ومن جملة ذلك أن الملك المظفر كان ولى نيابة السلطنة بالشام للأمير علم الدين الحلبي الصالحي النجمي - رحمه الله تعالى ! - فلما جرى للملك المظفر ما قدره الله، كتم الأمير علم الدين الصورة، ولم يعلمهم بأن الملك قد صار لمن هو به أحق، واستحاف الناس لنفسه، وتسمى بالملك المجاهد، وركب بشعار السلطنة، وبلغ السلطان ذلك فكتب اليه يقبح عليه هذا الأمر، فوردت أجوبته يغالط فيها، وسير اليه جمال الدين المحمدي يستميله، ويسترده عن تعاطي ما لا يتم له، وسير اليه صحبته مائة ألف وعشرين ألف درهم نقرة، وحو ائص، وخلعة، وملابس بألفي دينار عينة. ثم انه رأى اختلاف الناس عليه، فجلس مجلسا عاما، فيه الناس، وأشهدهم أنه قد نزل عن الأمر الذي كان أستحلف الناس عليه، وأنه من جملة النواب ؛ ثم رجع عن ذلك الرأي وركب بشعار السلطنة، على ما كان أولا، فخرج الأمير علاء الدين أيدكين البندقدار ' إلى ظاهر المدينة، ونادی باسم السلطان، وتبعه جماعة، وساق إلى جهة السواد، وسیر جماعة القتالهم، فانهزم أصحاب الحلبي، ثم رأى اتفاق الناس عليه فخرج من دمشق هاربة، وقصد قلعة بعلبك، وبلغ الخبر للأمير علاء الدين فساق إلى أن دخل دمشق، وحلف الناس للسلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس.
ولما بلغه أن الأمير علم الدين الحلبي في بعلبك، سير اليه من أحضره تحت الحوطة، وبلغ السلطان الخبر، فجدد المناشير للناس جميعهم، وقرر السلطان حديث الأموال والقلعة للأمير علاء الدين طيبرس الحاج الوزيري، وتقدم بحضور الأمير علم الدين الحلبي، [۱/ ب ) ولم يؤاخذ السلطان أحد بما جرى في الأيام الماضية، ولا عاتب كبيرة ولا صغيرة، وكاتب أمراء العربان، وطيب قلوبهم.
ورتب البريد في جميع الطرقات حتى صار الخبر يصل إلى دمشق في أربعة أيام، ويعود في أربعة أيام، ولا تبطيء أجوبة الكتب أكثر من كتابتها بدمشق ومصر. وهذه همة عالية، فإنه يرتب بذلك أمور الشام والقلاع، وأكثر ممالكه، في كل جمعة مرة أو مرتين، ويقطع ويقطع، ويولي ويعزل في جميع الشام وحلب، وهو في مصر ولا تخفى عليه أخبار الشام والساحل وحلب، وغير ذلك من بلاد الفرنجية. ولعل الملوك الذين مضوا كان أحدهم يقيم القاصد في بابه مدة لا يجد من يأخذ كتابه، وإذا أخذ، يقيم مدة حتى يكتب ومدة حتى يعلم عليه، ويسير ؛ وفي أثناء هذا تضيع مهمات. وإذا وردت الكتب على الملك الظاهر تقرأ عليه جميعها، ولو حسب ما أنفق في دولته على البريد کان خزانة ملك. وهذه أمنية كان الخلفاء تتمناها ؛ قال بعضهم : « تمنيت بريدة صادقة سريعة، لا يخفيني شيئا من المتجددات، ولا تنطوي عني حالة من الحالات ».
صفحه ۹۵