رسائل الجاحظ
رسائل الجاحظ: وهي رسائل منتقاة من كتب للجاحظ لم تنشر قبل الآن
ژانرها
من الأعياص أو من آل حرب
أغر كغرة الفرس الجواد
سموا بذلك في حرب الفجار حين حفروا لأرجلهم الحفائر وثبتوا فيها وقالوا: نموت جميعا أو نظفر. وإنما سموا بالعنابس لأنها أسماء الأسود، وإنما سموا الأعياص لأنها أسماء الأصول. فالعنابس: حرب وأبو حرب، وسفيان وأبو سفيان، وعمرو. والأعياص: العيص وأبو العيص، والعاص وأبو العاص، وأبو عمرو. ولم يعقب من العنابس إلا حرب، وما عقب الأعياص إلا العيص؛ ولذلك كان معاوية يشكو القلة. قالوا: وليس لبني هاشم والمطلب مثل هذه القسمة، ولا مثل هذا اللقب المشهور.
قالت هاشم:
أما ما ذكرتم من الدهاء والنكر، فإن ذلك من أسماء فجار العقلاء، وليس من أسماء أهل الصواب في الرأي من العقلاء والأبرار. قد بلغ أبو بكر وعمر من التدبير وصواب الرأي والخبرة بالأمور العامة، وليس من أوصافهما ولا من أسمائهما أن يقال كانا داهيين ولا كانا مكيرين! وما عامل معاوية وعمرو بن العاص عليا قط بمعاملة إلا وكان علي أعلم بها منهما، ولكن الرجل الذي يحارب ولا يستعمل إلا ما يحل له أقل مذاهب في وجوه الحيل والتدبير من الرجل الذي يستعمل ما يحل وما لا يحل! وكذلك من حدث وأخبر، ألا ترى أن الكذاب ليس لكذبه غاية ولا لما يولد ويصنع نهاية؟ والصدوق إنما يحدث عن شيء معروف ومعنى محدود؟ ويدل على ما قلنا أنكم عددتم أربعة في الدهاء ليس واحد منهم عند المسلمين في طريق المتقين. ولو كان الدهاء مرتبة والمكر منزلة لكان تقدم هؤلاء الجميع السابقين الأولين عيبا شديدا في السابقين الأولين، ولو أن إنسانا أراد أن يمدح أبا بكر وعمر وعثمان وعليا ثم قال: الدهاة أربعة وعدهم، لكان قد قال قولا مرغوبا عنه؛ لأن الدهاء والمكر ليس من صفات الصالحين، وإن علموا من غامض الأمور ما يجهله جميع العقلاء! ألا ترى أنه قد يحسن أن يقال: كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أكرم الناس، وأحلم الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس. ولا يجوز أن يقال: كان أمكر الناس وأدهى الناس؟ وإن علمنا أن علمه قد أحاط بكل مكر وخديعة، وبكل أرب ومكيدة؟
وأما ما ذكرتم من جود سعيد بن العاص، وعبد الله بن عامر، فأين أنتم من جود عبد الله بن جعفر وعبيد الله بن العباس، والحسن بن علي؟ وأين أنتم من جود خلفاء بني العباس كمحمد المهدي، وهارون، ومحمد بن زبيدة، وعبد الله المأمون، بل لعل جود بعض صنائع هؤلاء كبني برمك أعظم من جود الرجلين اللذين ذكرتموهما، بل من جميع ما جاء به خلفاء بني أمية.
