عن السؤال السابق صدر هذا الكلام:
إن حديث العقل والقدرة الإلهية عند أبي العلاء ليس حديثا عن مسألة المعرفة، ولا هو متصل باقتدار العقل البشري عليها أو عجزه عنها، وإنما هو حديث استهوائي وعظي، تسبيحي تمجيدي، قد دلنا - مع النظر فيما اتصل به من إنكاره تأثير الأسباب - على أن صاحبنا المتفنن قد أخل بالروح الفلسفية إخلالا قويا، كما دلنا على أنه قليل الميل إلى الجو العقلي الحكمي، قليل الحظ من العناية بذلك كله، فلنمض إلى ما كنا فيه من بيان سائر نواحي إخلاله بالمنهج الفلسفي، فنذكر لك وجها:
ثالثا:
أنه حينما جادل نثرا وفي السعة لم يفرق بين مواضع الدليل العقلي، ومواضع الدليل الشرعي، وقد لفته إلى هذا الإخلال داعي الدعاة
39
وكأن الشأن في المتفلسف أن يعكس فيلتزم الدليل العقلي دائما حتى فيما يكفي فيه الدليل الشرعي، لا أن يستدل لمعقوله بالشرعيات ويخطئ مكان سوق الدليل!
رابعا:
إن أبا العلاء قد رأيناه فيما مضى يترك الوفاء بالاستدلال لأفكاره كما هو شأن المتفلسفين، ثم ها نحن أولا نراه إذا ما استدل في القليل من الأحيان وهو يتحدث ناثرا، فإنه يخل بالمنهج الفلسفي إخلالا واضحا؛ إذ يدعي إدراك الحيوان مثلا فيحتج بقول شعراء العرب بذلك، وأن مدافعة النحل لمن يشتار العسل مظهر هذا الإدراك. وما هي إلا معان شعرية، وخواطر وجدانية، وملاحظ فنية، لا ينتظمها تحر ولا ينقحها تدقيق، ولن يحتج بمثلها على ما يزعم صاحبنا أنه أنباء العقول الصحائح. مع أن هذه النحل تلسع الصبي الوادع الجميل في الروض، وهو غير مشتار ولا مبتغي عسل، ثم قدر مع هذا أن أبا العلاء حين يورد مثل هذه الحجج، ويعدها أنباء العقول الصحائح، كان قد عاش بضعا وثمانين حجة، فتم نضجه وكمل عقله، ولم يعد يفوت مثل هذا على مثله لو كان متفلسفا!
خامسا:
أنه فيما يعترض به على الإلهيات أو التشريعات في الإسلام والأديان الأخرى يتعلق بظواهر قريبة أو لمحات عاطفية صرفة حتى سهل على أشباه العلماء من مدوني أخباره أن يردوا على اعتراضاته هذه بسهولة وقسوة؛
40
لأنه ينسى فيها أقرب الاعتبارات الاجتماعية أو العلمية التي لا يصح أن تخفى على مفكر عادي، بله متفلسف حكيم!
والحديث عن إخلال صاحبنا بالمنهج الفلسفي يذكرنا بما لمحناه قريبا من قلة حظه في الثقافة الكلامية، (انظر ص120)، ثم ما نلمحه كذلك من الشواهد في أمور كلامية وفقهية قد تناولها، فهو في الكلاميات، مثلا يتحدث عن مريد الشر ويجعله فاعلا له، ولا يلتفت لما اشتهر من ذلك في البيئة الكلامية، وكثر قول القوم فيه من التفريق بين إرادة الشيء والأمر به.
وهو في الفقه يعد نفسه مجتهدا، ويرفض التقليد في كثير من أقواله؛ كقوله:
وينفر عقلي مغضبا إن تركته
سدى واتبعت الشافعي ومالكا
2: 132
ولكنه في نثره يعرض لقياس صيد الحل على صيد الحرم وغير ذلك من الفقه؛ كقياسه ترك المباح من اللحم على صلاة ما زاد عن المفروضة ... إلخ، فيخل بالمبادئ من أصول مثل هذا البحث الفقهي، ويدل على عدم تضلع من الثقافة العقلية بعامة، وليس هنا موضع القول المستوفى في هذه المسائل الكلامية والفقهية، وإنما يكفينا هذا الإلمام لنقول: إنه ليس من الحق المبالغة في تقدير قوة التعقل المنطقي لأبي العلاء، كما أنه ليس من الصواب عده متفلسفا.
ليكن أبو العلاء رجلا ملما بالأبحاث الفلسفية والمذاهب، وليكن قد ضمن شعره هذه المذاهب والأبحاث أو شيئا منها، أو ليكن أبو العلاء حكيما كأولئك الحكماء الذين عرفهم العرب في الجاهلية، ورأوا في أشعارهم ثمار تجارب، وخلاصة فكر، وجمل حقائق عملية. ليكن أبو العلاء شيئا من ذلك أو ما يشبهه. أما أن يكون فيلسوفا يتخذ البحث والتفكير العقلي عملا له، ويعتمد في ذلك على مقدرة منطقية عقلية فما أظن وما أظن ...! فليس على المنطق العقلي تعرض أقواله، ويحكم بتناقضها، ويلتمس لها التعليل.
إنما أبو العلاء رجل وجداني، أديب متفنن، أو هو واعظ وخطيب أحيانا كما سترى. وكل أولئك مما يراض بمنطق الوجدان والعاطفة، لا بغيره من منطق العقل والفكر، فلنسأل على ضوء هذا التقدير.
لماذا تناقض أبو العلاء؟
1
لماذا تناقض الأديب المتفنن في نثره وشعره هذا التناقض الشامل، الذي عم الدين والدنيا، والأدب، والعلم، والفلسفة حينما يعرض لشيء منها؟ إن للقدماء - عند نظرهم في الدينيات واضطراب الرجل فيها - تعليلا أدبي الأصل والمرجع، هو ما ساقه الذهبي عن ابن سلفة؛ إذ يقول: من عجيب رأي أبي العلاء، تركه تناول كل مأكول لا تنبته الأرض شفقة بزعمه على الحيوانات، حتى نسب إلى التبرهم، وأنه يرى رأي البراهمة في إثبات الصانع وإنكار الرسل، وتحريم الحيوانات وإيذائها، حتى الحيات والعقارب؛ ففي شعره ما يدل على غير هذا المذهب، وإن كان لا يستقر به قرار، ولا يبقى على قانون واحد، بل يجري مع القافية إذا حصلت كما تجيء لا كما يجب.
1
تعليل باندفاع الشاعر ومتابعة القافية دون تحرج، وقد يكون لهذه المتابعة بعض التأثير، وبخاصة إذا ضم إليها ميل أبي العلاء للصنعة اللفظية، وإدارة المعنى على التحسين اللفظي وصنعة البديع الشكلية.
ولكن مثل هذا التعليل لا يكفي ولا يقنع، بل هو أهون من أن يوقف عنده؛ ذلك لأن الرجل يتناقض في النثر كما يتناقض في الشعر، يناقض بعض نثره بعضا كما يناقض بعض شعره بعضا، وكما يناقض نثره شعره، وليس هذا النثر بالقليل، بل هو فيما وصل إلينا يضاهي شعره. فهل يعلل هذا كله بالخضوع للقافية، أو الجريان معها إذا حصلت كما تجيء؟! أحسب أن هذا تعليل لا يصلح حتى في متقابلات شعره وحدها؛ لأن صاحبنا ليس بالذي تغلبه القافية أو تضيق به، وهو الذي التزم ما لا يلزم، ونظم الآلاف من الأبيات، لم يتجل فيها ضيق النفس، ولا قلق القافية ... ثم هو في كل حال تعليل سطحي ممن يدرس رجلا كشاعرنا أقحم نفسه والفن في كل شيء، ثم هو في الوقت نفسه تعليل لا يستقيم في متقابلات النثر، وقد رأيتها فيما سقنا من الشواهد الوافرة المستوفاة تساوق متقابلات الشعر، وتجيء معها في كل موضوع، فلا يمكن الوقوف عند هذا التعليل، بله الاكتفاء به في درس متفنن كبير كأبي العلاء، وإنه لتعليل يكشف عن سطحية الدراسة الأدبية، وذهابها مع الظواهر المتبادرة القاصرة ذهابا لن يتيسر لنا معه تفهم شيء من هذا الأدب تفهما جديرا بأهميته الفنية وقيمته الحيوية، وهو - كما قلت وأقول دائما - فهم الأدب والأديب في الألفاظ والظواهر الخارجة التافهة الخادعة، لا في الكيان النفسي والوجود الفني.
2
على أنا نجاوز هذا التعليل الذي يبدو أن القدماء أرادوا به أن يخففوا التبعة في الناحية الدينية، أو أن يقولوا فيها شيئا ما، يسكت الناقدين أو يهون وقع ما أثر عن أبي العلاء في هذا الجانب الديني الذي تتأثر به النفوس في ذلك العصر تأثرا قويا، وتنتبه إليه أكثر مما تنتبه إلى غيره، فتعنى به، وتلتمس فيه المعاذير. وفي هذه السبيل يفصلون الجانب الاعتقادي من حياة الإنسان عن سائر حياته النفسية، أو قل: إنهم يفضلونه ويهتمون به أكثر من جوانب النفس الأخرى، على حين لا نرى نحن من الصواب في شيء ما، الفصل بين حياة الإنسان الاعتقادية والفنية - أو الوجدانية بعامة - وحياته العقلية الفكرية؛ لأنها كلها من الناحية النفسية متصلة متفاعلة.
تجاوز هذا التعليل إلى تعليلات أخرى لم يذكرها القدماء في المعري بخاصة، بل ألموا بها في أحاديثهم الأدبية، فأشاروا إلى ظواهر من التقابل والتخالف، أو من عدم الصدق والتحري في أقوال الأدباء، لنرى في تعليلهم لها ما قد يصلح وجها لتفسير تقابل آراء صاحبنا. ولا عجب في أن تلتمس مثل هذا من قول القدماء في صنيع الأدباء؛ لأن أبا العلاء - كما بدا مما قدمنا - ليس بالفيلسوف الذي تفسر حياته وأقواله تفسيرا عمليا عقلي المنطق، بل هو - فيما قدرنا - أديب متفنن ينبغي أن تفسر ظواهر حياته بمنطق العاطفة، ووحي الشعور أولا،
وجدنا هذه المقابلات، فحتى من عده فيلسوفا لا مندوحة له عن تقدير هذه الظاهرة الأدبية فيه، وهي في كل حال مما يسوغ لنا التماس أقوال الأدباء في التناقض أو التقابل لنعرض عليها حال صاحبنا، فلعلها تفسر ما بدا لنا من أمره في تقرير الشيء وما يقابله، فنسوق هنا هذه الأسباب، وننظر في كفايتها وإقناعها لمن رام فهم أبي العلاء، فمنها: (1)
تتبع الأدباء للمعاني الأدبية كلما كان مجال القول فيها ذا سعة، ولو لم يكن ما يقولونه فيها حقا عندهم، أو رأيا لهم يلتزمونه، أو يدينون به، والجاحظ وهو إمام في الصناعة الأدبية يلحظ هذه الظاهرة من حال الأدباء، ويصفها حين يتحدث في رسالة «المعلمين» عن قول الأدباء فيما يدركهم من حرفة الأدب، وشؤمه على أهله حتى يأتوا من ذلك بما ليس صحيحا ولا واقعا، ويقول الجاحظ في تعليل عملهم: «إن قولهم هذا ليس صحيحا دائما، وليس الذي يحمل أكثر الناس على هذا القول إلا وجدان المعاني والألفاظ، فإنهم يكرهون أن يضيعوا بابا من إظهار الظرف وفضل الشأن وهم عليه قادرون.»
2
هكذا يقول الجاحظ بيانا لهذه الحال من صنيع الأدباء، وهو يبدو قريبا مما ساقه الذهبي، وأوردناه آنفا من جريان أبي العلاء مع القافية كما تجيء؛ لأنه جريان مع المعنى كما يجيء ما داموا قادرين على القول فيه.
وما نحيل أن أبا العلاء قد يتأثر بشيء من ذلك أو يقع فيه حين يعنى العناية الجادة بالألفاظ ونواحي تطابقها وتجانسها، وما إلى ذلك من حسن لفظي وتزويق كلامي، فهو بلا مراء لغوي غني، يجد من مادته اللغوية وفرا من اللفظ، ويدير المعاني كثيرا على ما تستجيب له الألفاظ، وتسعف عليه، وليس يبعد أن يكون المعنى غير حقيقي ولا واقعي، ولا هو في مكان الرأي عنده ومنزلة المذهب أو الفكرة التي تنفعل بها النفس انفعال التأثر أو الاقتناع، ولا نقول هذا من الأمر استنتاجا فحسب، بل إنه هو نفسه قد تنبه إليه، وألم في «الغفران» بشيء يتصل بما وصفه الجاحظ من صنيع الأدباء في قولهم ما لا حقيقة له، وسماه أبو العلاء: تحسين الكلام على مذهب الشعراء بما لم يفعل حقا،
3
وعلى أساس هذا ينكر في الغفران تشيع ابن الرومي الذي يدعونه له، ويستشهدون عليه بشعره، حتى يقول ما نصه: «ما أراه إلا على مذهب غيره من الشعراء.»
