رسائل الجاحظ
رسائل الجاحظ: وهي رسائل منتقاة من كتب للجاحظ لم تنشر قبل الآن
ژانرها
أما بعد، فإني لم آلك في كتابي إليك ونفسي خيرا. إياك والاحتجاب دون الناس، وأذن للضعيف وأدنه حتى ينبسط لسانه ويجترئ قلبه، وتعهد الغريب فإنه إذا طال حبسه وضاق إذنه ترك حقه وضعف قلبه، وإنما أتوى حقه من حبسه. واحرص على الصلح بين الناس ما لم يستبن لك القضاء، وإذا حضر الخصمان بالبينة العادلة والأيمان القاطعة فأمض الحكم، والسلام. وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري: آس بين الناس في نظرك وحجابك وإذنك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك، واعلم أن أسعد الناس عند الله تعالى يوم القيامة من سعد به الناس، وأشقاهم من شقوا به.
وروى الهيثم بن عدي عن ابن عباس قال: قال لي عبيد الله بن أبي المخترق القيني: استعملني الحجاج على الفلوجة العليا، فقلت: أههنا دهقان يعاش بعقله ورأيه؟ فقيل لي: بلى، هنا جميل بن يصبهري. فقلت: علي به. فأتاني، فقلت: إن الحجاج استعملني على غير قرابة ولا دالة ولا وسيلة، فأشر علي! قال: لا يكون لك بواب حتى إذا تذكر الرجل من أهل عملك بابك لم يخف حجابك، وإذا حضرك شريف لم يتأخر عن لقائك، ولم يحكم مع شرفك حاجبك، وليطل جلوسك لأهل عملك تهبك عمالك، ويتقى مكانك، ولا يختلف لك حكم على شريف ولا وضيع. ليكن حكمك واحدا على الجميع يثق الناس بعقلك، ولا تقبل من أحد هدية؛ فإن صاحبها لا يرضى بأضعافها مع ما فيها من الشهرة!
من عهد إلى حاجبه : قال موسى الهادي لحاجبه: لا تحجب الناس عني فإن ذلك يزيل التزكية، ولا تلق إلي أمرا إذا كشفته وجدته باطلا؛ فإن ذلك يوقع (في) الهلكة. وقال بعض الخلفاء لحاجبه: إذا جلست فأذن للناس جميعا علي، وأبرز لهم وجهي وسكن عنهم الأحراس، واخفض الجناح، وأطل لهم بشرك، ولن لهم في المسألة والمنطق، وارفع لهم الحوائج، وسو بينهم في المراتب، وقدهم على الكفاية والغناء لا على الميل والهوى. وقال آخر لحاجبه: إنك عيني التي أنظر بها، وجنتي التي أستنيم إليها، وقد وليتك بابي فما تراك صانعا برعيتي؟ قال: أنظر إليهم بعينك، وأحملهم على قدر منازلهم عندك، وأضعهم لك في إبطائهم عن بابك ولزومهم خدمتك مواضع استحقاقهم في رتبهم حيث وضعهم ترتيبك، وأحسن إبلاغك عنهم وإبلاغهم عنك. قال: قد وفيت بما عليك قولا إن وفيت به فعلا، والله ولي كفايتك ومعونتك.
وعهد أمير إلى حاجبه فقال: إن أداء الأمانة في الأعراض أوجب منها في الأموال؛ وذلك أن الأموال وقاية للأعراض، وليست الأعراض بوقاية للأموال. وقد ائتمنتك على أعراض الغاشين لبابي، وإنما أعراضهم أقدارهم، فصنها لهم ووفرها عليهم، وصن بذلك عرضي. فلعمري إن صيانتك أعراضهم صيانة لعرضي ووقايتك أقدارهم وقاية لقدري؛ إذ كنت الحظي بزين إنصافهم إن أنصفوا، والمبتلى بشين ظلمهم إن ظلموا في غشيانهم بابي وحضورهم فنائي، أوف كل امرئ قدره ولا تجاوز به حده، وتوق الجور في ذلك التوقي كله، أقبل على من تحجب بإبداء البشر وحلاوة العذر وطلاقة الوجه ولين القول وإظهار الود، حتى يكون رضاه عنك لما يرى من بشاشتك به وطلاقتك له كرضا من تأذن له عنك لما يمنحه من التكريم ويحويه من التعظيم، فإن المنع عند الممنوع في لين المقالة يكاد يكون كالنيل عند العظماء في نفع المقالة. أنه إلي حاجات كل من يغشى بابي من وجيه وخامل وذي هيئة وأخي رثاثة فيما يحضرون له بابي ويتعلقون به من إتياني، فربما بز مثله بمخبره من يروق العيون بمنظره. إنك إن نقصت الكريم ما يستحقه من مال لا يغضب بعد أن تستوهبه منه، وإن نقصته من قدره أسخطته أشد الإسخاط؛ إذ كان يريد دنياه ليصون بها قدره ولا يريد قدره ليتقي به دنياه، لكنه لتحيف عرضه أشد توقيا منه لتحيف ماله. إن المحجوب وإن كان عدلنا في حجابه كعدلنا على المأذون له في إذنه يتداخله انكسار إذا حجب ورأى غيره قد أذن له، فاختصه لذلك من بشاشتك به وطلاقتك له ما يتحلل به عنه انكساره. فلعمري لو عرف أن صوابنا في حجابه كصوابنا في الإذن لمن أذنا له ما احتجنا إلى ما أوصيناك به من اختصاصه بالبشر دون المأذون له. إن اجتمع في داري الأعلون والأوسطون والأدنون فدعوت بواحد منهم دون من يعلوه في القدر لأمر لا بد من الدعاء به له، فأظهر العذر له في ذلك لئلا تخبث نفس من علاه، فإن الناس تتغالب لمثل ذلك عليهم سوء الظنون، والواجب على من ساسهم التوقي على نفسه من سوء ظنونهم وعليه تقويم نفوسهم؛ إذ هو كالرأس يألم لألم الأعضاء، وهم كالأعضاء يألمون لألم الرأس.
قال المدائني: قال زياد بن أبيه لحاجبه: يا عجلان، قد وليتك بابي وعزلتك عن أربعة: طارق ليل فشر ما جاء به أو خير، ورسول صاحب الثغر فإنه إن تأخر ساعة بطل به عمل سنة، وهذا المنادي بالصلاة، وصاحب الطعام فإن الطعام إذا ترك برد وإذا أعيد عليه التسخين فسد.
سبب الحجاب : الهيثم بن عدي قال: قال خالد بن عبد الله القسري لحاجبه: لا تحجبن عني أحدا إذا أخذت مجلسي؛ فإن الوالي لا يحتجب إلا عن ثلاث: إما رجل عي يكره أن يطلع على عيه، وإما رجل مشتمل على سوءة، أو رجل بخيل يكره أن يدخل عليه إنسان يسأله شيئا.
أنشدني محمود الوراق لنفسه في هذا المعنى:
إذا اعتصم الوالي بإغلاق بابه
ورد ذوي الحاجات دون حجابه
ظننت به إحدى ثلاث وربما
صفحه نامشخص