والرجل الذي يجب أن أبدأ به هو الكونت فريولام المعروف في أوروبة باسم أسرته: بيكن، وقد كان ابنا لوزير العدل، وظل وزيرا زمنا طويلا في عهد الملك جيمس الأول، ومع ذلك فإنه وجد من الوقت ما يكون فيه فيلسوفا كبيرا ومؤرخا ماهرا وكاتبا رشيقا بين دسائس البلاط وأشاغيل منصبه التي تستلزم تفرغ رجل بكامله، وأدعى إلى العجب من ذلك كونه قد عاش في قرن لم يعرف فيه فن حسن الإنشاء ولا الفلسفة الجيدة، ولم يفلت من عادة الناس، فتراه قد قدر بعد مماته أكثر مما في حياته، ولا غرو، فأعداؤه كانوا في بلاط لندن، والمعجبون به كانوا في جميع أوروبة.
ولما أتى المركيز إفيات إلى إنكلترة بابنة هنري الأكبر، الأميرة ماري كيما تتزوج أمير ويلس زار ذلك الوزير بيكن الذي كان مريضا طريح الفراش في ذلك الحين فاستقبله مسدل الستائر، فقال له المركيز إفيات: «أنت تشابه الملائكة الذين يحدث عنهم دائما فيعتقد أنهم يعلون البشر، ولا يتاح للإنسان أن يقر عينا بمشاهدتهم.»
وأنت تعرف، يا سيدي، كيف اتهم بيكن بجرم غير خليق بفيلسوف مطلقا؛ أي إنه ارتشى، وأنت تعرف كيف حكم عليه من قبل مجلس اللوردات بغرامة تقرب من أربعمائة ألف فرنك من نقودنا، وبنزع منصبه وزيرا وقرنا.
واليوم يكرم الإنكليز ذكراه فلا يريدون الاعتراف بأنه كان مذنبا، وإذا ما سألتموني عما أفكر في الأمر، فإنني أستعمل للرد عليكم كلمة رويت لي عن اللورد بولنغبروك، وذلك أن الحديث دار في حضرته حول نجل دوك مارلبورو المتهم به، وتذكر له أمور يستشهد فيها باللورد بولنغبروك الذي كان عدوه الأزرق، فكان يمكن هذا اللورد أن يقول عنه ما يقتضيه الحال، فاسمع جوابه: «كان هذا الرجل من العظمة ما نسيت معه عيوبه.»
ولذا فإنني أقتصر على تحديثكم عن الأمر الذي استحق به الوزير بيكن إكرام أوروبة.
إن أروع كتبه وأصلحها هو أقل ما يطالعه الناس وأكثرها عدم فائدة، وأعني بذلك كتابه «أرغن العلوم الجديد»، فهذا الكتاب هو المحالة
1
التي بنيت بها الفلسفة الحديثة، فلما قام قسم من هذا البناء على الأقل عادت هذه المحالة لا تستعمل.
وكذلك كان الوزير بيكن لا يعرف الطبيعة، وإنما كان يعرف جميع الطرق المؤدية إليه ويدل عليها، وكان منذ البداءة يقابل بالازدراء ما تسميه الجامعات فلسفة، وكان يصنع كل ما يتوقف عليه ؛ وذلك لكيلا تداوم هذه الجمعيات التي قامت لإكمال العقل البشري على إفساده بماهياتها وفضائها وكنهياتها، وبجميع الكلمات الماجنة التي يوجب الجهل اعتبارها؛ فضلا عن أن مزجها بالدين مزجا مضحكا جعلها مقدسة تقريبا.
وبيكن أبو الفلسفة التجريبية، ومن الثابت أنه كشف من الأسرار قبله ما يثير العجب، فقد اخترعت البوصلة والمطبعة والتصوير القالبي والتصوير الزيتي والمرايا والنظارات وبارود المدافع، إلخ، وقد بحث عن عالم جديد فوجد وفتح، ومن ذا الذي يعتقد أن هذه الاكتشافات العظيمة من صنع الفلاسفة وأنها وقعت في زمن أكثر نورا من زماننا؟ لا أحد. وذلك أن هذه التحولات الكبيرة حدثت في أشد أدوار العالم بربرية والمصادفة هي أسفرت عن جميع هذه الاختراعات تقريبا، حتى إن من الجلي أن يكون لما يسمى مصادفة نصيب كبير في اكتشاف أمريكة، فمما اعتقد في كل وقت - على الأقل - كون كرستوف كولنبس لم يقم برحلته إلا اعتمادا على شهادة ربان سفينة كانت العاصفة قد ألقته في ربى جزائر كرايب.
صفحه نامشخص