4
بل هو يقرر في موضع آخر من هذه الرسالة نفسها فكرة عامة عن عدم دلالة منطق اللسان على اعتقاد الإنسان، ويقول: «... إذا رجع إلى الحق فنطق اللسان لا ينبئ عن اعتقاد الإنسان.»
5
فليس بعيدا أن يكون أبو العلاء قد تأثر بهذا بعض التأثر، فقال ما ليس صحيحا في نفسه، ولا واقعا في ذاته، أو قال ما لا يراه ولا يعتقده، ثم خالفه بقول ما هو واقع صحيح، أو ما هو رأي معتقد، فخالف لاحقه سابقه، وكلاهما ليس رأيا ولا اعتقادا ما دام فيه المجال لتحسين الكلام كما يقول هو، أو ما دام بابا توجد معانيه وألفاظه وهو عليه قادر كما يقول الجاحظ!
ليس ذلك كله بعيدا عن أن يقع، أو لعله قد وقع فعلا في آثار أبي العلاء، ولكن هل يكفي وجها لتعليل الظاهرة التي شهدناها واضحة من تقابل آرائه؟ هذا ما لا يسهل القول به فيما نرى، وليس من الصواب الوقوف عنده ونسيان أو تناسي اعتبارات واضحة في أقوال صاحبنا تفترق بها عن أقوال الأدباء الآخرين، منها:
أن هؤلاء الأدباء إنما يذهبون مع القول حين يتسع مجاله، ويجدون ألفاظه ومعانيه في أشياء يفيدون منها فوائد مادية، وتجدي عليهم مغانم حيوية؛ كشكوى حرفة الأدب وشؤمه؛ لتدر عليهم العطايا، وصاحبنا لم تتقابل آراؤه في مثل هذه السبيل، ولا هو قد حرص على شيء منه، أو جعل فنه وسيلة إليه، وما إكبارنا له اليوم إلا لأشياء من خيرها هذا المعنى.
ومنها: أن هؤلاء الأدباء جميعا أو كثرتهم الغالبة لم يتناولوا في أدبهم ما تناول أبو العلاء من شئون الكون والحياة الإنسانية يتأملها، ويسجل خواطره فيها، بل تناولوا عبر هذا كله من المدح والرثاء والهجاء، وما إلى ذلك من استخدام عملي للفن، فهم فيما يلمون به من هذه الفنون منصرفو النفوس عن الانفعال أو الاعتقاد لما يقولون أو اعتباره رأيا، أو مذهبا، أو شيئا يشبه هذا من قريب أو بعيد. على حين لم يتناول أبو العلاء - غالبا - إلا أمورا بعيدة أكبر البعد عن هذه الأجواء، والنفس بفطرتها منفعلة بها، مهتمة بتعرفها، متطلعة بغريزتها إلى تبينها، ومثل هذا مما لا يكون الذهاب فيه مع المعاني الموجودة والألفاظ الميسرة إلا ذهابا قليل الأثر إن وجد، يسير الخطر إن تحقق.
ومنها: أن هؤلاء الأدباء أيضا لم يذهبوا مع الألفاظ الموجودة والمعاني الميسورة في الحديث عن مقررات هي عقائد مقدسة أو مسلمات سماوية قد قتل الناس بإنكارها، بل بالاقتراب، أو محاولة لقرب منها بما يمكن أن يئول على أنه مساس بها، وصاحبنا إنما مس تلك المقدسات، وعرض لتلك المقررات، وتقابلت فيها أقواله، وجهرت بالمخالفة فيها آثاره، فلن يكون جريانه فيها مع القول الميسور والمعنى الموجود، إنما هو الاندفاع القوي عن تأثر نفسي، ينسيه التحوط، ويضيع عليه الحذر، ويصرفه عن المداورة ...!
فكذلك ليس من الحق أن نعلل أو نفسر تقابل آراء أبي العلاء بمثل هذه العادات الأدبية التي يتسمح بها الأدباء في أشياء غير ما وجه صاحبنا إليه فنه من مشكلات ومعتقدات لها حرمتها ولها أهميتها. •••
ومن الأسباب العامة التي ألم بها الأقدمون، واصفين أو مفسرين تقابل أقوال الأدباء: (2)
ما ساد في بعض العصور بتأثير عوامل دينية أو اجتماعية مختلفة جعلت المتأدبين يحرصون على كسب المقدرة الكلامية، واللباقة الاستهوائية بحيث يحتج الأديب للشيء وضده، ويحسن الشيء حينا ويقبحه حينا، فتكون له الأقوال المتقابلة بل المتنافرة، ومن هذا ما جاءنا من قولهم في المحاسن والأضداد، أو المحاسن والمساوئ؛ كالكتاب المنسوب إلى الجاحظ بالعنوان الأول، وكتاب البيهقي (ق5ه) بالعنوان الثاني، وكلاهما مطبوع متداول.
وهي ظاهرة أدبية عرضت لها في بحثي «منهج تفكير الجاحظ»
6
فبينت لم كان الأدباء لا يعدون مثل هذا كذبا؟ وكيف أثر هذا على نظرهم في تعريف الصدق والكذب الذي تعرضت له الكتب البلاغية تأثرا بهذه الصناعة الأدبية، ومروجاتها المختلفة إذ ذاك، كما يبينه البحث في تاريخ البلاغة العربية.
وإذا ما أشرنا هنا إلى هذه المقدرة الأدبية على الاستهواء واللباقة الخطابية في التأثير، شعرنا - ونحن نتفهم أبا العلاء - بضرورة الوقوف لحظة، والتمهل حينا، لنحدق في جانب من شخصية صاحبنا هو:
شخصية أبي العلاء الواعظ
إذ تبدو للناظر في آثاره التي جاءتنا، أو التي سيق إلينا خبرها ووصفها - وإن لم نرها - شخصية خطابية قد عنيت بالخطابة الدينية الواعظة المستهوية، بل كادت عنايتها بهذه الناحية من الخطابة الدينية، تستأثر بالثمار الأدبية كلها لفن أبي العلاء، وليس عجيبا أن نتحدث عن شخصية الواعظ في رجل قد اتهم في دينه، وجرت كلمات الأجيال المختلفة فيه بلون ما من هذا الاتهام، وشغل الناس من نفسه بتلك الناحية دون غيرها، أو أكثر من غيرها، ليس عجيبا أن نتحدث عن شخصية الواعظ في رجل هذا شأنه؛ لأن مادة هذا الحديث وعناصر تلك الحقيقة في أيدينا مهما يهمل القدماء أو المحدثون التعرض لها. فهذا أبو العلاء يقول عن نفسه في التأليف: اجتهدت على أن أتوفر على تسبيح الله وتمجيده إلى أن اضطر إلى غير ذلك فأمليت أشياء.
7
فكان التأليف المحبب له أو الذي اختار أن يقف قلمه عليه، هو التسبيح والتمجيد لله، وهو ما دعوناه وعظا أو خطابة دينية لا لهذا القول فحسب، بل لأن حريدة كتبه كما ساقها المؤرخون ووصفوها تفسر ما يعنيه بالتسبيح والتمجيد؛ فكتاب الفصول والغايات، وهو - كما وصفوا - سبعة أجزاء في مائة (100) كراسة إنما هو في المواعظ. وفي القدر الذي نشر منه مثل صادق لهذا الوعظ الاستهوائي الذي أشرنا آنفا إلى أن أبا العلاء يفقد فيه سمة الباحث والمفكر، ويلبس رداء الوعاظ، فيصدر عنه ما سمعنا من حديث عن قدرة الله، ذلك الحديث الذي ينفي فيه الأسباب، ويجيز للقدرة تناول المستحيلات، ويضطرب تقديره للمستحيلات العقلية والعملية على ما أشرنا إليه في موضعه، (انظر ص114 وما بعدها)، وكتابه الذي يسمونه «الأيك والغصون»، ويذكرون أنه اثنان وتسعون جزءا - وقد يزيدونه على ذلك - في ألف ومائتي كراسة (1200) إنما هو في العظات وذم الدنيا، وكتاب «تضمين الآي» في أربعمائة (400) كراسة، إنما السبب في تأليفه أن بعض الأمراء سأله أن يؤلف كتابا برسمه، ولم يؤثر أن يؤلف في غير العظات والحث على تقوى الله فأملى هذا الكتاب. وكتابه سيف الخطبة إنما هو ديوان خطب منبرية يشتمل على خطب السنة، وفيه خطب للجمع والعيدين والخسوف والكسوف والاستسقاء ... إلخ. وهو جزءان في أربعين (40) كراسة ،
(400)، كما ذكروا له في ذلك كتاب «رقعة الواعظ»، وكتاب «سجع الحمائم»،
كراسة (30)، وكتابه «المواعظ الست» نحو خمس عشرة كراسة (15)، «وكتابه السجعات العشر» على كل حرف من المعجم عشر سجعات، كما أن له رسالة على لسان ملك الموت
8
ونحو ذلك من آثار خطابية وعظية الروح، وهي مع أقواله في التأليف مما يكفي للحكم بأن له شخصية واعظة قد عنيت بالخطابة الدينية عناية لا يقبل من الباحث إهمال دلالتها على خصائص في فن الرجل وأدبه حين ننظر - كما هو المنهج السديد - في هذا الفن وذلك الأدب على أنه وحدة متماسكة وكل متصل الجوانب. •••
فأبو العلاء قد عني بالخطابة الدينية هذه العناية الواضحة، وهي إنما تقوم على المقدرة الاستهوائية والبراعة الخلابة التي تستطيع تزيين الشيء والتحبيب فيه، وتقبيحه والتنفير منه، وهو ضرب من القول في المحاسن والأضداد، أو المحاسن والمساوئ الذي عرضنا لذكره كي نعرض عليه تقابل آراء أبي العلاء، ونلتمس فيه تعليلا كافيا لها، ومن أجله أشرنا تلك الإشارة العارضة إلى شخصية الواعظ في صاحبنا، وليس بعيدا أن تكون معاناة هذا الأدب الخطابي بعد اتجاه نفس الرجل إليه، واجتهاده في قصر نفسه عليه ما لم يضطر إلى غيره اضطرارا ليس بعيدا أن يكون ذلك كله سببا لشيء من القول المتقابل أو المتغاير الذي نجد في ثبت المؤلفات نفسه شاهدا عليه إن نسينا ما سبق من شواهد هذا التقابل على كثرته، وما نجده من التقابل في ثبت المؤلفات هو ما ذكروه في جريدة تلك المؤلفات من أن أبا العلاء ألف كتابا اسمه «شرف السيف» لرجل بدمشق كان يوجه إليه بالسلام، ويخفي المسألة عنه، فأراد جزاءه على ما فعل فألف له هذا الكتاب.
وهل تراه قال في شرف السيف ما هو من وادي تلك العظات المسبحات لله الممجدات له، الزاهدة في الدنيا المنفرة منها، المرغبة في الآخرة الداعية إليها على نحو ما نراه - على الأقل - في كتابه الفصول والغايات؟ لا بد أنه لم يقل في شرف السيف إلا ما يختلف عن تلك النزعة الواعظة والروح المستضعفة، وكذلك نجد حتى في مؤلفاته شواهد هذا الاختلاف والتقابل الذي يشبه القول في حسن الشيء وقبحه على نحو ما عرف من هذا الصنف في الكلام ...!
ولعلنا لا نبعد أبدا إذا ما قلنا: إن هذه الروح الخطابية متصلة الأثر بالشعر العلائي في الموت وفناء الدنيا وكراهتها، والحط من شأنها، وتزهيد الناس فيها، ولوم الناس وذمهم، ذلك اللوم القاذف الساب، الذي ظللنا نسمع الكثير منه في الخطب المنبرية لعهد قريب، لما يتغير تماما في بعض جهات مصر بعد، ودارس أبي العلاء يجد ريح هذا في اللزوميات غير قليل، ويستطيع القول بأنه أثر لتلك الشخصية الواعظة فيه.