وأما ما ذكرتم من حلم معاوية، فلو شئنا أن نجعل جميع ساداتنا حلماء لكانوا محتملين لذلك، ولكن الوجه في هذا ألا يشتق للرجل اسم إلا من أشرف أعماله وأكرم أخلاقه، وإلا أن يبين بذلك عند أصحابه حتى يصير بذلك اسما يسمى به ويصير معروفا به، كما عرف الأحنف بالحلم، وكما عرف حاتم بالجود، وكذلك هرم قالوا: هرم الجواد! ولو قلتم كان أبو العاص بن أمية أحلم الناس لقلنا ولعله يكون قد كان حليما ولكن ليس كل حلم يكون صاحبه به مذكورا ومن أشكاله بائنا. وإنكم لتظلمون خصومكم في تسميتكم معاوية بالحلم، فكيف من دونه؟ لأن العرب تقول: أحلم الحلمين ألا يتعرض ثم يحلم. ولم يكن في الأرض رجل أكثر تعرضا من معاوية! والتعرض هو السفه. فإن ادعيتم أن الأخبار التي جاءت في تعرضه كلها باطل، إن لقائل أن يقول: وكل خبر رويتموه في حلمه باطل ! ولقد شهر الأحنف بالحلم، ولكنه تكلم بكلام كثير يجرح في الحلم ويثلم في العرض. ولا يستطيع أحد أن يحكي عن العباس بن عبد المطلب ولا عن الحسن بن علي بن أبي طالب لفظا فاحشا ولا كلمة ساقطة ولا حرفا واحدا مما يحكى عن الأحنف ومعاوية! وكان المأمون أحلم الناس، وكان عبد الله السفاح أحلم الناس. وبعد، فمن يستطيع أن يصف هاشما أو عبد المطلب بالحلم دون غيره من الأخلاق والأفعال حتى يسميه بذلك ويخصه به دون كل شيء فيه من الفضل؟ وكيف وأخلاقهما متساوية وكلها في الغاية؟ ولو أن رجلا كان أظهر الناس زهدا وأصدقهم للعدو لقاء وأصدق الناس لسانا وأجود الناس كفا وأفصحهم منطقا، وكان بكل ذلك مشهورا، لمنع بعض ذلك من بعض، ولما كان له إلا اسم السيد المقدم والكامل المعظم، ولم يكن الجود أغلب على اسمه، ولا البيان ولا النجدة.
وأما ما ذكرتم من الخطابة والفصاحة والسؤدد والعلم بالأدب والنسب، فقد علم الناس أن بني هاشم في الجملة أرق ألسنة من بني أمية. كان أبو طالب والزبير شاعرين، وكان أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب شاعرا. ولم يكن في أولاد أمية بن عبد شمس لصلبه شاعر، ولم يكن في أولاد أمية إلا أن تعدوا في الإسلام العرجى من ولد عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن الحكم، فنعد نحن الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب وعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر. وإن عددتم الخطابة والبيان والفصاحة لم تعدوا كعلي بن أبي طالب ولا كعبد الله بن العباس. ولنا من الخطباء: زيد بن علي بن الحسين، وعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر، وجعفر بن الحسين بن الحسن، وداود بن علي بن عبد الله بن العباس، وداود وسليمان ابنا جعفر بن سليمان. قالوا: كان جعفر بن الحسين بن الحسن ينازع زيد بن علي بن الحسين في الوصية، وكان الناس يجتمعون ليستمعوا محاورتهما، وكان سليمان بن جعفر بن سليمان بن علي والي مكة، فكان أهل مكة يقولون: لم يرد علينا أمير إلا وسليمان أبين منه قاعدا وأخطب منه قائما. وكان داود إذا خطب اسحنفر فلم يرده شيء. قالوا: ولنا عبد الملك بن صالح بن علي كان خطيبا بليغا، وسأله الرشيد - وسليمان بن أبي جعفر وعيسى بن جعفر حاضران - فقال له: كيف رأيت أرض كذا؟ قال: مسافي ريح ومنابت شيح. قال: فأرض كذا؟ قال: هضبات حمر وربوات عفر. حتى أتى على جميع ما سأله عنه، فقال عيسى لسليمان: والله ما ينبغي لنا أن نرضى لأنفسنا بالدون من الكلام.
صفحه نامشخص