رسائل الجاحظ
رسائل الجاحظ: وهي رسائل منتقاة من كتب للجاحظ لم تنشر قبل الآن
ژانرها
والذين خالفوا في العرش إنما أرادوا نفي التشبيه فغلطوا، والذين أنكروا أمر الميزان إنما كرهوا أن تكون الأعمال أجساما وأجراما غلاظا. فإن كانوا قد أصابوا فلا سبيل عليهم، وإن كانوا قد أخطئوا فإن خطأهم لا يتجاوز بهم إلى الكفر، وقولهم وخلافهم بعد ظهور الحجة تشبيه للخالق بالمخلوق، فبين المذهبين أبين فرق. وقد قال صاحبكم للخليفة المعتصم يوم جمع الفقهاء والمتكلمين والقضاة والمحصلين إعذارا وإنذارا: امتحنتني وأنت تعرف المحنة وما فيها من الفتنة، ثم امتحنتني من بين جميع هذه الأمة؟ قال المعتصم: أخطأت، بل كذبت ...! وجدت الخليفة قبلي قد حبسك وقيدك، ولو لم يكن حبسك على تهمة لأمضى الحكم فيك، ولو لم يخفك على الإسلام ما عرض لك! فسؤالي إياك عن نفسك ليس من المحنة ولا من طريق الاعتساف ولا من طريق كشف العورة؛ إذ كانت حالك هذه الحال وسبيلك هذه السبيل. وقيل للمعتصم في ذلك المجلس: ألا تبعث إلى أصحابه حتى يشهدوا إقراره ويعاينوا انقطاعه فينقض ذلك استبصارهم فلا يمكنه جحد ما أقر به عندهم؟ فأبى أن يقبل ذلك وأنكره عليهم وقال: لا أريد أن أوتى بقوم إن اتهمتهم سرت فيهم بسيرتي فيه، وإن بان لي أمرهم أنفذت حكم الله فيهم، وهم ما لم أوت بهم كسائر الرعية وكغيرهم من عوام الأمة، وما شيء أحب إلي من الستر، ولا شيء أولى بي من الأناة والرفق. وما زال به رقيقا وعليه رقيقا. ويقول: لأن أستحييك بحق أحب إلي من أن أقتلك بحق. حتى رآه يعاند الحجة ويكذب صراحا عند الجواب، وكان آخر ما عاند فيه وأنكر الحق وهو يراه أن أحمد بن أبي دواد قال له: أليس لا شيء إلا قديم أو حديث؟ قال: نعم. قال: أوليس القرآن شيئا؟ قال: نعم. قال: أوليس لا قديم إلا الله؟ قال: نعم. قال: فالقرآن إذا حديث! قال: ليس أنا متكلم. وكذلك كان يصنع في جميع مسائله حين كان يجيبه في كل ما سأل عنه حتى إذا بلغ المخنق والموضع الذي إن قال فيه كلمة واحدة برئ منه أصحابه قال: ليس أنا متكلم. فلا هو قال في أول الأمر: لا علم لي بالكلام، ولا هو حين تكلم فبلغ موضع ظهور الحجة خضع للحق. فمقته الخليفة وقال عند ذلك: أف لهذا الجاهل مرة والمعاند مرة. وأما الموضع الذي فيه واجه الخليفة بالكذب والجماعة بالقحة وقلة الاكتراث وشدة التصميم فهو حين قال له أحمد بن أبي دواد: أتزعم أن الله تعالى رب القرآن؟ قال: لو سمعت أحدا يقول ذلك لقلت! قال: أفما سمعت ذلك قط من حالف ولا سائل ولا من قاص ولا في شعر ولا في حديث؟ قال: فعرف الخليفة كذبه عند المسألة كما عرف عناده عند الحجة. وأحمد بن أبي دواد - حفظك الله تعالى - أعلم بهذا الكلام وبغيره من أجناس العلم من أن يجعل هذا الاستفهام مسألة ويعتمد عليها في مثل تلك الجماعة، ولكنه أراد أن يكشف لهم جرأته على الكذب كما كشف لهم جرأته في المعاندة. فعند ذلك ضربه الخليفة. وأية حجة لكم في امتحاننا إياكم وفي إكفارنا لكم وزعم يومئذ أن حكم كلام الله تعالى كحكم علمه، فكما لا يجوز أن يكون علمه محدثا ومخلوقا فكذلك لا يجوز أن يكون كلامه مخلوقا ومحدثا، فقال له: أليس قد كان الله يقدر أن يبدل آية مكان آية وينسخ آية بآية وأن يذهب بهذا القرآن ويأتي بغيره، وكل ذلك في الكتاب مسطور؟ قال: نعم. قال: فهل كان يجوز هذا في العلم؟ وهل كان جائزا أن يبدل الله علمه ويذهب به ويأتي بغيره؟ قال: لا. وقال له: روينا في تثبيت ما نقول الآثار وتلونا عليك الآية من الكتاب وأريناك الشاهد من العقول التي بها لزم الناس الفرائض وبها يفصلون بين الحق والباطل! فعارضنا أنت الآن بواحدة من الثلاث! فلم يكن ذلك عنده ولا استخزى من الكذب في هذا المجلس؛ لأن عدة من حضره أكثر من أن يطمع أحد أن يكون الكذب يجوز عليه، وقد كان صاحبكم هذا يقول: لا تقية إلا في دار الشرك. فلو كان ما أقر به من خلق القرآن كان منه على وجه التقية فقد أعملها في دار الإسلام وقد أكذب نفسه، وإن كان ما أقر به على الصحة والحقيقة فلستم منه وليس منكم. على أنه لم ير سيفا مشهورا ولا ضرب ضربا كثيرا ولا ضرب إلا بثلاثين سوطا مقطوعة الثمار مشعبة الأطراف حتى أفصح بالإقرار مرارا، ولا كان في مجلس ضيق ولا كانت حاله حالة مؤيسة ولا كان مثقلا بالحديد ولا خلع قلبه بشدة الوعيد، ولقد كان ينازع بألين الكلام ويجيب بأغلظ الجواب، ويرزنون ويخف ويحلمون ويطيش. وعبتم علينا إكفارنا إياكم واحتجاجنا عليكم بالقرآن والحديث، وقلتم تكفرونا على إنكار شيء يحتمل التأويل ويثبت بالأحاديث؟ فقد ينبغي لكم ألا تحتجوا في شيء من القدر والتوحيد بشيء من القرآن والحديث، وألا تكفروا واحدا خالفكم في شيء وأنتم أسرع الناس إلى إكفارنا وإلى عداوتنا والنصب لنا.
فصل : وأصحابنا - حفظك الله - إذا قاسوا خطأهم ومروا على غلطهم فإنما ينقضون به شيئا من العرض والجوهر وشيئا من قولهم في المعلوم والمجهول فقط، وهم قوم يكفيهم من التنبه أقله، ومن القول أيسره. وخطأ النابتة وقول الرافضة تشبيه مصرح، وكفر مجلح. فليس هذا الجنس من ذلك الجنس، والحمد لله.
وأما إخبارهم عن عيبنا إياهم حين لم يقولوا لإن الله تبارك وتعالى رب القرآن، وفينا من لا يقول إن الله تعالى رب الكفر والإيمان، فإنا لم نسألهم عن ذلك من جهة ما يتوهمون، وإنما سألناهم عنه بجحدهم ما يرون بأبصارهم ويسمعون بآذانهم في الأشعار المعروفة، وفي الخطب المشهورة، وفي الابتهال عند الدعاء، وعلى ألسنة العوام، وعند العهود والأيمان، وعند تعظيم القرآن، وما يسمعون من السؤال في الطرقات، ومن القصاص في المساجد، لا يرون عائبا ولا يسمعون زاريا. وليس أنا جعلنا هذا مسألة على من أنكر خلق القرآن، ولكنا أردنا أن نبين للضعفاء معاندتهم وفرارهم من البهت ومكابرتهم إذ سمعوا أنهم لم يسمعوا الناس يقولون: ورب القرآن، ورب يس، ورب طه، وأشباه ذلك. ولعمري أن لو سمعوا الناس يقولون عند أيمانهم وابتهالهم إلى ربهم على غير قصد إلى خلاف ولا وفاق: ورب الزنا والسرقة، ورب الكفر والكذب. كما سمعوهم وهم يقولون: ورب القرآن، ورب يس، ورب طه. ثم ألزمناهم خلق القرآن بمثل ما لهم علينا في خلق الزنا. لقد كان ذلك معارضة صحيحة وموازنة معروفة. وأما قولهم: إن معنا العامة والعباد والفقهاء وأصحاب الحديث، وليس معهم إلا أصحاب الأهواء ومن يأخذ دينه من أول الرجال؟ فأي صاحب تقوى - يرحمك الله - أبعد من الجماعة من الرافضة؟ وهم في هذا المعنى أشقياؤهم وأولياؤهم؛ لأن ما خالفوهم فيه صغير في جنب ما وافقوهم عليه. والذين سموهم أصحاب أهوائهم المتكلمون والمصلحون والمستصلحون وأصحاب الحديث، والعوام هم الذين يقلدون ولا يحصلون ولا يتخيرون. والتقليد مرغوب عنه في حجة العقل، منهي عنه في القرآن، قد عكسوا الأمور كما ترى ونقضوا العادات، وذلك أنا لا نشك أن من نظر وبحث وقابل ووزن أحق بالتبين وأولى بالحجة. وأما قولهم منا النساك والعباد! فعباد الخوارج وحدهم أكثر عددا من عبادهم، على قلة عدد الخوارج في جنب عددهم. على أنهم أصحاب نية وأطعم طعمة وأبعد من التكسب وأصدق ورعا وأقل زيا وأدوم طريقة وأبذل للمهجة وأقل جمعا ومنعا وأظهر زهدا وجهدا. ولعل عبادة عمرو بن عبيد تفي بعبادة عامة عبادهم. وأما قولهم: إن للقرآن قلبا وسناما ولسانا وشفتين، وأنه يقدس ويشفع ويمحل. فإن هذا كله قد يجوز أن يكون مثلا ويجوز أن يجعله الله كذلك إذا كان جسما، والله على ذلك قادر وهو له غير معجز ومنه غير مستحيل، وكل فعل لا يكون عيبا ولا ظلما ولا بخلا ولا كذبا ولا خطأ في التدبير، فهو جائز والتعجب منه غير جائز.
فصل منه : وما أكثر من يجيب في المسائل ويؤلف الكتب على قدر ما يسنح له في وهمه وعلى قدر ما يتصور له في حاله تلك لا يعمل على أصله ولا يشعر بالذي انبنى عليه ذلك الأصل، وإن كان ممن يعمل على أصل، وإنما صار علماؤنا إلى ما صاروا إليه لأنهم لا يقفون من القول في خلق القرآن على جواب مهذب ومذهب مصفى، وعلى قول مفروغ منه وعلى جوابات بأعيانها، فقد رددوا فيها النظر وامتحنوها بأغلظ المحن وقلبوها وتبطنوا معانيها بأبلغ التفكير وتعرفوا كل ما فيها واعتصروا جميع قواها وسهلوا سبلها وذبوا العناد عنها احتقارا منهم لمن خالفهم واتكالا على طول السلامة منهم وثقة بطول الظفر بهم. ومن تمام أمر صاحب الحق ألا يتكل على عجز الخصم وألا يعجب بظهوره على من لا حظ له في العلم. وعلى العلماء أن يخافوا دول العلم كما يخاف الملوك دول الملك. وقد رأيت البكرية والجبرية والفضيلية والشمرية وإنهم لأحقر عند المعتزلة من جعل، وما زالوا يستقون من علمائهم ويستمدون من كبرائهم ويدرسون كتبهم ويأخذون ألفاظهم في جميع أمورهم حتى رأيت شيبهم ونابتيهم يدعون أنهم أكفاء ويجمع بينهم في البلاء، والنابتة اليوم في التشبيه به مع الرافضة وهم دائبون في التألم من المعتزلة، عددهم كثير ونصبهم شديد والعوام معهم والحشو يطيعهم، الآن معك أمران: السلطان وميلهم إليه، وخوفهم منه. والعاقبة للمتقين.
من كتاب الحجاب
قال أبو عثمان:
أطال الله بقاك، وجعلني من كل سوء فداك، وأسعدك بطاعته، وتولاك بكرامته، ووالى إليك مزيده.
اعلم أنه يقال - أكرمك الله - إن السعيد من وعظ بغيره، وإن الحكيم من أحكمته تجاربه. وقد قيل: كفاك أدبا لنفسك ما كرهت من غيرك. وقيل: كفاك من سوء الفعل سماعه. وقيل: إن من يقظة الفهم للواعظ ما يدعو النفس إلى الحذر من الخطأ والعقل إلى تصفيته من القذى. وكانت الملوك إذا أتت ما يجل عن المعاتبة عليه ضربت لها الأمثال وعرض لها بالحديث. وقال الشاعر:
العبد يقرع بالعصا
والحر تكفيه الملامة
صفحه نامشخص