على أنا حين نصل بين النثر الواعظ والشعر الزاهد للرجل، ونربط بين الخطيب الواعظ فيه، والشاعر الناقد، ونقدر أثر الطابع الخطابي في ذلك كله، وندخله تحت باب القول في المحاسن والأضداد من صناعة الأدب، دون أن يكون ذلك كذبا عندهم أو تصويرا لاعتقادهم ... إلخ، حين نفعل ذلك كله نسأل بعده: أتكفي هذه الاعتبارات لتعليل تقابل أقوال أبي العلاء ذلك التقابل الذي وصفناه؟
وقبل أن نجيب القارئ عن هذا السؤال - أو قبل أن يتجه هو للإجابة عنه - نضع أمامه معاني يجدر به تقديرها قبل هذه الإجابة، منها: أن هذا الباب من القول في المحاسن والأضداد لا يبعد كثيرا عما قبله، بل هو من واديه في تحسين الكلام، وإظهار للمقدرة القولية في القائل، دون أن يعد ذلك القول منه رأيا أو عقيدة، بل دون أن يظن ذلك فيه. وأبو العلاء لم يؤلف كتبه النثرية أو الشعرية لمثل هذا الغرض من المرانة القولية أو لتقديم المادة الأدبية لطلابها على نحو ما فعل الجاحظ مثلا في كتاب المحاسن والأضداد ، أو فعل غيره بعده.
ومنها: أن أبا العلاء كان جادا فيما يعرض له من تحسين أو تقبيح، بل كان جده يبدو في ألم وسخط، أو تحرق وغيظ ، أو تمن وتوسل، ينم على أن صاحبنا لا يقول مثل هذه الأقوال بيانا للمقدرة الأدبية والقوة البيانية فحسب، وإن كان يستعمل في ذلك ثروته اللغوية ومادته الأدبية من رواية وحفظ، بل إنه إنما يتخذ تلك المقدرة وسيلة للتقبيح أو التحسين عن شعور، أو بعبارة أدق إنما يتخذ ذخيرته اللغوية وثقافته الأدبية وسيلة للتعبير الدقيق عن خواطر نفسية، وتأملات فنية، وخلجات داخلية، كانت تزخر بها نفسه، ويجيش بها صدره، دون أن يعرض لما يعلنه أولئك الأدباء من تناول الشيء وضده، تقننا أدبيا ومرانة قلمية لا غير.
9
ومنها: أن أصحاب هذه الصنعة في المحاسن والمساوئ إنما يعرضون لأشياء من مألوف الحياة وحطام الدنيا؛ كمحاسن الجواري وضد ذلك، ومحاسن الوصائف والمغنيات، ومحاسن الهدايا وضد ذلك، ومحاسن فلان وفلان ... إلى مقابح ومفاسق أخرى من لذائذ الحياة، وضد ذلك، على نحو ما تراه في كتبهم، وأبو العلاء إنما يعنى بغير ذلك من مشكلات الوجود والحياة، على ما أشرنا إليه في النوع السابق من تحسين الكلام.
فإذا ما كانت هذه الجرأة الأدبية في صنعة الخطابة قد أثرت في فن أبي العلاء، فإن هذه القدرة لا تكفي سببا لتعليل تقابل أقواله فيما تقابلت فيه من دقيق جليل وهام عظيم، ليس مما يعنى الأدباء به، ويكدون له في أدبهم وفنهم.
وإذا كانت النزعة النفسية للتسبيح والوعظ قد أثرت في شعر الزهد وذم الدنيا، ولوم الناس من اللزوميات، فإن غير ذلك من حركات النفس قد أثر في حب الدنيا، وتمجيد القوة، ونسيان الزهد في ذلك الشعر والنثر الذي رأينا شواهده آنفا فيما سبق من الصورة غير المتعارفة لأبي العلاء.
ومن كل أولئك لا يسهل على الباحث أن يجد في تلك الأسباب التي أشار إليها الأدباء في تقابل الآراء ما يفسر صنيع أبي العلاء الذي جرى في غير مجراهم، وعرض لغير ما عرضوا له، بروح غير روحهم، وتناول مخالف لتناولهم، ولن يكفي بعض تلك الأسباب مفردا، ولا تكفي تلك الأسباب كلها مجتمعة، تعليلا لتلك الظاهرة التي شملت فن الرجل، وسادت فيه سيادة واضحة، ووجب إذن على الدارس الدقيق أن يلتمس سببا وراء ذلك كله، وهذا ما وجدنا أن أهدى السبيل إليه هو الاستعانة بالنفسيات، والوصل بين الأديب وأدبه، والابتداء بشخصيته وما عرف من حالها في فهمه وتذوق فنه وتبين ما غمض أو استبهم منه، وذلكم هو الدرس النفسي الذي طمعنا في أن نقدم منه مثالا في فهم أبي العلاء. على أنا - حفظا لما بين المعاني من التداعي واستيفاء للفكرة عن هذا التقابل في آراء الرجل - نسوق كلمة عن:
تناقض أبي العلاء عند المحدثين
10
وتستطيع الاطمئنان إلى أنهم لم يولوا هذه المسألة عناية كافية، بل أهملوها وهونوا من شأنها؛ لأنهم جميعا - فيما أعرف - يفلسفون الرجل، ويعجبهم من تفلسفه هذا الاهتمام بالمظاهر العملية للإنسان في حياته الخاصة، ويقدرون أن ما يتصل بالدين من شعر أبي العلاء ليس شيئا بالقياس إلى الفلسفة العلائية التي تناولت أطراف العلم الإنساني، وبحثت عن المظاهر العملية للإنسان في حياته الخاصة،
11
وبعد أن يفلسفوه ويحققوا فيه معنى الفيلسوف، وهو الباحث الملائم بين حياته وعمله - على ما ناقشناه سابقا في ص - يبحثون عن الأصل النظري له، ويقررون فيه ما يقررون - مما ناقشناه أولا في بحثنا عن مسألة المعرفة عنده، (ص99 إلى ص103) - فينتهون إلى تقرير أنه: مهما يكن من شيء فإن لأبي العلاء آراء ثابتة قد استقر عليها حياته كلها لم ينكرها ولم يشك فيها،
12
فهم بذلك كله يكبرون عنايته بالمظاهر العملية للإنسان في حياته بعد تقرير موافقة عمله في الحياة لبحثه الفلسفي، ويرون له بعد ذلك آراء ثابتة لعلها لا تكون عندهم أكثر ما تكون، وأثبت ما تكون إلا في المظاهر العملية للإنسان في حياته؛ إذ تقضي بها ضرورة مطابقة سلوك الفيلسوف لأصوله الفلسفية، ويزيد ذلك عند أبي العلاء ما له من عناية خاصة بتلك المظاهر العملية للإنسان في حياته - على ما يقولون - والقارئ يذكر أنا لم نختر من فلسفة أبي العلاء التي لم يثبت فيها على رأي، والتي تتقابل فيها آراؤه ذلك التقابل الجلي الواضح، لم نختر شاهدا لذلك التقابل إلا هاتيك المظاهر العملية للإنسان في حياته الخاصة، ومع مجتمعه الصغير، وهو الأسرة، ومجتمعه الكبير وهو الأمة - على ما مر في الصفحات من 10 إلى 89.
ومن كل أولئك يتضح ما نشير إليه من إهمال المحدثين لهذا التناقض في آراء الرجل، أو ما آثرنا أخيرا أن نعبر عنه بكلمة التقابل، تاركين التناقض والنقيض للجو الفلسفي، جو هذه الاصطلاحات، إذ ارتحنا إلى أن صاحبنا ليس فيلسوفا.
على أن من المحدثين من التفت إلى هذا التقابل التفاتا يسيرا؛ كالأستاذ الميمني، وقد ذكر في ذلك كلمة عن وجود جانبين لشيء واحد تكون له حالة خاصة بكل واحد منهما، وأن هذا سبب ما تناقض فيه قول أبي العلاء، وناقشنا هذه الكلمة، وبينا عدم وضوحها وعدم صلاحيتها لشيء من التعليل، وأن الفكرة التي فيها ليست مما يقرره أبو العلاء بإطلاقه القول في الشيء الواحد (انظر هامش ص98).
ولعله منذ كثر القول في هذا التناقض بعد المحاضرة بهذا الرأي في أبي العلاء ومناقشته في بعض المجلات الأدبية المصرية، ونشر طرف يسير منه
13
كانت للمحدثين عناية ما بهذا التناقض، فقرأت قولا مجملا لبعضهم
14
يشير فيه إلى أن كثيرا من المتناقضات التي نزعمها في حياة المعري آتية من تطور حياته الفكرية؛ فكثيرا ما ناقض الشاعر في دور الكهولة والشيخوخة ما قاله في دور الفتوة والشباب، وهذه الناحية قل من راعاها، وهو إجمال لا يمكن من مناقشة صاحب هذا القول في سعة، ولا هو مؤيد بشاهد أو دليل على تأثر هذا الاختلاف بتطور الحياة الفكرية؛ كهولة وشيخوخة وشبابا. وبحسبي هنا أن أقول: إنه ما دام تطور الحياة يؤثر في آراء الرجل، فقد وجب أن تكون دراستنا له منتهية بنا إلى مصور مختلف الألوان يمثل تغير هذه الآراء وتطورها، وألا نطلق القول بتفلسفه إطلاقا، وألا نقرر أن حياته كانت وفق مذهب فلسفي وعلى أصل ثابت ... إلخ. على أنه لم يخف أثر اختلاف أدوار الحياة على أحد، وقد حاولنا وحاول غيرنا كثيرا أن ترتب آثار أبي العلاء ترتيبا زمنيا تفصيليا دقيقا، فلم يتيسر ذلك، وهو غير متيسر تماما ما دامت تلك الفجوات في آثاره فارغة بضياع الضائع، بل نحن بعد العثور عليها جميعا لا نهتدي لذلك الترتيب الزمني المحدود المفصل لضياع معالمه. لكن قد استطاعت الدراسة الأدبية إلى حد كبير أن ترتب الموجود من آثاره ترتيبا عاما، يعين ما كان منها في زمن الشباب، وما كان منها بعد ذلك، وبخاصة توزيع هذه الآثار على العهدين الواضحين اللذين ذكرهما المعري وميزهما البحث في حياته على ما سنشير إليه فيما يلي.
وهذا الترتيب لم يؤثر في مسألة تقابل آراء الرجل؛ لأننا نجد المتقابلات في كل عهد من عهوده؛ شبابا وكهولة وشيخوخة، بل نجد المتقابلات في المكان الواحد وفي القطعة الواحدة، كما أنك تجد المتقابلات فيما لا يتغير فيه الرأي؛ لأنه أصل ثابت للتفكير؛ كمسألة المعرفة. والمذهب فيها على ما مر. ولو قد سمعنا شيئا من التفصيل لأثر الزمن في تناقض الرجل عند صاحب الإشارة السابقة لناقشناه، ولكنا نقول رغم هذا الإجمال: هل التفلسف أن يترك الرجل آراء مختلطة ضائعة المعالم، لا ندري متى وكيف قال بها؟! وهل التفلسف أن يختلف الرأي اختلافا بينا مطلقا في الأصول والأسس؟! وهل ... وهل ...! •••
وحيث قرأت تلك الإشارة عن التناقض وتأثره بتطور حياة المعري قرأت خبر محاولة في التوفيق بين متناقضات أبي العلاء، ولم يتهيأ لي أن أطلع على شيء من تفصيلها. فإن يكن هذا التوفيق عقليا منطقيا، فقد عدنا به إلى دعوى فلسفة الرجل بعد ما مضى من قول فيها، وبعدما أنسنا بطلانها، وقد خلف صاحبنا في كل حال آثارا فنية الطابع، فنية الموضوعات، فنية التناول، فلعله ليس من الحق والصواب أن نحاول رد تناقضها، والتوفيق بين متخالفها توفيقا نظريا منطقيا عقليا. وأما إن كان هذا التوفيق نفسيا فنيا فإنا لنرجوه ونتمنى أن يستطاع، وإن لم يكن يعنى أصحاب الفن بهذا التوفيق بين متناقضات متفنن؛ لأنهم لا يعنون بأن يقيموا قضايا صحيحة على النظر، ولا قياسات سليمة المقدمات مؤدية إلى النتائج، وإنما يعنى أصحاب الفن بأن يدركوا من نفسية المتفنن وشخصيته ما أدى به إلى هذا التناقض أو التقابل؛ ليفهموا بذلك مراميه، ويدركوا خواطره، وهذا البحث النفسي عن سر التقابل في معاني أبي العلاء وتأملاته الفنية هو ما قصدنا إليه، ورجونا أن نقيمه على وجه صحيح من أمر هذه النفس الجليلة، فهما لفنها وتمثلا له.
