وبهاتين الجهتين تخدم القوة المتخيلة القوة الناطقة بأن تحضر فيها خيالات الأشياء، إما خيالات أشخاص بأعيانها وإما صنمًا يحاكي المعنى الكلي على النحو الذي ذكرته، فنأخذ القوة الناطقة في المتخيلات صفات كلية. ومن رأى أعمال القوة الناطقة في المتخيلات التي في القوة المتخيلة، حسب ما ذكرته، رأى تحقيق ما ذكرته يقينًا لا شك فيه، ورأى بقوته الناطقة حين قاضت عليها الموهبة، تلك الموهبة، كما نرى بقوة العين ضوء الشمس بضوء الشمس. والسبب القريب في الشمس، نبصر بها ونرى مخلوقات الله تعالى حتى نكون ممن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والدار الآخرة إيمانًا يقينًا، فنكون من الذين "يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار". ولا فكرة إلا بتلك الموهبة، وتلك الموهبة هي اتصاله بالعقل الفعال.
ولنرجع فنقرر ما ذكرناه على جهة الارتياض ليتمكن ولا بد من مساق القول من قبل ما مد فأقول: يجب على الإنسان أولًا حتى يرى ببصيرة نفسه القوة المتخيلة كما يرى الأشخاص ببصره ويميزها حق التمييز، ثم ينظر إلى القوة المتخيلة من حيث تتكرر عليها أشخاص المخلوقات، وكثر من المتخيلات فيها ماله شخص واحد، وماله أشخاص كثيرة، وما يتعلق بالأشخاص من الأعراض من مقدار ولون وعلم وصحة ومرض وحركة وزمان ومكان وغير ذلك من أشخاص المقولات، فإذا فعل هذا رأى ببصيرة نفسه أن للقوة الناطقة نظرًا في المتخيلات تدرك بها ما تشترك به وما تتباين به المتخيلات الحاصلة عن أشخاص المخلوقات. والمعاني التي تشترك بها والتي تتباين بها هي الصفات والمحمولات والمعقولات التي تتميز بها وتوجد معلومة بها. وإذ ذاك فانظر كيف تكشفت هذه المعاني المدركة للقوة الناطقة بالموهبة الفائضة عليها كما تنكشف للبصر المبصرات بنور الشمس بعد أن كانت مغيبة، قبل أن يفيض على هذه نور الشمس وعلى تلك موهبة الله ﷿ التي بها نرى الكل وأجزائه، تحكم أن الكل أعظم من جزئه، وبها نرى الأعداد المأخوذة في معدودات مختلفة إذا قدرها الواحد و.. الأعداد المأخوذة في المعدودات المختلفة متصلة بعضها.. وإذ تكرر النظر في مخلوقات حتى يحضرها الإنسان في القوة المتخيلة، وفكر في مخلوقاته وفي خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار. والوحي والرؤيا وما تنطق به ألسنة الكهنة، تكشف القوة الناطقة. ببصيرتها، والتزمت التزاما ضروريا وجود موجودات لم تدرك بخيال ولا بحس، بل أدركتها القوة الناطقة علمًا محضًا مختصًا بها، أدركته فيها وبها، وحينئذ ترى الناطقة ببصيرتها المعلومات فيها وتنبو عن التخيل، وإذا ذاك يتسع نظرها، وتتشوق إلى معرفة أسباب المخلوقات التي عقلتها. فإنها لا ترى أنها علمت المعلومات على ما ينبغي حتى تعلمها بالأسباب الأربعة، فيما كانت له الأسباب الأربعة، أعني إلى معرفة صورة الشيء، وما توجد فيه الصورة من المواد ومن الموضوع، وفاعله، والغاية التي لأجلها وجد. فإن الإنسان بالطبع يتشوق إلى معرفة هذه الأسباب ويبحث عنها ويسأل حتى في الأمور المحسوسة عن الأسباب الجزئية. ومثال ذلك بين في كل مصنوع وفي كل طبيعي.
والإنسان في الأمور المعقولة أشد تشوقًا لمعرفة أسبابها لنه نظر أعلى وأرفع وأنفع، فإنه بطلب الأسباب يصل الإنسان إلى الإيمان بالله ﷿ وملائكته وكتبه ورسله وبالحياة الآخرة.
والتفاضل في موهبة الله التي بها تبصر القوة الناطقة متفاوت بحسب ما يعطيه الله أيضًا في أول خلقه الإنسان من الاستعداد لقبول الموهبة التي بها تبصر القوة الناطقة.
1 / 27