والثانية شيء يوجد في التصور، ولا يمكن أن يوجد خلوًا منه، وهو التصديق إن ذلك المعنى مستند إلى مشار إليه، وإن ما له ماهية خارج الذهن بها وجوده وليس وجوده بما له في الذهن حتى يكون قوامه وإنما هو بالذهن فقط، وإن ذلك التأليف الذي له إنما استفاده من الذهن، والذهن سبب وجود ذلك التأليف فيكون سبب وجوده لا في ذاته، بل خارج ذاته وقد استقصى ذلك في مواضع آخر.
وكل متحرك فله محرك، والأمر إذا كان مزمعًا أن يكون يقينًا فيجب أن يكون قبل بالقوة يقينًا، فالبضرورة سيكون أمر يصيره شيئًا بالفعل، والاعتقاد بحال الذهن من حيث هو ذلك التصور موضوع، لأن التصور كما قلنا إنما هو يجري مجرى الهيولى، فإن كان إنما صيره في الذهن حال خارج عن التصور، كان ذلك سبب وجوده في الذهن فذلك مفارق لذاته، فقد يمكن أن يوجد من حيث هو ليس متصلًا بذلك السبب. وإذا ورد من تلك الجهة لم توجد له تلك الإضافة، فلم يكن يقينًا، وعاد الذهن إلى حالة الأولى. فلذلك كان من خاصة اليقين إلا يزول بعناد أصلًا.
وإذا صار في الذهن من حيث هو ما هو، وتحرك من القوة إلى الفعل بالقوة المستفادة، خرج من القوة إلى الفعل. وحال هذا من النفس يقال له يقين، فلذلك إما أن لا يعلم بسبب هو تصور، وذلك هو المعلوم بوسط. وإما أن يعلم بوسط هو سبب وجوده، وإذا علم على هذا الوجه كف التشوق لذلك السبب. فلذلك البرهان الذي هو حد بالقوة أكمل البراهين، والحد المؤلف أكمل الحدود، لأنه ليس يبقى بعده تشوق أصلًا. وبين أن أجزاء أمثال هذه البراهين، ينبغي أن تكون أجزاء الحدود. وظاهران في أجزاء الحدود ما يليق أن يكون نتيجة برهان، ومنها ما يليق أن يكون مبدأ برهان. وأيضًا فإن أجزاء الحدود يجب ن تكون أسبابًا وذاتية.
وظاهر أن القسمة لا تعطي ذلك بما هي قسمة، بل هذا شيء يجب أن يكون معلومًا عند القسمة، وهذا العلم هو المشتهر بالعرض لا بالذات. وكذلك يعرض مثله في طريق التركيب، فإن التركيب بما هو تركيب لا يلزمه ذلك. فإن القصد بذينك النظرين الحدود، فكيف يمكننا أن نستعمل الحدود فيهما، ولا طريق إلى الوقوف على أن المحمولات ذاتية إلا بالحدود.
فأما البرهان فإن ذلك من أجل ما به وجوده، ولا يلزم ذلك فيه طريق دور، فإن الموضوع فيه ليس المحدود بل هو جزء الحد، وليس في وضع علم حده مصادرة على المطلوب. فبين أن العلم بالبرهان إذا كان بهذه الصفة لم يفد أسباب الشيء، وظاهر أن نسبتها إليه هي الذاتية، غير أنه يفيدها وهي غير محمولة عليه، لأنه إنما أفادنا الأجزاء وهي بحال لا يمكن ن تحمل عليه. مثل أن يكون جزء البرهان جزءًا غير تام، فلذلك يبقى أن تصير تلك الأجزاء بحال تحمل عليه، ويركبها تركيب تقييد، فيصير ذلك البرهان الذي كان حدًا بالقول حدًا بالفعل.
فأما إذا كان المطلوب حده طرفًا أصغر في القياس، فإن الوسط إن كان غير سبب وللموضوع، لم يلزم ضرورة أن يكون ذلك سببًا للموضوع ولا ذاتيًا له، فكيف يمكن أن يكون منه حد، فيحتاج إلى سباره بأشياء آخر غير البرهان. وأن كان الوسط سببًا، وكان كالطرف الأعظم كليًا له، كان الطرف الأوسط جزء حد، وكان الطرف الأوسط الجزء الأول القريب منه، ومنه يأتلف الحد.
فقد ظهر مما قلناه نسبة البرهان إلى الحد، وما مقدار غنائه فيه. وأجزاء الحدود المؤلفة بالطريق الصناعي وغير المؤلفة، نسب أجزائها بعضها إلى بعض واحد بالنوع، فإن كان هناك جزء وهو بالذات مبدأ برهان، فهناك جزء يجري مجرى مبدأ برهان. وإن كان هنالك جزء هو نتيجة برهان، كان هناك جزء يجري مجراه، فتكون الحدود.
وإن كان هناك حدان، أحدهما متقدم للآخر، والمتقدم هو مبدأ برهان والمتأخر نتيجة برهان، ففي الحدود الأول ما هو كذلك. فتكون الحدود إما حدًا هو مبدأ برهان، أو حدًا يجري مجرى مبدأ برهان. ويكون حد هو نتيجة برهان، أو حد يجري مجرى نتيجة برهان. وكذلك تكون مؤلفة من أجزاء نسبها هذه النسب بعينها، فيكون الحد مؤلفًا من مبدأ أو ما يجر مجراه، أو نتيجة برهان أو ما يجري مجراها.
فهذه النسب هي لأجزاء الحد من حيث المحدود طبيعة قائمة. وأما النسب التي بها تكون أجزاء الحد فصولًا وأجناسًا، فإنما هي لها من حيث الموضوع للحد مضافًا إلى مقابله، ومن حيث هي شيء آخر غيره.
فلنقل في البراهين التي تنتج المتأخرة عن الموضوع.
1 / 9