والآن قد انصرفنا عن فلسفة أبي العلاء لما أوردنا قبل ذلك من أوجه، واطمأننا إلى تفننه، ونظرنا إلى آرائه على أنها تأملات فنية، ولمحنا فيه ظاهرة التقابل بادية غالبة، بل عامة إن شئت، فما بنا بعد استبعاد تفلسفه أن نسمي هذا تناقضا أو نلتمس له تفسيرا عقليا. فلما رحنا نلتمس أسباب التقابل فيما ذكره القدامى من الأدباء لم نجد من هذه الأسباب ما يرتاح إليه الناظر المتعمق في أدب الرجل وتراثه الجليل، سواء في ذلك ما عللوا به تناقض أبي العلاء نفسه، (انظر ص95 و125)، أو ما أوردوه في التقابل مطلقا، (انظر ص127 وما بعدها)، فحق علينا بعد ذلك كله أن نلتمس السبيل الميسرة والطريق المؤدية إلى هذا التعليل والتبيين، وإنما هي - فيما أقدر - الفهم النفسي للأديب وأدبه فهما ينتفع فيه بما عرفت الحياة العلمية عن قوانا النفسية ونواميسها. وأول ما تقضي به هذه الرغبة في الفهم النفسي هو تقدير:
حال أبي العلاء الخاصة
فنعني بها تلك الحال الجسمية لما بين الجسم والنفس من صلة وثقى، لا محل للإطالة في الكلام عنها، وكذلك نرجو أن نفهم شخصيته النفسية فهما عاما مجملا بما عرف من خبر واصف لحاله الجسمية المادية، فنتبين أثرها النفسي عليه بصفة عامة، وفكرة جامعة نظفر منها بما يكشف عن معانيه ومراميه، فنفهم آثاره الأدبية بما وراء ألفاظها وما بين سطورها لا بكلماتها وجملها فحسب، ثم نمضي بما يتكشف لنا من سرائر هذا الفن، فنكمل صورة الشخصية النفسية للأديب المدروس، وكذلك نفهم الأدب بشخصية صاحبه، ونستكمل فهم شخصية الأديب بفهم الأدب في تبادل متسق لا دور فيه ولا اضطراب.
ولأبي العلاء بخاصة من حاله الجسمية ما يؤذن بنفسية جديرة بالدرس، مسعفة في الوقت نفسه على الفهم، يتجلى فيها بوضوح ما أشرنا إليه من تأثير الجسم في النفس وتأثرها بحالته، ولا حاجة بنا إلى الإطالة في بيان ما لهذا الفهم النفسي من فضل الابتناء على أصول مقررة، ومعاني محققة، لا على فروض واحتمالات، أو تخرصات وادعاءات، أو وقوف عند نقول يعتريها ما يعتري الخبر من آفات، فهو فهم أكثر واقعية، وأدنى إلى الصدق من ظنون متخرصين أو متعصبين لحب أو كره، غافلين عن نواميس الحياة للنفس البشرية؛ إذ لم تكن تسعفهم معارف عهدهم على التنبه لها، وهو الفهم الذي يوائم الكرامة العقلية لهذا العصر، ويرد العمل الأدبي إلى الضبط الصحيح والدقة العميقة. •••
إيف أبو العلاء - وهو حدث - تلك الآفة القاسية التي ألم منها ألما شديدا، ما زال يشكوه حتى آخر عام من عمره؛ إذ يقول لداعي الدعاة: «وبصري عن الأبصار نقيل، قضي علي وأنا ابن أربع، ألا أفرق بين البازل والريع.»
15
كما شكاها سائر حياته شكوى تعتبر وحدها فنا بذاته، يؤثر بالدرس المفرد، فهو يقول للدنيا:
وأوقدت لي نار الظلام فلم أجد
سناك بطرفي بل سنانك في ضبني
16
2: 304
كما يقول للناس:
وجوهكمو كلف وأفواهكم عدى
وأكبادكم سود وأعينكم زرق
وما بي طرق للمسير ولا السرى
لأني ضرير لا تضيء لي الطرق
2: 103
وليلته بآفته صارت ثلاث ليال متراكبة، وهو يألم لأثر الآفة وما تحدثه من ضعف؛ إذ تحبسه عن المنى والرغائب:
حبستك أقدار ذوتك عن المنى
فمضى الصحاب وأنت ثاو حابس
2: 25
كما يقول ناثرا: «... والحوج على ذات عوج، وهي على سواي سهلة كالأنفاس، ولو شاء الخالق لجعلني مثل الناس.» (ف271)، وهي تلزمه الحاجة إلى الناس، فهو المستطيع بغيره كما يقول في الغفران (ص206)، وهو الذي يعد العصا يسارا:
غدا العميان في شرق وغرب
يعدون العصي من اليسار
قني فوارس ما كان منهم
فوارس رحرحان ولا النسار
17
1: 328 •••
عصا في يد الأعمى يروم بها الهدى
أبر له من كل خدن وصاحب
1: 96
وإذ يعد إرشاده إلى الطريق صدقة:
تصدق على الأعمى بأخذ يمينه
لتهديه وامنن بإفهامك الصما
2: 240
وإذ يلتمس لأمثاله الرحمة من الناس إذا ما مروا بهم:
إذا مر أعمى فارحموه وأيقنوا
وإن لم تكفوا أن كلكمو أعمى
2: 242
ويشكو في لوعة نفوسا لا تحن على أقدامهم العاثرة:
نشكو نفوسا إلينا غير محسنة
ما إن تحن على أقدامنا العثر
1: 314
ويغيظه بخل الناس عليهم حتى بغوا الحياة من الموتى بالقراءة على قبورهم:
عميانكم قرأت على أجداثكم
وأتوا لكم بالبر من آتاكمو
أحياؤكم بخلت عليهم بالندى
فبغوه بالفرقان من موتاكمو
2: 238
وتقرؤه في قطعة عنيفة قد جمع فيها كل آلامه، ومظاهر فقدانه من آفته إلى ضياع لذة الدنيا إلى البعد عن الخمر وتسريتها عن النفس، ففقد الشباب الذي لا عوض له، والحرمان من الحب، فهو يقول:
عمى العين يتلوه عمى الدين والهدى
فليلتي القصوى ثلاث ليال
وما أزمت نفسي البنان على التي
إذا أزمت عضت بشوك سيال
ولا قصرت لي أم ليلى بشربها
حنادس أوقات علي طيال
إذا ما اجتمعنا هاجت الحزن ألفة
محدثة عن جمعنا بزيال
لحا الله غارات السنين فإنها
مبدلة ظلمانها بريال
وما سرني رب الخيال بشخصه
فيطلب مني النوم طيف خيال
وهون أزراء الحوادث أنني
وحيد أعانيها بغير عيال
وهي شكوى باكية عدم النسل أيضا. وإنك لترهب زفراته المحرقة إذ يقول بعد ذلك كله:
فدعني وأهوالا أمارس ضنكها
وإياك عني لا تقف بحيالي
2: 187، 88
هذه الآفة بينة الأثر في الحياة، ما يحتاج أمرها إلى استشهاد، ولكنك تسمع هذا من أبي العلاء لتدرك وقعها عليه، ومدى عنائه بها، فتقدر تأثيرها في حياته، وفعلها في نفسه.
أبو العلاء رجل كالناس خاضع للنواميس الحيوية كما يقول هو:
ودنياك سارت بالأنام مغذة
فلا فرق فيها بين سيري وسيركا
2: 131
ويقول:
خلقت من الدنيا وعشت كأهلها
أجد كما جدوا وألهوا كما لهوا
2: 335
فهو متأثر بآفته هذا التأثر الحاد ولا سيما حين يقدر دارسه أنه خرج إلى الدنيا بوراثة طامحة من أب قد نمته أسرة عرفت بالعلم وتولي القضاء، وأم من حلب، التي يقول أبو العلاء عن نسائها في الغفران: «فطالما كن أجود غرائز من رجالهن، وربما كان في نساء حلب شواعر.» (ص205) فهي وراثة كريمة دافعة إلى ابتغاء الرفعة، والآفة كابحة معوقة، فالشعور بها حاد ثائر. ومن هنا يبدأ فهم نفسية أبي العلاء بالنواميس المقررة في نفوس الناس. •••
أراد أبو العلاء مع هذه الوراثة وهاتيك الآفة أن يستعيض عما فاته، ويكمل ما نقصه خضوعا للناموس النفسي
18
في ذلك حين يكون العيب الطبيعي سببا في تقوية الروح المعنوية وعاملا في بروز الشخصية رغبة في التعادل النفسي، وسعيا إلى التكافؤ، وطلبا للتعويض عن النقص. وهذا هو ما يشير إليه أحد النفسيين المحدثين حين يقول: إن الحضارة كلها نتيجة المساعي التي تبذل للتغلب على الشعور بالنقص الذي ينشأ عن عاهة تلحق الجسد. فكان الدور الأول من حياته إلى سن الثلاثين - على ما يحدده هو فيما سيجيء - منفعلا بهذا الشعور، فاعتزم اعتزاما قويا - على ما قال في الفصول - أن يفر من القدر: «ولقد فررت من القدر» (ف283)، قد فررت من قدر الله (ف251). ولذلك تجاهل الواقع الجسمي المادي فيه، وراح يطلب الدنيا في جد وتصميم، معتزما أن يساوي الآخرين فيها، فكان منه في هذا الدور ما وصفه مترجموه في قولهم: عجب من العجب، شاعر ظريف يلعب بالشطرنج والنرد، ويدخل في كل فن من الجد والهزل، يقول:
أنا أحمد الله على العمى كما يحمده غيري على البصر.
19
وهكذا أراد أبو العلاء بالقول والفعل معا أن يقهر آفته وينكرها، ويعترف بالحياة ومطامعها، ويمضي في طلبها - مغطيا لنقصه - استجابة للناموس النفسي، فحفظ ودرس، ولقي الأشياخ، ورحل في طلب العلم والدنيا، ونضج مبكرا، فقال في هذا الدور شعرا يظهر فيه جليا أثر الناموس النفسي المذكور من إنكار الواقع والاستعلاء عليه؛ فهو يفخر فخرا متوسعا، وهو متغزل، وهو يحب الاجتماع ... إلخ. تقرأ قصيدة من شعر شبابه فتراه فيها ذا إقدام، ولا إقدام لمثله ، وذا نائل وهو مكد لم يوسر، يغدو ولو أن الصباح صوارم، ويسري ولو أن الظلام جحافل، وما إلى ذلك. فهو يعيش في هذا الكبت المستمر منكرا واقعه الجسمي، مشاركا في الدنيا، راغبا آملا، ولكن رغم هذا الكبت تتنفس الحقيقة أحيانا، فيتمنى البصر في الصبا؛ إذ يقول:
فليت الليالي سامحتني بناظر
يراك ومن لي بالضحى في الأصائل
فلو أن عيني متعتها بنظرة
إليك الأماني ما حلمت بغائل
سقط 2: 32
وهكذا يمضي العصر الأول، أو الدور الأول، أو الصراع الأول، إن شئت في عناء عنيف، من التكمل والاستعلاء وإنكار الواقع، والطمع فيما لم يمنح آلته، وذلك كله في زمن ليس بالخير ولا بالمستقر، من حيث الشئون السياسية والاجتماعية؛ فالصراع في مثله شاق على المسلحين، فكيف به على مثله؟! لم تواته ظروف الحياة؛ إذ كانت مضطربة، وكانت قاسية، فلم يستطع الفرار من قدره، بل راض صعاب آماله فكانت شموسا كما يقول:
ورضت صعاب آمالي فكانت
خيولا في مراتعها شمسنه
2: 299
أبو العلاء نفسه يقسم حياته إلى دورين في النثر والشعر، فهكذا يقسمها في رسائله إلى الداعي،
20
وهكذا يقسمها في اللزوميات بقوله:
رضيت ملاوة فحفظت علما
وأحفظني الزمان فقل حفظي
2: 70
وأبو العلاء نفسه يصف هذا الدور من حياته الأولى نثرا وشعرا، ويتضح في الوصف التقسيم والتحديد، فهو يقول في الفصول (279): «ما زلت آمل الخير وأرقبه حتى نضوت كملا ثلاثين، كأني ذبحت بكل عام حملا أبرق - فيه سواد وبياض - بياضه الأيام، وسواده لياليه، وهيهات كأنني قتلت بالسنة حية عرماء. إن الزمن كثير الشرور، فلما تقضت الثلاثون وأنا كواضع مرجله على نار الحباحب علمت أن الخير مني غير قريب.»
كما يقول (ف231): «وإن الله خلقني لأمر حاولت سواه فألفيت المبهم بغير انفراج.» ويقول: «هجرت فما أغنى التهجير، وأدلجت فما أغنى الإدلاج.» (ف285).
كما يتحدث في شعره غير قليل عن أمل كالقنا، وحال في قصر السهم:
أقمت برغمي وما طائري
براض إذا ألفته الوكون
ولي أمل كأتم القنا
وحال كأقصر سهم يكون
2: 289
كما يقول:
أرجي أمورا لم يقدر بلوغها
وأخشى خطوبا والمهيمن كافيها
2: 345
طلب مكارما فأصاب كلاما، فهو قد أراد غير الشعر، وأكثر من الشعر:
طلبت مكارما فأجدت لفظا
كأنا خالدان على الزمان
2: 321
هكذا انتهى الدور الأول الذي حدده أبو العلاء، ووصف حاله المكبوتة فيه ذلك الوصف الصريح الدقيق الذي سمعته. •••
أدرك أبو العلاء أن هذا القدر أخو الحياة، فقال: هل أطأ على غير الأرض، أو أبرز من تحت السماء؟! أدلجت فأصبح أمام المدلجين، وهجرت وهو مع المهجرين، قال وعرس مع القالة المعرسين (ف251) لا مفر له من هذا الواقع المادي، ولا مخلص له من همته ومطامحه، فهو يغير الميدان، ولكن المعركة هي المعركة، بل هي أحمى وطيسا، وأعنف صراعا. فإذا هو في الدور الثاني يعترف بالواقع الجسمي، وينكر الدنيا، أو ينكر ما في الفطرة من طلاب هذه الدنيا، ينكر ذاك كله استعلاء وتغطية وتعويضا وخضوعا دائما للناموس النفسي الذي بنى دفعه الحضارة الإنسانية بجهاد المتغلبين على ضعفهم.
هو في كلا دوريه منكر الواقع، مستعل عليه، حامل نفسه على غير ما تحتمل. أنكر أولا آفته، واعترف بالدنيا يطلبها وليس من المزاحمين فيها، ثم أنكر ثانيا فطرته في طلاب الدنيا حين اعترف بواقع ضعفه، فليسعد بالحرمان حين يسعد الناس بالنوال، فهو يدعي كراهة الدنيا، بل قل يأخذ نفسه صادقا بكراهيتها، فيرتفع عن الطلب، ويحقر المنى، ويرى الآخرة أفضل وأسعد، فهو في فنه الأدبي لهذا الدور يتحدث عن فضل الزهد وخيره، وقبح الحياة الدنيا وفنائها، ويذم الناس وجهلهم وجشعهم، ويفر منهم ويدعو إلى اعتزالهم، وما هو في كل ذلك إلا مكبوت يحاول قهر فطرته، فتغلبه حينا ويغلبها حينا، يغلبها فيوقع أنغاما حزينة راحلة واعظة مودعة مستروحة ريح الأخرى، وتغلبه فطرته فيقول الحقيقة في صدق وشجاعة، ويوقع ألحانا آسفة على الحرمان ناعية الفشل، ويسجل حقائق قوية جريئة عن نسك أصحاب الهمم البعيدة حين يزعمون النسك.
ومن المفهوم في هذا الدور وقد اعترف بواقع القدر الملازم أن يقول: العمى عورة والواجب استتاره في كل أحواله. ويتخذ مغارة ينزل إليها ويأكل فيها (الرسائل 130، ط أكسفورد) بعدما كان يقول: إن العمى نعمة.
21
وهكذا تعنون دوري حياة الرجل عبارتاه: العمى نعمة، والعمى عورة. •••
وأبو العلاء نفسه يصف هذا الدور الثاني أيضا في دقة وصراحة وشجاعة، فيقول: أنا لا أضبر - أثب - فهلا أصبر! كما يقول: وما اعتزلت إلا بعدما جددت وهزلت، فوجدتني لا أنفذ في جد ولا هزل، ولا أخصب في التسريح ولا الأزل، فعلي بالصبر، لا بد للمبهم من انفراج، (ف297)،
ولا حليف ضبر، (ف304).
وفي شعره من وصف هذا الدور غير قليل؛ فلقد سمعناه قبل يقول:
لما رأيت سجايا العصر ترخصني
رددت قدري إلى صبري فأغلى بي
1: 105
ويتحدث عن غناه بالقناعة وقعوده إذا طلب الناس:
إذا طلبوا فاقنع لتظفر بالغنى
وإن نطقوا فاصمت لترجع باللب
1: 96
كما يقول:
خلافك بعض الناس يرجى به الغنى
وفي الدهر أقوام خلافهمو حزم
فأفطر إذا صاموا وصم عند فطرهم
على خبرة إن الدواء هو الأزم
22
2: 219
كما يقول أيضا:
ولست من الركب إذ
يعوجون في المعلم
إذا طمعوا فاقتنع
وإن جهلوا فاحلم
2: 274
كما يعترف في شجاعة جديرة بالإكبار أن آفته سبب فيما فعل من رغبة في الاعتزال والبعد عن الناس في مثل قوله:
إذا كف صل أفعوان فما له
سوى بيته يقتات ما عمر التربا
ولو ذهبت عينا هزبر مساور
لما راع ضأنا في المراتع أو سربا
1: 80
كما يجهر عقب ذكر الآفة بقوله:
وما زال نعم الرأي لي أن منزلي
كأني فيه مضمر كن في نعما
2: 242
وهو يسجل الصراع النفسي في دقة شاعرة، ولا يمتنع من الجهر بالواقع كما هو، فلا يأنف من أن يصرح بأنه لا يفعل لنسك بل لتأثره بما أصابه فيقول بعد ذكر المرأة:
ولم تتب لاختيار كان منتجبا
لكنك العود إذ يلحى وينتجب
23
ويعقب عليه بقوله في العزلة:
وما احتجبت عن الأقوام من نسك
وإنما أنت للنكراء محتجب
قالت لي النفس: إني في أذى وقذى
فقلت: صبرا وتسليما كذا يجب
1: 65، 66
ويذكر هواه وتشهيه كثيرا ولوعته على الفوات، ويكرر القول بأنه لم ينسك وإنما حرم، وفي القطعة التالية ترى مثلا لذلك واضحا:
هواك مشابه فرسا جموحا
وما ألجمته فعليك رسنه
ويتحدث عما فاته بقوله بعد:
ولا يعجبك روض باكرته
غمائمه وأغصان يمسنه
ولا الأفواه تضحك عن غريض
فرائد في مدامتها غمسنه
ويذكر كبته لنفسه بقوله:
ألم ترني حميت بنات صدري
فما زوجتهن وقد عنسنه
ولا أبرزتهن إلى أنيس
إذا نور الوحوش به أنسنه
ويجهر في صراحة بأنه ليس ناسكا:
وقال الفارسون حليف زهد
وأخطأت الظنون بما فرسنه
ورضت صعاب آمالي فكانت
خيولا في مراتعها شمسنه
ولم أعرض عن اللذات إلا
لأن خيارها عني خنسنه
وهكذا يصر أبو العلاء على أن يحسن فهم نفسه، ويرد فعاله إلى أصولها النفسية، كما أصر على أنه عاش كسائر الناس، ولها كما لهوا وجد كما جدوا، فليس من الخير في شيء أن يعلل فعله بالفلسفة والتفلسف والدعاوى الواسعة.
تغاير آرائه ظاهرة نفسية
انتهت حياة أبي العلاء على هذه الحال التي صار إليها في دوره الثاني، فأمضى حياة كلها إنكار للواقع واستعلاء عليه، ورغبة في تكميل ما نقصه، فيوما ينكر آفته ويوما ينكر بشريته، حينا يطلب الدنيا بغير آلتها، وآنا يخرج نفسه من الدنيا وهو فيها، ذكاؤه دافع، وآماله واثبة، واقعه قاس، ونقصه غير يسير، ورغبته في التكمل جامحة، فهو ونفسه أبدا في جذاب كما قال:
إني ونفسي أبدا في جذاب
أكذبها وهي تحب الكذاب
1: 123
وفي هذه الحال النفسية واجه أبو العلاء الحياة في حس مرهف وشعور دقيق، وروح ساهرة، وراح يدون خواطره تدوينا موسعا مفصلا دقيقا شاملا للعوالم النفسية المختلفة التي تمر به ويمر بها، مدركا في دقة أخفى غوامض هذه العوالم النفسية، فهل يستغرب بعد ذلك أن يغضب هذا الرجل، فيواثب القدر، ويهاجم الأقداس، ويلعن الناس، أو أن ينظر إلى حاله، فيرى الأمر حظا واتفاقا لا غير، ويلعن هذا الحظ؟ أو أن يروض نفسه فتلين حينا وتسخر من الحياة ومن فيها، ومن متع الدنيا والمتقاتلين عليها، وتشوه ذلك تشويه زاهد، ممعن في التجرد والتخلي، أو أن تشعر هذه النفس الدقيقة بالحياة الواقعة كما أخضعت الناس، وخضعوا لها، فتحلل من ذلك ما تحلل تحليلا بارعا، وتصفه وصفا قديرا، أو أن تلجأ هذه النفس إذا قسا عليها الواقع إلى فسيح الرحمة الإلهية ورحب العوالم السماوية؟ لا بعد في شيء من ذلك، ولا غرابة أبدا، بل شأن النفس المكبوتة هذا الكبت المتطلعة ذلك التطلع أن تتنقل مثل هذا التنقل.
ولو أن رجلا عاديا خالصا من هذا الصراع الدائم في نفس أبي العلاء قد راح يدون خواطر نفسه في شعور تام بها، وتتبع متنبه لها، واستيعاب شامل لعوالمها، لمر في الحياة بنواحي مختلفة، تختلف بها خواطره، ولخرج بشبيه لما قاله أبو العلاء يختلف فيه مرحه عن غضبه، وهزيمته عن نجاحه، وفرحه عن حزنه، فكيف بأبي العلاء وهو يتردد بين أمرين أحلاهما مر؛ بل هما مرير وأمر، واقع قاس وإنكار جريء؟
24
فالسر في تناقض أو تغاير آراء أبي العلاء نفسي محض، يرجع إلى أمرين في نفسه، أو إلى ظاهرتين فيه:
أولاهما:
الرغبة المتوثبة في الاستعلاء على ضعفه والقهر لواقعه، وهو ما ساد دوري حياته على السواء.
وثانيتهما:
دقة هذه النفس الشاعرة في إدراك عوالمها المختلفة وخوالجها المتغايرة، ثم يؤازر هذين العاملين انقطاع أبي العلاء لتدوين خواطره وفراغه لذاك وتوافره عليه.
هكذا تغايرت آراء أبي العلاء ومعانيه، دينيها ودنيويها، فنيها وعمليها، بل هو في غير الديني قد يكون أكثر تغايرا أو تقابلا. وهكذا ينبغي أن نفهم آثار أبي العلاء - فيما أرى - فهما نفسيا صحيحا صادقا دقيقا عميقا ممتعا مقبولا على هذا الأساس.
وإذا ما فهمنا أبا العلاء على هذا الوجه، فقد فهمناه من نفسه هو، لا من نفوس دارسيه وقارئيه، كما حصل ذلك في القديم والحديث، وفي الذي سمعت لهم من أحكام وآراء، إن ينهض بها جانب من قوله، قعدت بها جوانب أخرى وجوانب!
فأما في القديم فحيث كانت العناية بالناحية الدينية واضحة في المترجمين له لم يعنوا بتناقضه إلا في المسائل الدينية، فذهبوا يفسرون حاله حينا بالشك وحينا بالإلحاد الذي تاب منه وأناب، وحينا بعدهم ما لم يتفق مع العقيدة مكذوبا عليه كما يعنون براوية أخبار أو منامات دالة على حسن حاله وسعادة مصيره ... إلخ. ما نعرف من الحكم عليه وعلى غيره حكما أخرويا في هذه الدنيا!
وأما حديثا فباتباع بعض المتحدثين عنه مثل هذه الخطة، ولو أخلوا بالمنهج العقلي في الدراسة إخلالا واضحا كالذي فعل من
25
أنكر أن يكون في غير اللزوميات إلحاد، فعمم ذلك فيما لم يره من كتب قائلا: «... ولا إن شاء الله في كتبه مما لم يصلنا، اللهم إلا نزر يسير ...» فحكم على ما لم يصلنا من كتب المعري بحسن الرغبة وطيب الأمل أنها خالية مما يكفر إن شاء الله.
ومن فهمه في نفس دارسيه حديثا ما نقرأ في دائرة المعارف الإسلامية، (1: 382، 83)، من الترجمة العربية، أنه ليست هناك عقيدة إسلامية لم يسخر منها أبو العلاء، وأنه كان يرى الدين من صنع العقل الإنساني، ونتيجة للتربية والعادة، ولم يقبل أية صورة من صور الحياة الأخرى، وكان ينظر إلى الفناء على أنه خلاص سعيد من الحياة ... إلخ!
ولو قرئ أبو العلاء ليفهم من نفسه وفي نفسه، لكان حاله في الدين كحاله في الدنيا، خاضعا لمؤثرات تتطلب التفسير المطرد الصحيح، سواء أكان ذلك التفسير بالناموس النفسي الذي وصفناه أم كان بغير ذلك مما يمكن أن يقوله غيرنا، ما دام تفسيرا قائما على أصل صحيح غير ادعائي ولا تحكمي كما كان ذلك حتى الآن، وإذ ذاك سيكون القول بتفلسف أبي العلاء، وشرح فلسفته أخف مما هو الآن حدة، وأضيق دائرة، وأقل تحكما في فهم حياة الرجل ما دام الدرس قائما على أساس من التجربة الخبيرة بالدنيا والناس.
والآن وقد اطمأننا إلى هذا التفسير النفسي لحياة أبي العلاء الأديب وفهم أقواله على أساسه بقي علينا أن نتقدم إلى بحث آخر هو:
أبو العلاء بين قوله وفعله
إذ سمعنا مفلسفي الرجل أنفسهم يقولون: إن الفلسفة بحث تخضع حياة الباحث لنتائجه، وناقشناهم في ذلك كله من أمر صاحبهم، (انظر ص99 وما يليها)، بعدما افتقدنا الأصل الفلسفي الذي يقيم عليه الفيلسوف فلسفته وهو مذهبه في المعرفة، فلم نظفر للرجل في هذا بمذهب، وبعدما التمسنا رأيه في شئون حياة الإنسان العملية التي زعموا لأبي العلاء بها عناية خاصة، فوجدناه فيها جميعها ينفي ويثبت، ويأمر وينهى ، ويحسن ويقبح، فلم نستطع من أجل ذلك كله أن نجد لسلوك أبي العلاء العملي أصلا فلسفيا نقيمه عليه ونعزوه إليه. وقررنا بذلك أننا لا نستطيع أن نعزو أسلوبه في الحياة إلى فكرة فلسفية سيطرت عليه؛ لأننا لا نجدها ولا نراه يثبت على شيء منها، فلا نعرف إلى أي قوليه ننسب فعله إن كان له فعل ثابت متسق قد اطرد، وإنه لخليق بنا - والأمر كذلك - أن نعلل أفعاله بغير التفلسف الذي يتبع فيه السلوك النظر ويتأثر الفعل بالرأي.
ونحن قد اطمأننا فيما مضى إلى أن أبا العلاء الذي لا نلمح فيه سمات الفيلسوف - بل نجد منه الإخلال الواضح بالمنهج الفلسفي - إنما هو رجل وجداني، متفنن، قوي الإحساس، دقيقه، صادق التعبير عنه، جريء القول به، قد أعطانا سجلا نفسيا لعوالمه المختلفة، لعلنا لا نظفر بمثله من أديب، سجل اعترافاته بدقة وتفصيل، معلنا قصده إلى الاعتراف، ومصمما على المصارحة، كما اطمأننا إلى أن حياة الرجل كانت - كما يقضي بذلك الواقع الجسمي - خاضعة لفعل الناموس النفسي المعروف الذي تدين الحياة والحضارة لآثاره في أعمال من نقصتهم الدنيا بعض قواهم، فعوضوا نقصهم وسدوا عجزهم، وأن حياة صاحبنا قد تعرضت بذلك للون من الاستعلاء الكابت في دوريها الواضحين، فكان ذلك خليقا بأن ينقل الرجل بين عوالم متغايرة وأجواء نفسية متقابلة يصدق تعبيره المحس الدقيق عنها، فيترك في قوله تلك الآثار الواضحة من التعارض الذي يبدو جليا بينا لمن قرأ أدبه، فوصل بين أطرافه وربط بين أجزائه، ونظر إلى الوحدة المتصلة بين أوله وآخره وبعيده وقريبه. وإذا ما بطل التعليل الفلسفي لبعض فعله أو كله، فقد بقي علينا ولا بد أن ننظر إلى ما يمكن أن يكون لهذا الفهم النفسي للرجل من أثر في فعله؛ لنفهم حياته العملية كما فهمنا حياته القولية فهما ذا أصول ثابتة صادقة، تمدها الخبرة النفسية وتؤيدها المعرفة العلمية، لا فهم نقول ومرويات يعتريها ما يعتري الأخبار دائما من اضطراب وتأثر، ولا فهم فروض ينال منها الهوى والتحكم، وذلك هو تمام ما ندعو إليه في فهم شخصية الأديب فهما يجدي على فهم أدبه، فهما متمثلا متذوقا.
فلننظر أولا فيما عرف وصح نقله عن أسلوب حياة الرجل، فأما:
زهد أبي العلاء
فقد كان في العصر الثاني من حياته يكتفي بدخله القليل لا أكثر، وهو ضرب من الاعتدال المترفع، ليس كالزهد الذي وصفه وأطنب فيه، حينما كان يتجه إلى القول في الزهد. فلا هو ترك الدنيا الترك التام ولا حرم نفسه ذلك الحرمان الشبيه برهبنة الرهبان، وما إلى ذلك مما تراه فيما أسلفنا من حديثه عن الزهد، وهي حال من القناعة، لعلك تراها أيسر ما تحمله عليه نفسيته التي وصفناها آنفا، وإنك لتجد غير قليل من الشواهد على توجيه نفسيته له نحو هذه القناعة والاعتدال أو الزهد إن أبيت إلا أن تسميه كذلك، فهو عاجز عن الغنى، وبخاصة بعد تجربته طوال الدهر الأول من حياته أيام الشباب والأمل، فبقي أن يكون الصبر عنده أروح من تكلف الطلب؛ لأنه يستطيع حمل نفسه عليه، حين يعز عليه سبيل الطلب ووسائله، كما يقول:
الصبر أروح من حاج تكلفه
تزجي له الخيل والمهرية القودا
1: 217
فهو يكتفي بالقناعة عن عظائم لا تبلغ إلا بالجد ويقول:
ويكفيك التقنع من قريب
عظائم ليس تبلغ بالتوني
2: 318
وهو مستطيع أن يخفي مطعمه، فلا يدري أحد ماذا أكل؛ كقوله:
لنفسي ما أطعمت لم يدر آكل
سواي أحلوا جاز في الفم أم مرا
1: 288
وبهذا ومثله من أخذ النفس بالصبر يثري مع فقد المال ويقول:
إذا أثريت من صبر جميل
فأنت وإن فقدت المال مثر
1: 322
وهكذا يثري بالمعالي فيقول:
كثير من تكثر بالمعالي
على ما كان من قل وكثر
1: 322
ويكون العقل الوافر خيرا من المال في قوله:
فإن لم تنل وفرا من المال فاستعن
وفارة عقل فهي أزكى من الوفر
1: 308
وهكذا يستعلي على العجز ويغلي نفسه إذا ما أرخصه الناس، ويسجل ذلك قائلا:
لما رأيت سجايا العصر ترخصني
رددت قدري إلى صبري فأغلى بي
1: 105
وهي قوة نفس لا عجب في أن تكون عند أبي العلاء، وأن يكافح بها ما فاته من قوة وقدرة على الغلاب، ولكن أجل وأكثر من هذه القوة على الصبر، قوته على الجهر وصدق وصفه لنفسه في غير مواربة ولا مداجاة، ويتمثل لك ذلك إذا ما قدرت أن هذا البيت الأخير: «لما رأيت سجايا العصر ... إلخ»، وهو جلي تمام الجلاء في وصف الحال النفسية وناموسها الذي أشرنا إليه وأجرينا حياته عليه. هذا البيت إنما يقوله بعد قوله:
وحب دنياك طبع في المقيم بها
فقد منيت بقرن منه غلاب
1: 105
فيجهر صريحا بحب الدنيا وغلبة ذلك له، كما يجهر بما اتقى به ذلك؛ إذ أرخصه العصر فأغلى به الصبر، ويرحم الله الشيخ فما أقواه، ثم ما أصدقه، وقد فسر لنا قناعته خير تفسير وأصرحه؛ ولذلك نفهم عنه زهده مع استمرار أمله، بعدما عجز، فهما نفسيا واقعيا، لا تفلسف فيه ولا هو مذهب له، ولا حاجة بنا إلى تكلف كهذا. وفي الذي مضى من قوله المتقابل في هذا الزهد ما يتم به هذا الفهم النفسي ولا نعيده هنا.
ومن هذا الزهد: تحريم الحيوان - وقوله فيه متقابل - على ما رأيت فيما مضى، وفعله فيه مفهوم غير مستعص على هذا البيان النفسي، دون الزيادة عليه ببرهمة أو غيرها من الدعاوى. وأما:
العزلة
فإن الرجل بعدما أعلن عن عزمه عليها ما أعلن في رسالته إلى أهل المعرة وبعدما قال في فضلها ما قال كما قال في ضررها ما قال، (انظر ص88 وما بعدها)، لم يصر منها إلى حال تحوج إلى التعليل الفلسفي أو النفسي؛ إذ لم يلتزمها كما يشهد بذلك من آثاره، مثل قوله:
يزورني القوم هذا أرضه يمن
من البلاد وهذا أرضه الطبس
1
2: 21
وقوله:
وشهرت في الدنيا ومن لي أن أرى
كالنير الفاني مع الإشهار
1: 366
وأخبار القدماء مؤيدة لهذا، كما أن المحدثين يذكرون فشله في طلب العزلة
2
وليس الذي يعنينا أنهم يؤيدون الأخبار الواردة بذلك، وإنما المسألة هي تقريرهم أن هذه العزلة كانت أمنية ضائعة؛ لأن أبا العلاء وإن زهد في كل لذات الحياة لا يستطيع أن يزهد في العلم والتأليف اللذين قد ملكاه واستأثرا به، وكلاهما يكلفه عشرة الناس لاحتياجه إلى من يقرأ له ويكتب عنه.
3
هكذا يفسرون هذا العجز عن الاعتزال، وهو تفسير لا أرتاح إليه؛ لأن التأليف والكتابة يحوجان إلى واحد أو آحاد قليلة،
تفسير احتمالي لا غير. على أنك إن تركت هذا التفسير فإنك لن تترك ما تلاه من القول في بيان أن الرجل - لما سبق - لم يلبث بعد استقراره بالمعرة أن اشتغل بالتعليم فالتف حوله الطلاب. وما هو إلا الزمن القليل حتى كثر سوادهم حوله، ثم لم تمض على هذه الحال أعوام حتى أخذ الناس يزورونه، ويكتبون إليه فاستحالت عزلته إلى أشد أنواع المعاشرة.
4
لن تترك هذا القول دون تعليق؛ لأن الحاجة إلى من يكتب أو إلى من يقرأ لا يترتب عليها أن يشتغل أبو العلاء بالتعليم، ثم يكثر سواد الطلاب حوله، ثم يزوره الناس، ويكتبون إليه فتستحيل عزلته إلى أشد أنواع المعاشرة! •••
إنك لتلمح في صدر هذا الكلام - المبين لسبب فشله في طلب العزلة - إشارة إلى حالته الجسمية وحاجته بها إلى غيره دون مضي في ترتيب أثر آخر على هذه الحاجة، وكان من القريب أن يقدر أثر هذه الحاجة النفسي، فلعله يكشف وجه الرأي والتعليل لفعل أبي العلاء في العزلة. وهذا التفسير - فيما يبدو لي - هو تتمة الذي مضى من بيان أثر الناموس النفسي المعروف على المحرومين والمنقوصين، ويرجع إلى أن الرجل بعد دوره الأول في الاستعلاء على حالته المادية، وبعد فشله في ذلك وخروجه من بغداد، جعل يستعلي على الدنيا والناس، أو قل: جعل يستعلي على غريزته الاجتماعية وهو استعلاء شاق مرهق لا يتيسر النجاح فيه؛ ولهذا أعلن رغبته بل تصميمه على العزلة، ولكن غلبه من نفسه ما بقي فيها من الفطرة الاجتماعية، فلم يتهيأ له الاعتزال، فعلم وألف، ولقي الزوار، وتلقى الكتب. وهذه البقية الفطرية التي لم يتيسر له التغلب عليها هي التي ظل حتى آخر عمره يعترف بدفعها له وتأثيرها عليه اعترافا دقيقا صادقا شجاعا صريحا فيحدث عن حبه الدنيا وميله إلى لذائذها، وأنه لم يزهد فيها ولكنها أخطأته، فتجمل بالصبر مترفعا، وظل يقاسي هذا العناء النفسي الدائم، فيعلن حينا ترفعه عن عشرة الناس وانتقاصهم والنصح بالبعد عنهم، وما إلى ذلك من مختلف معانيه في الوحدة والنفرة، ولكنه لا يعتزل ولا ينفر. ولا يخطئك رغم ذلك من شعره ونثره ما يعطيك هذا التفسير النفسي الملحوظ من الاختلاط ثم الفرار عجزا مع استمرار مراودة الآمال؛ كقوله:
لجأت إلى السكون من التلاحي
كما لجأ الجبان إلى الفرار
ويجمع مني الشفتين صمتي
وأبخل في المحافل بافتراري
وكان تأنسي بهمو قديما
عثارا حم في شأو اغتراري
يئست من اكتساب الخير لما
رأيت الخير وفر للشرار
1: 327
وقوله:
هويت انفرادي كيما يخف
عمن أعاشر ثقل احتمالي
2: 210
مع قوله:
وما احتجبت عن الأقوام من نسك
وإنما أنت للنكراء محتجب
1: 66
وهو ما تقرؤه في نثره
5
إذ يقول: «نابي تاب، واليد ليست ذات أكناب،
6
فأنا للناس أخو جناب.»
7
ولعلك مستطيع أن تلمح في فشل طلبه العزلة مظهر ما يشكوه من مراودة آماله له مدى الدهر؛ لأن هذه العزلة انطواء على النفس يليق به ويريحه ويستطيع معه الفراغ للعلم والتأليف دون توسع في لقاء الناس، ولكنها النفس الإنسانية تنازعه وهو معها في غلاب، كما قال كثيرا فصدق الناس القول عن نفسه. وأما:
المرأة والنسل
فإن الرجل لم يحاول منهما شيئا، مهما يختلف قوله بشأنهما كما أسلفنا بيانه، وسوق غير القليل من متقابله، ولسنا نطمئن إلى أن الانصراف التام عنهما إنما كان من الرجل فلسفة تذهب إلى كذا وكيت، أو تلتزم ما رأت في ذلك من رأي؛ لأن الرأي كما أمضينا القول لا يتجه وجهة بعينها، والتفلسف لا يؤيده شاهد، بل تنقضه الشواهد، فلأي شيء ترك أبو العلاء حياة الأسرة تركا تاما؟ وهلا كانت نفسه تنازعه فيحاول ولا يصل كما فعل في العزلة مثلا؟ لن يفسر هذا الترك بالنفور من الناس؛ لأنه خالط كما سبق، كما لا أحسبه يفسر بالفقر وقلة المورد؛ لأن هذا الرزق الثابت كان يكفي أبا العلاء وخادمه، فكان يكفيه مع زوج مكان خادم. وهبها الحاجة وضيق ذات اليد، فهل تقوى الحاجة على منازعة نفسه فلا يحاول الاتصال بالمرأة أبدا حتى في عصر نشاطه واستعلائه على ضعفه وجده في سبيل النجاح حينما كان يطمع ويطمح ويقول:
ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل
عفاف وإقدام وحزم ونائل
أما إني منذ تركت الاستراحة إلى تفلسفه وتحريمه النسل فلسفة، وملت إلى البيان النفسي جعلت لا أقف عند هذه الظاهرة من فعل الرجل في ترك الزواج والنسل، بل أسأل نفسي: لماذا جانب أبو العلاء المرأة؟ ومضيت أبحث عن سر أبي العلاء، لم لم يتزوج؟
وللمرأة مكانها في فن صاحبنا مهما يكن القول الشائع عن رأيه في الزواج والنسل، ولقد جاءك من صورته الثانية التي لم يرسمها له مؤرخوه ولا دارسو أدبه ما قرأت في ص78 وما بعدها، من رأيه الحسن في المرأة، وهو - بدقيق حسه وصريح قوله وجريء تعبيره - يعطينا الكثير عن منزلة المرأة في هذا الفن، أو مكانتها في نفس الرجل؛ فقد تغزل غير قليل في شعره الذي يجمعه سقط الزند،
8
وفي هذا الشعر ما يمثل العهد الأول من عهود حياته، وهو عهد الشباب والأمل. ومهما يكن التقدير الفني لهذا الغزل عند دارسه، ومهما يكن الرأي أنه تقليدي، فإنه لا شك يدل على شعور بالمرأة، ومكانها في الفن وهو قدر لا مشاحة فيه. على أنه بعد ذلك في عهده الثاني لم تخل لزومياته الوقورة - بل لم يخل نثره - من حديث المرأة مع الخمر أو وحدها، فوق ما سمعت من ذلك في حديثنا السابق عن رأيه غير الشائع في المرأة؛ وصفا لها، أو حديثا عن حل الطيبات، أو عن الحرمان من كذا وكذا منها؛ كالطيف والرضاب ... إلخ. وإليك طرفا منه:
يا حبذا العيش الأنيق ولم ترم
هدم السرور من الخطوب زلازل
2: 159
ولا قصرت لي أم ليلى بشربها
حنادس أوقات علي طيال
2: 187
ويعجبني شيئان خفض وصحة
ولكن ريب الدهر غير شياني
9
وما جبل الريان عندي بطائل
ولا أنا من خود الحسان بريان
2: 307
خمور الريق لسن بكل حال
على طلابهن محرمات
ولكن الأوانس باعثات
ركابك في مهالك مقتمات
1: 151
بيض دوار للقلوب كأنها
عين بدوار وعين دوار
10
هذي أواري المنازل ما درت
أني أواري في حشاي أواري
أما فواري العين عنك فصادفت
سمعا وأما الوجد منك فواري
1: 333
ولو اطمأننت إلى أثر الشعور النفسي في قوله؛ لوجدت في غزله ووصفه مثل الذي تجد في ذمه لهن، وفقده إياهن من الدلالة على الشعور بهن، بل على الاتجاه إليهن؛ ولذلك مثل غير قليلة، حتى في حديثه عن التسبيح والتمجيد حين يطلب أو يغري بالأجر عليه، فيذكر أنه يوصل لرضاب الحور، ويقول في الفصول:
11 «ومن مزج رضابه بذكر الله لم ييأس من رضاب الحور.»
12 «الشبيبة أضعت الحبيبة، فكيف ورأسك خليس؟ سوداء مختلطة ببياض ...» وقوله
13
مخاطبا الله تعالى: «إن تصوير ابن آدم لعجب بديع، ما أقدرك على تغيير ما نحن فيه، إن أردت التبديل، لا أكتمك ما أنت به عليم، إن أسفي على الدنيا لطويل، نفد عمري وغيري المصيب، رأسي أسحم، ولذاتي شيب.» وإذ يقدر اللذة وعمارة الدنيا بها في مثل قوله:
14 «... وقول الحق أفضل من السكوت، واستقامة العالم لا تكون ولذة الدنيا منقطعة، وخبر الميت غير جلي ...» ولو ألممت ببكائه الشباب، والتبرم بالمشيب، وما يتصل بذلك، لأوفيت على كثير من الاتجاه إلى المرأة. ولهذا كله درسه المستقل المفرد، وحسبنا هنا تقرير أن أبا العلاء متجه إلى المرأة، شاعر بالفطرة البشرية، متنبه إلى الحاجة الإنسانية، فلماذا أمسك عن الزواج إذن؟
إن الرجل لم يترك هذا السؤال بغير جواب ؛ فقد تحدث فنه عنه غير قليل من الحديث، وقد أشرنا أيضا إلى بعضه فيما مضى من حديث عن المرأة واختلاف رأيه فيها، وبقي من ذلك ما لو أحطنا به وتأملناه، فلعله موف بنا على تعليل ترتاح إليه النفس أكثر من قول القائلين بالتفلسف، وتحريم النسل، وما إلى ذلك من فروض تركوا فيها واقع الرجل، وأهملوا دراسة فنه، ثم راحوا يتحدثون عن كل أولئك من أمره، بعيدين عنه، غير متصلين به.
تحدث أبو العلاء عن زواجه في مثل قوله:
أنا للضرورة في الحياة مقارن
ما زلت أسبح في البحار الموج
وصرورة في شيمتين: لأنني
مذ كنت لم أحجج ولم أتزوج
1: 173
وقوله:
أسير عن الدنيا وما أنا ذاكر
لها بسلام إن أحداثها حمس
15
صرورة ما حالين: ما لكعابها
ولا الركن تقبيل لدي ولا لمس
ولم أرث النصف الفتاة ولم ترث
لي الربع بل ربع تطاول أو خمس
16
2: 11
فهو مع حديثه في هذه الأبيات الأخيرة عن التقبيل واللمس والحرمان والشدة يجمع بين الحج والزواج في أنه صرورة عنهما، كما قال في البيتين السابقين (صرورة)، و(مقارن للضرورة)، فلأي ملاحظة جمع بين الحج والزواج وحرمانه منهما هذا الجمع؟ إنه يجمع بينهما أيضا في حديثه عن غيره كما جمع بينهما في حديثه عن نفسه، فمن قوله في غيره:
قد يحج الفتى ويغنى بعرس
وهو من صرة اللجين صرورة
1: 303
فلأمر ما هذا الجمع بين الحج والزواج؟ أهو يقدر فيهما الاستطاعة والمقدرة المالية بملك صرة اللجين، وهو لا يملك شيئا؟ ربما كان هذا هو سبب الجمع بينهما، ويرجحه قوله بوضوح في الحج:
لا ملك لي وأرى الدنيا تحاصرني
وما حججت وقد لاقيت إحصارا
1: 297
وهذا الإحصار الذي يذكره، اصطلاح فقهي، يريدون به المنع من الحج بعذر قاهر من مرض أو عدو يحول بين الشخص وأداء الشعائر، وهم يعقدون له فصلا خاصا في كلامهم عن الحج، فهل ذكر هذا الإحصار يفسر المعنى الذي جمع من أجله صاحبنا بين الحج والزواج؟ إن أبا العلاء قد يكون محصرا عن الحج بضعفه وعجزه؛ إذ هو مستطيع بغيره - كما يقول - لا بنفسه، وهو لا يجد نفقة السفر له ولخادم يعينه، ثم هو في كبرته قد انضم إلى أسباب إحصاره أيضا، الضعف الذي لعله لا يستطيع معه السفر، فهل منعه من الزواج أنه غير مستطيع المهر والنفقة؟ إنه يتحدث عن الحج والعجز مرة أخرى في قوله:
ولم أقض حجا في منى وبلادها
وكم عاجز قد زارها متنفلا
2: 168
فقد تكون في هذا القول إشارة ما إلى عجزه عن الحج. وجملة هذه تلفت النظر - في غير بعد - إلى أن الشيخ قد عجز عن الحج والزواج أو أحصر عنهما كما يقول ما دام يجمع بينهما هذا الجمع أكثر من مرة، وهي نتيجة لا بعد فيها، ومقدماتها تعطيها من قرب، فبقي أن نعرف سبب إحصاره عن الحج والزواج؟ أهو المال وعدم وجدانه؟ أم هو شيء آخر؟ وهل سبب الإحصار واحد فيهما؟ لقد كان العجز المالي سببا واضحا في الحج؛ لأنه رحلة ونقلة تتطلب نوعا من القدرة، وتلزم بمزيد من المال لا يمكن معه قضاء الأمور - كما في الإقامة - بما يتيسر. ولكن العجز المالي في الزواج ربما لا يظهر سببا للإحصار لما قدمنا من أن أبا العلاء كان يعيش مع تابع ولا بد، فلو كان هذا التابع فتاة، أو امرأة كيفما كانت لم يزد عليه بذلك شيء من المال. بل لعل أبا العلاء كان يجد فيها معونة على المعيشة بدخله اليسير، لا يجدها بدونها مع الخادم الرجل. ولم يكن يعجزه أن يجد كريمة فقيرة تشاركه هذه الحياة الخفيفة الحاجات المحدودة المقدرة. ومن ذلك وما إليه نستطيع الاطمئنان إلى أن العجز المالي ليس سببا قويا للإحصار عن الزواج، ومن الدقة أن نمضي في التماس سبب آخر. وقد وجدنا في الحج سببين للعجز، هما المال، ثم ضعفه إلى حد ما. وقد بعد - إلى حد ما كذلك - أن المال من أسباب العجز عن الزواج، فبقي أن هناك سببا آخر، فهل هو ضعف عن الزواج؟ وهل في المسألة اعتبار جسمي جنسي له دخله في هذا التصرف؟ لا بعد في أن يكون ذلك، وواجب البحث يقضي علينا بالمضي في اختبار هذا الفرض.
وفن أبي العلاء هو دائما مادة هذا الاختبار وأداته؛ لأنه فن دقيق صريح صادق عميق. وعند هذا الاختبار نجد في أدب صاحبنا ذكر سر أو أسرار في حياته ، قد تكون أسرار الكون والمعرفة أحيانا كما يحتمل من قرب أن تكون أسرارا من غير هذا الصنف، ومن حديثه في الأسرار التي لا يبدو أنها أسرار الكون وخفايا الحقائق، مثل قوله:
ولدي سر ليس يمكن ذكره
يخفى على البصراء وهو نهار
1: 275
فما هذا السر يا ترى؟ إنه يذكره في سياق الحديث عن بني آدم وولادة أمهم إياهم عاركا في غير طهر، كما سيتحدث بعد بيتين اثنين من ذكر هذا السر عن الغريزة المسيئة وزجرها، مريدا بها تلك الغريزة الجنسية، لقوله:
فازجر غريزتك المسيئة جاهدا
واستكف أن تتخير الأصهار
فهل يرجح هذا الجو العام للحديث أن الحديث عن سر يتصل بهذه الغريزة؟ وإن كان يقول عقب السر مباشرة:
أما الهدى فوجدته ما بيننا
سرا ولكن الضلال جهار
فإن هذا السر من الهدى غير ما في سياق الحديث العام، ومع هذا فترجيح أن السر الأول هو سر الغريزة لا بعد فيه.
وتسمع من حديثه في الأسرار قوله:
طوي عنك سرا صاحب قبل شيبة
فلما انجلى عنه الشباب جلاه
2: 336
فهو قبل هذا ببيت واحد يتحدث عن حمار الوحش يفتك به القدر فيطلق عرسه كارها، ثم يأمر في البيت الذي قبل حديث السر، بعدم الاستسلام لهم النفس، كما يأمر في الشطر الثاني بالإدلاج إذا ما نام الركب، وبعد هذا يذكر حديث السر المطوي قبل الشيب، والمجلو بعد انجلاء الشباب، وقريب من السياق، ومن ألفاظ البيت أنه سر يتصل بالغريزة المذكورة. ومن الممكن حقا أن يكون سر الزواج، فتضم إلى هذا قوله حين يتحدث عن حياته، وأنه فيها سامري يقول: لا مساس، كما قال السامري في بني إسرائيل، وذكره السر في هذا المقام بقوله:
ولم يطل سامري حديثي
بل عشت في الدهر سامريا
لو علم العاذلون سري
لأصبح القوم عاذريا
2: 362
فهو سر الوحدة وسر السامرية التي تقول: لا مساس، وهو سر يعذر من يعرفه في هذه الوحدة والسامرية، فهلا يرجح هذا أنه سر ترك الزواج، أو سر الغريزة كما قلنا؟ أحسب أنه ترجيح مقبول على أنك لو جمعت إلى هذا مثله من قول الشيخ لوجدته يزداد جهرة، فهو في صراحته التي عهدناها، وشجاعته التي كثرت شواهدها، وفي دقته التي أودع بها خواطره آثاره الفنية، يقول ما هو أكشف وأبين؛ كقوله:
ولم يلق في دهره أجربي
هواني فلينأ عني هواني
17
وعندي سر بذي الحديث
كنت عنه في العالمين الغواني
2: 328
فما السر البذي الحديث الذي تكني عنه الغواني في العالمين؟ أليس هو السر الذي ليس يمكن ذكره كما قال، وهو السر الذي يخفى على البصراء لا يعرفونه، وهو نهار في آثاره ونتائجه، كما وصفه أيضا هو هو غالبا. والسر البذي الذي لا يمكنه ذكره، والذي تكني عنه الغواني في العالمين، والذي هو خفي على البصراء، هو سر الغريزة فيما ترجح مطمئنا، هو سر الإحصار عن الزواج، هو السر الذي يزيده كشفا قوله في البيت التالي لما سبق:
إذا رملة لم تجئ بالنبات
فقد جهلت أن سقتها السواني
18
فلم يكن إلا جهلا أن يتزوج، وهو كالرملة التي لا تجيء بالنبات. ولعلك تجد شواهد في فن الرجل الصريح على هذا السر، وإن لم يذكر فيها لفظ السر، كأن تسمعه يقول ناظما:
وهممت أن تحظى ولكن طالما
خذلتك عن نيل المراد خواذل
2: 159
ويقول ناثرا:
19 «أحب الدنيا وآلتها ليست في، وقد يئست من بلوغها واليأس مريح فإلام التشوف إلى الضلال؟» فهل صدق أحد الناس حديث نفسه في حب الدنيا والتشوف إلى ضلالها كما صدق أبو العلاء الصريح؟ أحسبه بهذا الصدق نفسه قد صدقهم الحديث عن حظه من الغريزة حتى ما كانوا في حاجة بعدها إلى أن يرجموا بالغيب، ويذهبوا مع الفروض، ويتركوا مع ذلك كله حديث الرجل عن واقعه وتقديره الصحيح لصلة الجسم بالنفس، «وأن استقامة العالم لا تكون ولذة الدنيا منقطعة»، كما يقول هو:
أما إني من هذا الطريق النفسي الواقعي أطمئن إلى أن صاحبنا قد منعه من الزواج مانع مادي، وأنه أحصر عن الزواج إحصار المحرم بالحج عن أداء الشعائر، ولكني لا ألقى غيري بهذا، إلا على أنه فرض في فهم هذه القطع من الشعر، وهاتيك الإشارات البعيدة والقريبة من النثر، فرض أضعه بين يدي الدارسين، ولهم رأيهم في قبوله أو رفضه، رغم اطمئناني أنا إليه كما اطمأننت إلى رد صنيع أبي العلاء كله في الحياة إلى أسباب واقعية قضت بها حاله الجسمية، ونفس مقيدة بهذا الجسم، وهي فيه أسيرة وبه لا بغيره تصول.
على أني حين أترك للدارسين رفض هذا الفرض أو قبوله، يدفعني حظي من الاطمئنان له إلى أن أدعو الدارسين من النفسيين إلى تكملة إيضاح هذه الحال النفسية، وتبين سائر آثارها بعدما بدا فيها من أثر الآفة الظاهرة، ثم آفة الغريزة الخفية على البصراء، فإن هذه الأحوال من شخصية الرجل لتفتح آفاقا فسيحة من البحث النفسي، وتلقي على فنه أضواء لا بد منها لفهمه. بعدما رأينا منه المثل القوي الواضح لضرورة فهم الأدب ذلك الفهم النفسي.
وأخيرا في سبيل تحديد القول وضبط الفكرة، أجمل خطوات هذا الرأي فأبين في إيجاز أني:
قلت آنفا (1)
إن أبا العلاء قد استمر الحديث عنه يتجدد، وهو كقوله: خليق بأن يكرر ليفهم، فحاولت فهمه، على أن يكون عملي في ذلك مثلا من الفهم النفسي للأديب وأدبه، وتبعت في ذلك ما اشتهر على الأعصر، من نعته بالفلسفة، فالتمست رأيه في أصول التفلسف، ومسألة المعرفة، ثم في آراء الفيلسوف الثابتة التي أقام عليها مذهبه، فكانت النتيجة: (2)
أن أبا العلاء لم يترك في مسألة المعرفة، ومنهج التفكير شيئا لم يقله، كما لم يقف في ذلك عند رأي بعينه، بل ذكر من ذلك كل متقابل ومتخالف، فتركت مسألة المعرفة إلى آرائه ألتمس ما ثبت منها، واخترت ما يسمى بالفلسفة الإنسانية لبعدها عن الغموض والاضطراب، ولأنها ناحية تأثير الفلسفة على سلوك الفيلسوف، ولأن مفلسفيه يذكرون اهتمامه بشئون الحياة الإنسانية، فتبين من النظر في ذلك: (3)
أن أبا العلاء تتقابل آراؤه في كل شيء من الدين والدنيا، ومن شئون السلوك الإنساني كله حتى ليمكنك وضع ثبت من ذلك بمتقابلات معانيه، يساير فيه التيار الموجب تيار سالب. ومن هذا استطعت أن أقول: (4)
إن أبا العلاء من حيث المعرفة أو المذهب الفلسفي لم يعين شيئا تستند إليه فلسفة، ثم تبين إلى جانب ذلك أنه لم يترك التفلسف فقط، بل كانت له اتجاهات تخل بالمنهج الفلسفي إخلالا واضحا؛ فقد حدد مقدرة العقل، وقرر وجود الأسرار التي لا ترام، ونفى ثبات النواميس واطراد السنن الكونية، وترك الكون للمشيئة المطلقة، وليس كذلك يقول، حتى الدينيون المحدثون، كما بينت في نفي الفلسفة عنه والإخلال بمنهجها، نواحي أخرى متعددة.
وإلى هنا تعين ألا تفهم آثار أبي العلاء بمنطق الفلسفة المنظم للتفكير العقلي، وبقي أنه متفنن، أديب، لعله تبع منطق العاطفة، وهدى الوجدان، فوجب أن نفهمه فهما نفسيا تدل فيه حالة النفس على ما اتجه إليه إحساس الرجل، وما وجده من وقع الحياة على روحه لا على عقله، وفي معاناته المنطقية التفكيرية. ومن أصول هذا الفهم النفسي: (5)
أن أبا العلاء من حيث هو إنسان خاضع للنواميس النفسية العامة تترك حاله الجسمية فيه أثرها، أو آثارها النفسية، والرجل ذو آفة شديدة الوقع، فلا بد أنها تركت فيه أثرا في تناوله وتفننه وتصرفه. والناموس العام للناقصين والمحرومين هو: فعل مركب النقص أو عقدة العجز في نفوسهم، وأبو العلاء منهم، فلا أن يكون لهذا الناموس مظهره في حياته، وبالاستعانة بأقوال أبي العلاء نفسه وخواطره الخصبة الوافية والتي دونها، تبين: (6)
أن أبا العلاء قد كانت حياته استعلاء متصلا، وتعويضا متلاحقا؛ إذ مر بدورين واضحين في فهمه هو لنفسه، ووصفه لشئون حياته في آثاره التي بلغت حد الاعترافات الصريحة المفصلة الدقيقة الصادقة. وبملاحظة هذا الناموس يمكن تفسير وقائع حياة أبي العلاء، ويتجلى مراده مما يقول نثرا وشعرا. ومن كل أولئك يصدق حكمنا عليه بصحة فهمنا له، فعرضت لفهم أبي العلاء من قوله المتقابل وفعله المسير بالمؤثرات النفسية، فتبين من ذلك: (7)
أن أبا العلاء تقنع وصبر على رغبة في الحياة ملحة. فليس هو فيلسوفا متقشفا، ولا زاهدا قد غلب نفسه، بل هو محروم مترفع. (8)
أن أبا العلاء لم يستطع أن يعتزل الناس لبقية حبه الحياة، وعنائه بالحالة النفسية التي قاساها طول حياته بفعل الناموس النفسي. (9)
بقي النظر في موقفه أمام المرأة والنسل، وقد حق علينا فهمه كذلك فهما نفسيا بعدما تعين أن هذا هو طريق الفهم السليم، فتبين من النظر في فنه ذاته. (10)
أن أبا العلاء - فيما أرجح - قد منعه من الزواج والنسل مانع جنسي غير الفلسفة والزهد، ولهذا المانع أثره الخطير في نفسية الرجل، كما كان لآفته المادية أثرها، ودارسو النفس الإنسانية خلقاء بأن يزيدونا فهما لأثر هذا المانع في نفس الرجل. وبعدما تبين أنه ليس فيلسوفا ولا خاضعا للمنطق العقلي، وبعد الذي رأينا من معونته الصادقة القوية لنا على فهم نفسه من آثاره الصريحة الجريئة الصادقة؛ أدركنا في جلاء: (11)
أن أبا العلاء رجل وجدان، دقيق الحس، عميق الإدراك، صادق التعبير جدا، جريء التعرض للمعاني والخواطر، كاد يكون - أو قد كان فعلا - في الأدب العربي هو الرجل الذي وجد نفسه، وتحدث عن نفسه أدق حديث وأرهفه حسا، وأعمقه تأملا، لم يدع نفسه قيثارة لإطراب الآخرين، ولا قصبة تصفر فيها رياح أهوائهم، وأكاذيب مجدهم.
وإني بعد هذا الاتصال الطويل، والتفهم المتأني لأبي العلاء أقول:
سلام على أبي العلاء بين ذوي النفوس الصادقين.
سلام على أبي العلاء بين العظماء من المتفننين.
سلام على أبي العلاء بين الأدباء الخالدين. •••
وإذ انتهيت إلى مثل هذا من الرأي في أبي العلاء؛ فقد حق علي أن أقول لأصحاب الأدب وتاريخه: (1)
هذا أبو العلاء في الضوء النفسي، فأعيدوا النظر في كل ما قررتم عن تفلسفه، وتدينه، وزهده، وحياته ... إلخ. وأصدروا في ذلك كله أحكاما أصح وأدق وأصدق ... ثم أقول لهم: (2)
إن أبا العلاء بقوة نفسه قد قدم لنا فنا صادقا، أعطانا الفهم النفسي له مثلا واضحا لما تجديه الدراسة النفسية للأدب وتاريخه، من دقة وصحة في تذوق الأدب، وتفهم الحياة الفنية، بل الحياة الخاصة لأصحابه، وتأريخ ذلك كله تأريخا محققا، لا تقليد فيه، ولا تضطرب أحكامه باضطراب أهواء الناقلين، أو خطأ مناهجهم حين كان يعوزهم التحليل، وتخدعهم الظواهر . وبهذا المثل تبين لنا أنه ينبغي أن ندرس أدباءنا جميعا دراسة نفسية، وإن شق ذلك علينا، وخفيت معالم طريقنا إليه؛ لأننا بدون هذا الفهم النفسي، والتصحيح الضروري لمنهج درس الأدب لن نتذوق هذا الأدب، ولن يصح لنا حكم ناقد، ولن نكتب مع ذلك التاريخ الصحيح للأدب.
فاعملوا - يا قوم - جادين على رفع القواعد من المدرسة النفسية في درس الأدب وتاريخه، وإنكم إن شاء الله لعاملون.
أمين الخولي
صفحه نامشخص